43/03/20
الموضوع : القطع/ حجية الدليل العقلي / الجهة الثانية
كان الكلام في الملازمة بين ما حكم به العقل وما حكم به الشرع ، وهي تدخل في أحكام العقل النظري ، ولكن إستفادة الحكم الشرعي من حكم العقل العملي يتوقف على ضم هذه الملازمة في باب التحسين والتقبيح العقليين.
قلنا أنَّ هذه الملازمة لا معنى لها على رأي الأشاعرة ، كما أنه على رأي الفلاسفة قد يقال أنّ تطابق أراء العقلاء وإن كان لا يستلزم الحكم من الشارع بما هو شارع لكنه يستلزم حكمه بما هو عاقل ، وإذا وافقهم بما هو عاقل فحينئذٍ نصل الى نفس النتيجة فيما لو أثبتنا الحكم الصادر منه بما هو شارع من حيث الثواب والعقاب ، لأنَّ حُسن الفعل عند الشارع يعني مدحه لفاعله ومدح الشارع ثوابه ، وقبح الفعل عنده يعني ذمه لفاعله وذم الشارع عقابه ، وهي ذات النتيجة لو كان هناك حكم شرعي ثابت بهذه الملازمة ، وذكرنا ملاحظتين عليه.
وإنتهى الكلام الى رأي المشهور في التحسين والتقبيح العقليين وأنهما أمران واقعيان ثابتان بقطع النظر عن وجود شريعة أو شارع ، وبناءً عليه قد يقال بعدم الملازمة بين ما حكم به العقل وما حكم به الشارع ، فما يحكم العقل بقبحه لا يلازم حكم الشارع بحرمته وما حكم العقل بحسنه لا يلازم حكم الشارع بوجوبه.
والمقصود به أنَّ حكم العقل بالحسن والقبح لا يستلزم حكم الشارع على طبقه كما أنه لا ينافي أن يحكم الشارع على طبقه فهنا دعويان ، وهذا في قبال ما سيأتي من أنهم أبرزوا مانعاً من أن يحكم الشارع على طبق ما حكم به العقل ، والدعوى تقول لا مانع من أن يحكم الشارع على طبق ما حكم به العقل ، وليس بالضرورة أن كل ما حكم به العقل يحكم به الشارع.
أما بالنسبة الى الدعوى الأولى وهي أن حكم العقل بالحسن والقبح لا يستلزم حكم الشارع بالوجوب والحرمة فاستُدلّ له بأنّ نفس إدراك حُسن الفعل أو قبحه فيه إقتضاء التحرك لفعله أو تركه ، فإدراك قبح الظلم فيه إقتضاء التحرك لتركه واجتنابه ، وأما الشارع فتارة نفترض أن غرضه هو حفظ الفعل أو تركه بنفس المستوى من التحرك الذي يقتضيه الإدراك العقلي ، أي أنَّ الشارع لا يهتم بهذا الفعل إلا بمقدار ما يقتضيه إدراك العقل لحسنه أو لقبحه ، وأخرى لا يكتفي الشارع بالتحرك الذي يقتضيه الإدراك العقلي ويهتم بالفعل أو الترك بأكثر مما يقتضي الإدراك العقلي للحسن أو القبح.
فعلى الأول لا مجال لإفتراض أن الشارع يُعمِل مولويته ويجعل حكماً شرعياً على طبق الحكم العقلي بل يكتفي بما أدركه العقل من الحسن أو القبح ، فلا داعي لإنشاء الشارع حكماً شرعياً مولوياً صادراً من قِبله بوجوب ما أدرك العقل حُسنه أو بحرمة ما أدرك العقل قبحه ، فيكون جعل الشارع وإعمال مولويته لإيجاب ما أدرك العقل حسنه أو تحريم ما أدرك العقل قبحه بلا فائدة ولا داعي له أصلاً ، نعم بإمكان الشارع أن يُرشد الى حكم العقل ويؤكده لا أن يؤسس لحكم جديد كما في محل الكلام وإنما المانع هو من جعل الحكم المولوي التأسيسي على طبق الحكم العقلي.
وعلى الثاني فلا إشكال في أنَّ الشارع سوف يتصدى لإبراز شدة إهتمامه بالفعل وطريقة ذلك تكون بجعل حكم شرعي مولوي تأسيسي صادراً منه ، فإنه إذا صدر منه وجوب ما أدرك العقل حُسنه أو حرمة ما أدرك قبحه فيكون قد أبرز إهتمامه بهذا الفعل بأزيَد مما يقتضيه الإدراك العقلي للحسن والقبح ، وذلك لأنّ عدم الإبراز يعني عدم الإهتمام وهو خلف الفرض ، أي إهتمام الشارع إهتماماً زائداً على ما يقتضيه الإدراك العقلي فلابد من إبراز شدة الإهتمام عن طريق جعل حكم مولوي تأسيسي.
