الأستاذ الشيخ هادي آل راضي

بحث الأصول

43/03/19

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع : القطع/ حجية الدليل العقلي / الجهة الثانية

كان الكلام في النقض الثاني على الأخباريين بناء على أنَّ مقصودهم هو عدم إمكان الإعتماد على حكم العقل العملي لإثبات الأحكام الشرعية لكثرة وقع الخطأ فيه بدليل الإختلاف الواقع في هذه الأحكام ، فبناء على هذا يُنقض عليهم بالنقض الأول المتقدم ، وبالنقض الثاني وهو إثبات صحة نبوة مدعي النبوة إذا جاء بالمعجزة ، فقال الناقضون لا يمكن إثبات صحة نبوة مدعي النبوة إلا إذا ضممنا الحكم العقلي القائل بقبح إجراء المعجزة على يد مدعي النبوة إذا كان كاذباً ، فإذا شككنا في أحكام العقل العملي وقلنا لا يمكن الإعتماد عليها فكيف يمكن أن نثبت صحة دعوى مدعي النبوة ؟

وجوابه إن توقف دلالة المعجزة على النبوة على هذا الحكم العقلي يلزم منه الدور بالبيان المتقدم ، فالصحيح هو أنّ المعجزة بنفسها تدل على النبوة من دون توقف على حكم العقل العملي.

وهذا أحد الوجوه لدفع هذا النقض ، وهناك وجه آخر لدفعه لا نتعرض لتفاصيله إختصاراً للمطالب ، ولكن نحيلكم الى ما ذكره السيد الشهيد قده في مباحثه فأنه أسهب في الوجه الثاني وذكر فيه وجوها لا بأس بالإطلاع إليها.

هذا كله في الجواب النقضي أما الجواب بالحل فلا نُسلِّم أنَّ هناك خلاف في أحكام العقل العملي ، إذ المقصود منها هو حكم العقل بحُسن العدل وقبح الظلم ، وهاتان القضيتان الرئيسيتان لا خلاف فيهما ، فلا يختلف إثنان من العقلاء من أي مجتمع كان في أنَّ العدل بعد فرض تحققه أمرٌ حسن وأنَّ الظلم بعد فرض تحققه أمرٌ قبيح ، فهذه القضية العقلية التي هي محل الكلام لا خلاف فيها أصلاً ، ولا يمكنهم القول أنّ أحكام العقل العملي هي مورد إختلاف ويكثر فيها الخطأ ، فالأحكام العقلية التي تتمثل في حُسن العدل وقبح الظلم لا خلاف فيها ولا نزاع منذ بدء الخليقة وحتى الآن.

نعم قد يحصل الخلاف في تطبيقات هذين الحكمين الكليين ، وهذا يحصل عادة في الأمور التي يوجد فيها إقتضاء الحُسن لكنه يُزاحَم بوجود شيء يقتضي القبح ، ففي هذه الموارد قد يحصل الخلاف ، وينشأ من الإختلاف في تقديم أي المقتضيين على الآخر ، مثلاً الكذب فيه إقتضاء القبح في نفسه ولكنه قد يُزاحم بوجود ما يقتضي حُسنه كما إذا ترتب عليه إنجاء مؤمن من الهلكة فيحصل تزاحم بين مقتضي القبح ومقتضي الحُسن ، فقد يقدم البعض مقتضي القبح على مقتضي الحسن وقد يُقدم العكس فيحصل الخلاف ، وأما أصل الحكمين الكليين فلا خلاف فيهما إطلاقاً ، فأين دعوى الخلاف في أحكام العقلي العملي؟

هذا هو الجواب الحَلِّي ، وعلى أي حال الظاهر حصول الإشتباه بين أصل حكم العقل العملي الذي ليس محل الخلاف وبين المسألة التزاحم بين مقتضيات الحُسن والقبح ، وحيث أنّ دليلهم على عدم الإعتماد على أحكام العقل العملي هو كثرة وقوع الخلاف في أحكامه فيبدو أنه ليس دليلاً تاماً لإثبات النتيجة التي يريدونها ، وما نعتمد عليه لإثبات الأحكام الشرعية هو أصل حكم العقل العملي الذي ليس مورداً للخطأ ، فيمكن الإعتماد عليه.

هذا الكلام كله في الجهة الأولى وهي في نسبة هذا القول الى علمائنا الأخباريين.

الجهة الثانية في حكم العقل النظري الذي لابد من ضَمِّه الى حكم العقل العملي للوصول الى النتيجة.

ذكرنا أنّ العقل إذا حكم بحسن شيء فلا ينفع ذلك بمفرده في الوصول الى الحكم الشرعي ما لم نضم إليه حكم العقل النظري بالملازمة بين ما يحكم به العقل وما يحكم به الشرع ، فالظلم حكمَ العقلُ بقبحه ، وما حكم به العقل حكم به الشرع ، فينتج الحكم الشرعي وهو حرمة الظلم شرعاً.

فإذن هناك حكم العقل النظري الذي لابد من ضمه الحكم حكم العقل العملي للوصول الى الحكم الشرعي ، وفي هذا المثال حكم العقل النظري هو الحكم بالملازمة بين ما يحكم به العقل وما يحكم به الشرع ، وهو من العقل النظري لأنه مما ينبغي أن يُعلم.

والجهة الثانية تتحدث عن حكم العقل النظري في خصوص مسألة حسن العدل وقبح الظلم ، فهل توجد ملازمة بين ما يحكم به العقل وما يحكم به الشرع أو لا توجد؟ وهذا بحث مهم جداً ، فإذا أنكرنا الملازمة فلا يكفي حكم العقل بالحُسن أو القبح للوصول الى الحكم الشرعي.

