43/03/18
الموضوع : القطع/ حجية الدليل العقلي/
كان الكلام في إعتراض الأخباريين على إستفادة الحكم الشرعي من أحكام العقل العملي - وهي مسألة التحسين والتقبيح العقليين - ، وقلنا أنه يبعد حمل كلامهم على سلب الحجية عن الحكم الشرعي الحاصل من الأدلة العقلية لأنّ حجية القطع ذاتية ولا يمكن سلبها عنه مهما كان سبب حصوله ، ولذلك اُحتمل أنّ مقصودهم هو منع حصول اليقين بالحكم الشرعي من الأدلة العقلية ، لأنَّ هذا الطريق يختلف بإختلاف المجتمعات والأزمنة والأشخاص ، فرُبَّ شيء يُعتبر حسناً عند قوم ولا يُعتبر كذلك عند آخرين ، وربما يعتبر قبيحاً عند قوم آخرين ، وهذا الإختلاف يمنع من الإستناد الى حكم العقل العملي لإثبات الحكم الشرعي ، ومن هنا لا يمكن الإعتماد على أحكام العقل العملي لإثبات الحكم الشرعي.
وإذا كان هذا هو مقصودهم وللعلة التي ذكروها فقد أجيب عنه بجوابين نقضاً وحلاً ، أما الجواب النقضي فبالنقض بأحكام العقلي العملي الواقعة في طول الأدلة الشرعية من قبيل الحكم بحسن الطاعة وقبح المعصية ، وحاصل النقض هو كيف يمكن إلزام المكلف بالطاعة وترك المعصية إذا لم نؤمن بأحكام العقل العملي مع عدم إمكان إلزامه إعتماداً على الأدلة النقلية وإلا يلزم التسلسل كما تقدم ، فلابد من الإعتماد على أحكام العقلي العملي بحسن الطاعة وقبح المعصية فيكون المكلف ملزماً بتحصيل الطاعة وترك المعصية ، ويقول النقض إذا شككنا في أحكام العقل العملي وإنكار واقعيتها وعدم الإعتماد عليها للاختلاف الواقع فيها فكيف نُلزِم المكلفين بإطاعة الأوامر الشرعية!
ويمكن للأخباريين الجواب عنه بأنَّ الـمُلزم للمكلف هو إحتمال العقاب وهو الذي يحركه نحو الطاعة وتجنب المعصية بلا حاجة الى حكم العقل العملي ، نعم يبقى السؤال أنّ هذا الإحتمال من أي شيء نشأ ؟
ويمكن للأخباري أن يقول إني وإن شككتُ بأحكام العقلي العملي من حُسن الطاعة وقبح المعصية ولكنها تبقى محتملة ، وهذا إحتمال موجود ولا يمكن إنكاره.
وبعبارة أخرى يقول إنا لا أحتمل العكس - أي قبح الطاعة وحُسن المعصية - وإحتمال حُسن طاعة التكاليف الشرعية وقبح معصيتها هو المنشأ لإحتمال العقاب على المخالفة بلا حاجة الى حكم العقلي العملي المتقدم ، وعليه فلا يرد عليهم هذا النقض.
بل يمكن للأخباري أن يقول إنّ المحرك هو القطع بالعقاب لا إحتماله لأنّ هناك روايات كثيرة تدل على إستحقاق العقاب على المخالفة والمعصية - وهي قطعية الصدور عنده - فتفيد القطع بمضمونها ، فالمكلف يقطع بالعقاب إذا خالف التكليف الشرعي ، وهذا القطع هو الذي يحركه نحو الإطاعة وتجنب المعصية بلا حاجة الى حكم العقل العملي.
ومن هنا يظهر أنَّ هذا النقض يمكن الجواب عنه ، هذا هو النقض الأول.
النقض الثاني على تشكيك الأخباريين في الإعتماد على حكم العقل العملي لإثبات الحكم الشرعي هو النقض بحكم العقل العملي في الرتبة السابقة على النصوص الشرعية ، وهو حكم العقل بقبح إجراء المعجز على يد مدعي النبوة الكاذب ، وهو من أحكام العقل العملي ، وإنما يقبح ذلك لأنه إضلال للناس وتغرير بهم ، ولثبوت هذا القبح يمكن إثبات صحة دعوى مدعي النبوة إذا جاء بالمعجزة وأنه نبيٌ حقاً ، لأنه لو كان كاذباً يكون إجراء المعجزة على يديه قبيحاً لا يمكن حصوله من الحكيم ولكان سبباً لإضلال الناس والتغرير بهم ولم يتمكنوا من التفرقة بين الصادق والكاذب ، والنقض يقول إذا كان البناء على إنكار أحكام العقل العملي والتشكيك بها فلا طريق لنا لإثبات صحة دعوى مدعي النبوة وإن جاء بالمعجز ، وإنما يتم ذلك إذا قبلنا حكم العقل العملي بقبح إجراء المعجز على يد الكاذب مع إتيان المدعي بالمعجزة ، هذا هو النقض الثاني عليهم.