وتشخيص أنَّ هذا الفعل من قبيل القسم الأول أو الثاني غير مقدور لنا بقطع النظر عن الأدلة النقلية ، وهذا يعني عدم ثبوت الملازمة بين ما حكم به العقل وما حكم به الشرع ، فقد يقال بناءً على الرأي المشهور في مسألة التحسين والتقبيح العقليين أنّ حكم العقل لا يستلزم الحكم الشرعي ، هذه هي الدعوى الأولى.
وأما أنه لا مانع من أن يحكم الشارع على طبق ما حكم به العقل - من دون فرض الملازمة - فهنا يأتي إحتمال وجود مانع يمنع من أن يحكم الشارع بذلك ، بل قالوا بإستحالته للغوية الحكم الشرعي على هذا التقدير ، وذلك لأن الغرض منه إنما هو جعل الداعي للتحرك نحو الفعل أو الترك وهذا موجود في نفس الإدراك العقلي فإنه يخلق الداعي في نفس المكلف نحو الفعل أو الترك ومع وجود الداعي في رتبة سابقة فما هو غرض الشارع من جعل الحكم الشرعي على طبق الحكم العقلي! فيكون الحكم الشرعي لغواً وبلا فائدة.
وبعبارة أخرى إنّ الحكم العقلي بالحسن والقبح بقطع النظر عن وجود الحكم الشرعي إما أن يكون محركاً للعبد نحو الفعل أو الترك أو لا يكون كذلك ، فعلى الأول يكون جعل الحكم الشرعي لغواً لوجود الداعي بمقتضى الحكم العقلي ، وعلى الثاني فالحكم الشرعي لا يحركه أيضاً لأنه إنما يُحركه بتوسط الحكم العقلي بقبح المعصية ولزوم طاعة المولى فإذا كان الحكم العقلي لا يحرك العبد أصلاً فلا يحركه الحكم الشرعي ، وبهذا يثبت إستحالة جعل الحكم الشرعي على طبق الحكم العقلي.
وجوابه : سلَّمنا أنَّ الحكم العقلي يخلق الداعي عند المكلف ولكن إعمال المولى لمولويته وإيجابه لما أدرك العقل حُسنه ، وتحريمه لما أدرك العقل قبحه ، يوجب تحقق ملاكٍ ثانٍ في الفعل للتحرك ، فيكون هناك ملاكان للتحرك ملاك الحكم العقلي وإدراكه لحُسن الفعل أو قبحه وملاك إطاعة المولى ، فتكون للحكم الشرعي فائدة وهي إضافة ملاك آخر للتحرك ، وفرق بين تحرك المكلف من محرك واحد وبين أن يتحرك من محركين ، ويصدق على تحركه حينئذٍ أنه طاعة للمولى وتجنبُ معصيته فيخرج عن اللغوية والإستحالة ولا يوجد مانع من جعله.
نعم إستلزام الحكم العقلي للحكم الشرعي يأتي فيه الكلام المتقدم وخلاصته إنكار الملازمة بينهما بتقريب أنَّ إهتمام الشارع بالفعل الذي يحكم العقل بحسنه أو قبحه تارة يكون أزيد من الإهتمام الذي يقتضيه الإدراك العقلي وأخرى لا يكون له مثل ذلك الإهتمام وفي هذا يكتفي بما أدركه العقل ، وأما على الأول فلابد من إبراز إهتمامه عن طريق جعل الحكم الشرعي المولوي التأسيسي ، لكن تشخيصه لا يمكن من دون الإستعانة بالأدلة النقلية ويصعُب إدراك ذلك على العقل ، فلا توجد ملازمة بين ما يحكم به العقل وما يحكم به الشرع.
نعم يحكم الشارع في حالة واحدة وهي ما إذا كان إهتمامه بالفعل زائداً على ما يقتضيه الإدراك العقلي فلابد من أن يُبرز شدة إهتمامه عن طريق جعل حكم شرعي مولوي.
وبناءً على إنكار الملازمة على مستوى الحكم يأتي بحث آخر وهو هل هناك ملازمة على مستوى الثواب والعقاب أم لا توجد ملازمة أيضاً ؟
والمقصود به أنَّ حكم العقل العملي بقبح فعلٍ كالخيانة مثلاً فهو وإن كان لا يستلزم الحكم الشرعي بحرمتها لكن عدم حكم الشارع بالحرمة هل يجعل المكلف في أمِنٍ من ناحية العقاب فيما إذا إرتكب الخيانة أم لا ؟
فعلى ثبوت الملازمة بين الحكم العقلي والحكم الشرعي على مستوى الثواب والعقاب فلا يكون المكلف مأموناً ، وأما على عدم الملازمة بينهما وقد خالف المكلف حكم العقل بالقبح فيكون مأموناً من العقاب.