فعلى رأي الأشاعرة الذين يرون أنَّ الحسن ما حَسَّنه الشارع والقبيح ما قبحه الشارع ، ولا يوجد شيء حسن بقطع النظر عن تحسين الشارع له ولا يوجد شيء يتصف بالقبح بقطع النظر عن تقبيح الشارع له ، فهذه الملازمة لا معنى لها على رأيهم ، لأنَّ ما ذهبوا إليه معناه أننا نستكشف حُسن الشيء أو قبحه من الشارع ، بينما الملازمة تقول العكس أي نستفيد الحكم الشرعي من الحكم العقلي.

وأما على رأي الفلاسفة الذين ينكرون واقعية الحُسن والقبح في الأشياء ويُرجعونهما الى تطابق أراء العقلاء - وهو ما ذهب إليه المحقق الأصفهاني أيضاً - فهذا حسنٌ لا لواقعية في ذات الشيء وإنما لتطابق آراء العقلاء على حُسنه ، وهذا قبيحٌ لتطابق آراء العقلاء على قبحه ، وأما سبب تطابق آراء العقلاء فلأنهم يرون أنّه المناسب لنظام معاشهم وتنظيم أمورهم بحسب المصالح النوعية التي يدركونها ، فإذا طابقت آراؤهم على فعل شيء لأنه يوافق المصالح العامة للمجتمع فيكون هذا الفعل حسناً ، ولكن حُسنه ليس ذاتياً ولا واقعياً فيه ، وهذه القضايا التي تتطابق عليها آراء العقلاء تسمى الآراء المحمودة.

وبناءً على هذا الرأي قد يقال أنّ حكم العقلاء وتطابق آراؤهم على شيء لا يستلزم حكم الشارع بما هو شارع ولكنه يستلزم أن يكون هذا رأيه بما هو عاقل بإعتبار أنه سيد العقلاء ورئيسهم ، فإذا فرض تطابق آراء العقلاء على حُسن العدل وقبح الظلم فالشارع منهم ، فيثبت ما تطابقت عليه آراؤهم أنه كذلك لدى الشارع ولكن بما هو عاقل.

وهذا الحكم الصادر منه بما هو عاقل يُنتج نفس النتيجة التي يُنتجها حكمه بما هو شارع من حيث الثواب والعقاب ، فلو حكم بشيء بما هو شارع فيترتب عليه الثواب على الطاعة والعقاب على المعصية ، فكذلك يترتب على الحكم الصادر منه بما هو عاقل ، فنصل الى نفس النتيجة من دون أن نُثبت له حكم شرعي بما هو شارع ، وذلك بإعتبار أنّ المدح على فعل الأمر الحسن والذم على فعل الأمر القبيح إذا صدر من الشارع فليس له معنى إلا الثواب والعقاب ، فإنّ حُسن العدل عند العقلاء بمعنى ما يُمدح فاعله وقبح الظلم عندهم بمعنى ما يُذم فاعله وحكم الشارع بما هو عاقل كذلك ، ومدحه لفاعل العدل وذمه لفاعل الظلم يعني ثوابه وعقابه ، لأنَّ مدح الشارع ثوابه وذمه عقابه ، فيثبت أنَّ الحكم الصادر من الشارع بما هو عاقل يترتب عليه الثواب والعقاب.

فبناءً على رأي الفلاسفة قد يقال أننا وإن كنا لا نستطيع أن نُثبت حكماً للشارع صادراً منه بما هو شارع لكن بإمكاننا أن نُثبت حكماً صادراً منه بما هو عاقل ، وهذا يترتب عليه نفس ما يترتب على الحكم الصادر منه بما هو شارع من حيث الثواب والعقاب بالبيان المتقدم.

ويلاحظ عليه:

أولاً: إنَّ إنكار واقعية الحسن والقبح ليس صحيحاً ، والصحيح أنهما أمران واقعيان حقيقيان ثابتان للشيء في نفسه بقطع النظر عن تطابق آراء العقلاء أو عدم تطابقها ، بل بقطع النظر عن وجود عاقل وعقلاء ، فالعدل حَسنٌ والظلم قبيحٌ ، وحكم العقلاء بذلك لا يقصد به تشريعهم لهذا الحسن والقبح وإنما يراد به إدراك الحسن الموجود في العدل والقبح الموجود في الظلم فتتطابق آراؤهم على ذلك.

نعم لا ضير في القول بأنَّ هناك ملازمة بين الإدراكين إدراك العقلاء لقبح الظلم وإدراك الشارع بما هو عاقل لذلك ، ولكن لا تلازم بين حكم العقل بمعنى تطابق آراء العقلاء وبين حكم الشارع بما هو شارع ، وهذا جواب مبنائي.

ثانياً: لو تنزلنا وسلَّمنا بهذا المبنى لكن دعوى الملازمة بين ما تطابقت عليه آراء العقلاء وبين حكم الشرعي مرفوضة بإعتبار أنَّ الشارع لا يدخل في دائرة العقلاء عند حكمهم لما قلناه من أنَّ أحكام العقلاء - على فرض وجودها - إنما هي ناشئة من إدراكهم للمصالح والمفاسد النوعية لغرض حفظ نظامهم ومعاشهم ، والشارع لا يدخل في هذا النطاق فلا يتضرر بعدم تشريع مثل هذا الحكم ولا ينتفع بتشريعه ، وهذا يكون محصوراً بمن يتضرر بعدم تشريع الحكم أو ينتفع بتشريعه ، فلا معنى للقول بأنّ ما تطابقت عليه آراء العقلاء لحفظ نظامهم ومعاشهم لابد أن يوافقهم عليه.