والجواب عنه يكون بالمناقشة في أصل دعوى توقف دلالة المعجزة على النبوة على حكم العقل العملي المذكور ، بإعتبار أنّ المعجزة في حد نفسها لا تخلو من إحدى حالتين :
إما أن تكون فيها دلالة على النبوة بقطع النظر عن حكم العقل العملي لكونها خارقة للعادة ونحو ذلك ، وإما أن تتوقف دلالة المعجزة على النبوة على حكم العقل العملي المذكور ومن دونه لا تكون للمعجزة دلالة على صحة النبوة.
وعلى الأول يمكن الإستدلال على النبوة بلا حاجة الى ضم حكم العقل العملي بحسب الفرض ، فحتى لو أنكرنا أحكام العقل العملي أو شككنا فيها فيمكننا إثبات صحة النبوة بنفس المعجزة.
وعلى الثاني فسوف لا تكون المعجزة دالةً على صحة النبوة حتى بعد ضميمة حكم العقل العملي المذكور لأنّ حكمه شأنه شأن سائر الأحكام الأخرى من أنها لا تُثبت موضوعها وإنما على تقدير تحقق هذا الموضوع يترتب هذا الحكم ، فهذا الحكم يقول يقبح إجراء المعجزة على يد مدعي النبوة الكاذب ، وهذا حكم – أي القبح - موضوعه شخص يُظهر المعجزة وهو كاذب ، فيمنع حكم العقل العملي من إقراره والسكوت عنه ، ولكنّ هذا عندما يُفترض مجيء الكاذب بمعجزة وفيها دلالة على النبوة ، وهذا موضوع لابد من فرض تحققه قبل الحكم عليه بالقبح ، ولو لم تكن في المعجزة دلالة على النبوة لا يَرد هذا الحكم العقلي ويكون فعل المدعي كأي فعل آخر غير دال على النبوة ، فالجواب هو أنَّ المعجزة ليس لها دلالة على صدق النبوة حتى بضم هذا الحكم العقلي لأن الحكم العقلي لا يُثبِت موضوعه وإنما يُفترض فيه تحقق موضوعه في رتبة سابقة ، وموضوعه هو كون المعجزة فيها دلالة على النبوة.
وبعبارة أخرى لو أظهر المدعي معجزةً ليس فيها دلالة على النبوة فهل يحكم العقل بقبح السكوت عنه؟
الجواب: لا يحكم بذلك.
إذن إنما يحكم العقل بقبح السكوت عنه وإمضاءه عند الإتيان بفعل فيه الدلالة على النبوة ، وهذا يؤدي الى مشكلة الدور لأنه يعني أنّ حكم العقل العملي يتوقف على دلالة المعجزة على النبوة ، فإذا أردنا إثبات دلالة المعجزة على النبوة بالحكم العقلي لزم الدور ، والمراد هنا توقف الدلالة على ضم الحكم العقلي ، والحال أنّ الحكم العقلي يتوقف على الدلالة ، فيلزم الدور.
أما توقف الدلالة على ضم الحكم العقلي فلأنه هو المفروض في الفرض الثاني ، وأما توقف الحكم العقلي على الدلالة فلما تقدم من أنه لا معنى لفرض الحكم العقلي ما لم تكن المعجزة فيها دلالة على النبوة ، فمثلاً لو لم تكن في العصا قابلية أن تلقف ما صنعوا ورماها المدعي على الأرض فلا معنى للقول بأن العقل يحكم بقبح إجراء المعجزة على يد مدعي النبوة الكاذب ، لأنَّ السكوت عنه وإقراره ليس فيه إضلال للناس ولا التغرير بهم فلا يكون قبيحاً ، وإنما يكون فيها ذلك إذا كانت دالة على النبوة ، فالحكم العقلي يتوقف على الدلالة ، والدلالة تتوقف على الحكم العقلي بحسب الفرض ، وهذا محال ، فلابد أن نصير الى الفرض الأول وهو أنّ المعجزة في حد نفسها تدل على صحة النبوة ولا نحتاج الى ضم الحكم العقلي.