43/03/23
الموضوع : القطع/ حجية الدليل العقلي / توجيه كلام الأخباريين والجواب عنه
بعد أن فرغنا من عدم وجود ملازمة بين ما حكم به العقل وما حكم به الشرع ، دخلنا في بحث الملازمة على مستوى الثواب والعقاب ، وبعبارة أخرى إنَّ عدم وجود حكم شرعي في مورد حكم العقل بالقبح والحسن هل يُـؤَمِّن المكلف من ناحية العقاب على تقدير مخالفة الحكم العقلي؟
بناءً على الرأي المشهور والمعروف من أنَّ الحسن والقبح أمران واقعيان في الأفعال وأنَّ العقل يُدركهما بقطع النظر عن إتفاق العقلاء فالقبح صفة ثابتة في الظلم والحُسن صفة ثابتة في العدل ، لا إشكال في أنَّ إدراك العقل والعقلاء لهما وأنهما أمران واقعيان يعني إدراك الشارع لهما أيضاً ، ولا يمكن القول أنَّ الشارع لا يُدركهما بعد الإعتراف بثبوتهما واقعاً ، فالشارع يشترك مع العقلاء في إدراك هذين الأمرين الواقعيين ، فإذا ضممنا الى ذلك أنّ حُسن الشيء يعني إنبغاء فعله وأنَّ فاعله يستحق المدح ، وأنَّ قبح الشيء يعني إنبغاء تركه وأنَّ فاعله يستحق الذم ، فإذا قلنا أنَّ الشارع يُدرك حُسن الأفعال وقبحها كما أنَّ العقلاء يدركون ذلك كان معنى إدراكه حُسن الأفعال وقبحها هو أنَّ الشارع يرى أنَّ فاعل العدل يستحق المدح وفاعل الظلم يستحق الذم ، فإذا ضممنا الى ذلك المقدمة القائلة إن مدح الشارع ثوابه وذمه عقابه فنصل الى أنَّ فاعل الظلم يستحق العقاب من دون وجود حكم شرعي ، وهذا معنى الملازمة بين ما يدركه العقل وما يدرك الشارع على مستوى الثواب والعقاب وإن لم تكن هناك ملازمة على مستوى الحكم.
فلا مانع على الرأي المشهور من القول أنَّ المكلف لا يكون مأموناً بمجرد عدم وجود حكم شرعي في موارد حكم العقل العملي.
وأما على الرأي الآخر الذي إختاره المحقق الأصفهاني القائل بأنَّ الحُسن والقبح ليسا أمرين واقعيين ثابتين في الأفعال بقطع النظر عن إتفاق العقلاء ، بل حُسن الشيء أو قبحه ناشئ من إتفاق العقلاء على حُسنه وأنَّ فاعله يستحق المدح أو إتفاقهم على قبحه وأنَّ فاعله يستحق الذم ، وهي الآراء المحمودة ، فينبغي أن نختار القول الآخر في المسألة وهو أنه يوجد مُؤمِّن للمكلف إذا خالف حكم العقل ، وبعبارة أخرى لا يوجد ما يُنجّز العقاب على المكلف المخالف لحكم العقل بالقبح ، فإنَّ إستحقاق العقاب إما أن يكون لمخالفة تكليفٍ صدر من الشارع والمفروض عدمه ، وإما أنَّ الشارع يرى أنَّ فاعل الظلم يستحق الذم وذم الشارع عقابه فهو يستحق العقاب ولكنه لا يأتي على هذا القول لأنَّ الحسن هنا ناشئ من إتفاق العقلاء وأنَّ إتفاقهم على ذلك إنما هو لأجل تحقيق المصالح النوعية لهم ولحفظ نظامهم ، وقد تقدم أنَّ الشارع لا يدخل في هذه الدائرة وأنه ليس له مصالح تقتضي جعل هذه الأحكام فلا يتضرر بعدم تشريعها كما لا ينتفع بتشريعها ، وإن الضرر والمنفعة تعود الى نفس العقلاء ، فإذا حكم العقلاء بقبح الظلم إدراكاً منهم أنه يحفظ لهم نظامهم فلا يعني أنَّ الشارع يحكم بقبح الظلم أيضاً فيستحق فاعله الذم وذمه عقابه ، هذا لا يثبت بناءً على هذا الرأي.
• توجيه آخر لكلام الأخباريين:
وقد يوجه كلامهم الظاهر في عدم حجية القطع الحاصل من الأدلة العقلية بما تقدم نظيره في بحث القطع الحاصل من الأمور غير المتعارفة – أي قطع القطَّاع - فقد قال بعضهم أن هذا القطع ليس حجة ، وإعتُرض عليه أنه كيف لا يكون حجة بعد فرض حصوله.
وتقدم هناك التفريق بين الجعل والمجعول في مسألة أخذ القطع بالحكم في موضوع نفسه نحو (إذا قطعتَ بوجوب الصلاة يثبت عليك هذا الوجوب الذي قطعتَ به) وقد قيل أنه محال للزوم الدور ، ودُفع الإشكال بالتفريق بين الجعل والمجعول ، فلا إشكال في أخِذ القطع بوجوب الحج جعلاً في موضوع وجوب الحج في مرحلة الفعلية ، فالذي يقطع بالجعل يثبت عليه المجعول ويكون الحكم فعلياً في حقه ومن لا يقطع بالجعل لا يكون الحكم فعلياً في حقه.
ونظيره يقال هنا في الكلام مع الأخباريين فيوجَّه كلامهم بأنه المقصود ليس هو سلب الحجية عن القطع بعد حصوله من الأدلة العقلية وإنما مقصودهم هو أنَّ الحكم الشرعي في مرحلة المجعول له شرطٌ هو العلم بالحكم الشرعي عن طريق الأدلة النقلية ، فإذا عَلِم المكلف بالحكم من الأدلة العقلية فلا يكون فعلياً ، وبعبارة أخرى العلم بالحكم من الأدلة العقلية يكون مانعاً من فعلية الحكم الشرعي ، والنتيجة واحدة وهي أنَّ الحكم لا يثبت في حق العالم به من الأدلة العقلية ، وهذا توجيه صناعي لكلام الأخباريين.
ويرد عليه:
أولاً: بأنه قاصر إثباتاً ، فما هو الدليل على هذا التقييد المذكور ؟ فالشرطية أو المانعية المدعاة بحاجة الى دليل ، بل هذا خلاف إطلاق أدلة الأحكام الشرعية القاضي بثبوت الحكم بلا مانعية ولا شرطية.
نعم هناك نصوص كثيرة مثل (دين الله لا يُصاب بالعقول) وصحيحة أبان بن تغلب المعروفة ونحوها مما ذكره الشيخ في الرسائل لكنها أجنبية عن باب الإشتراط والتقييد المدعى في هذا التوجيه ، وإنما المستفاد من معظمها هو عدم إمكان الإعتماد على الأدلة العقلية الظنية التي يَعتمد عليها غيرنا ، فأصحاب مدرسة الرأي يعتمدون على ذلك بإختلاف المسميات عندهم ، فهذه الروايات في مقام النهي عن الإعتماد على الأدلة العقلية الظنية ومحل الكلام هو عن الأدلة العقلية القطعية.
وبعضها ناظر الى مسألة إشتراط الولاية في قبول الأعمال وإن لم تكن شرطاً في الصحة - بمعنى ما يوجب سقوط القضاء والإعادة - فهي أجنبية عن محل الكلام أيضاً ، فلا يوجد في الأدلة ما يدل على تقييد الأحكام الشرعية بعدم العلم بها من الأدلة العقلية أو أنها مقيدة بالعلم بها من الأدلة النقلية.
وثانياً: أنَّ هذا التقييد لا فائدة فيه لأنه لا ينفع في ردع القاطع بالحكم الشرعي من الدليل العقلي ، فبعد القطع بالحكم يجزم المكلف بثبوته في حقه ولا يمكن أن يُقال له أنه غير ثابت في حقك لأنها مقيدة بعدم العلم بها من الدليل العقلي.
وثالثاً: الكلام في الحكم الشرعي الثابت بالدليل العقلي وليس كلامنا في الحكم الشرعي المجعول إبتداءً من قَبل الشارع ، ومسألة تضييق الجعل وتقييده بالعلم به من الدليل النقلي أو بعدم العلم به من الدليل العقلي إنما يُتصور في الحكم الشرعي المجعول إبتداءً من قِبل الشارع وكلامنا ليس فيه ، وإنما الكلام في الحكم الشرعي الذي يقطع به المكلف من الدليل العقلي بحيث لا يملك مستنداً ودليلاً عليه سوى حكم العقل ، فهو يثبته إستناداً الى الدليل العقلي فقط ولا مجال فيه لطرح فكرة التضييق والتقييد ، ولا معنى للقول بأنَّ هذا الحكم الشرعي مقيدٌ بعدم العلم به من الدليل العقلي هذا خُلف ما فُرِض ، وهو محال ، وعليه لا يمكن قبول هذا التوجيه لكلام الأخباريين.
وقد يُقال: إنَّ الدليل العقلي وإن كان لا قصور فيه من ناحية الكشف ولا من ناحية الجعل إلا أنَّ الأدلة الشرعية نهت عن إتباعه.
فلابد من إستعراض هذه الأدلة التي قد يُتخيل أنها تنهى عن إتباع الأدلة العقلية.