الأستاذ الشيخ هادي آل راضي

بحث الأصول

43/03/12

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع : القطع/ حجية الدليل العقلي/

كان الكلام في البحث الثاني وتقدم أنه نُسِب الى الأخباريين عدم حجية القطع بالحكم الشرعي إذا كان مستنداً الى الأدلة العقلية على غرار ما تقدم في قطع القطاع ، غاية الأمر أن القطع في القطاع كان مستنداً الى أسباب غير متعارفة وهنا القطع مستند الى الأدلة العقلية ، والكلام في هذه المسألة وقع في عدة جهات :

الجهة الأولى : في صحة نسبة هذا الكلام الأخباريين ، وهذا بحث إثباتي لابد من الإستناد فيه الى كلمات الأخباريين ، والشيخ الأنصاري قده ذكرها مفصلاً في الرسائل ، والعمدة هو كلام المحدث الأمين الإسترابادي ، ولعل الباقون تبعوه أو إستحسنوا رأيه ، فماذا نفهم من كلماته ، هل نفهم منها سلب الحجية عن القطع بالحكم الشرعي المستند الى الأدلة العقلية كما نُسِب إليهم ، أو أنَّ المستفاد منها هو منع الصغرى أي منع حصول القطع بالحكم الشرعي من الأدلة العقلية لا أنّ القطع بعد فرض حصوله ليس بحجة ، وفرق بين الأمرين ، فهذا إحتمال في كلامه.

الجهة الثانية : يقع الكلام فيها في نفس الكبرى أي في أنَّ القطع بالحكم الشرعي الحاصل من الدليل العقلي هل هو حجة أو ليس بحجة ، وهذا بحث ثبوتي لأنه يرجع في واقعه الى البحث عن إمكان المنع عن العمل بالقطع الحاصل من الدليل العقلي وعدم إمكانه فإذا كان حجة كالقطع الحاصل من الأدلة النقلية فلا يمكن المنع من العمل به ، وإذا لم يكن حجة أمكن المنع من العمل به ، فالبحث في الحقيقة عن إمكان المنع وعدم إمكانه ، فهو بحث ثبوتي.

الجهة الثالثة : يقع الكلام فيها عن الأدلة الشرعية التي ذكرها علماؤنا الأخباريون والتي يدعون دلالتها على عدم حجية القطع بالحكم الشرعي إذا كان حاصلاً من الأدلة العقلية ، وهذا بحث إثباتي في دلالة هذه الأدلة ، وإذا لم يكن فيها دلالة على ذلك فما هو المراد في هذه الأدلة الثابتة قطعاً.

أما الجهة الأولى فقد شكك صاحب الكفاية في صحة هذه النسبة وذكر أنّ المقصود في كلماتهم إما إنكار الملازمة بين الحكم العقلي والحكم الشرعي ، أي إنكار أنَّ ما يحكم به العقل يحكم الشرع ، وإما عدم جواز الإعتماد على المقدمات العقلية لأنها لا تُفيد إلا الظن ، أي إنكار حصول القطع بالحكم الشرعي من الدليل العقلي ، وهذا مرجعه الى إنكار الصغرى ، إذن على كِلا التقديرين ما نُسِب إليهم ليس هو مقصودهم.

فالمستفاد من كلماتهم إما إنكار الملازمة وإما إنكار الصغرى ولا يُستفاد منها سلب الحجية عن القطع بالحكم الشرعي الحاصل من الأدلة العقلية.

ولكن هذا الذي قاله صاحب الكفاية أو الوجوه الأخرى التي ذُكرت لابد من إستظهاره من نفس كلماتهم ، وأهم ما يمكن الرجوع له هو كلمات المحدث الأمين الإسترابادي ، ويحتمل يقصد شيئاً آخر غير الذي نُسِب إليهم وهو ما أشار إليه صاحب الكفاية في الوجه الثاني أي إنكار حصول القطع بالحكم الشرعي من الأدلة العقلية ، وأن غاية ما يحصل منها هو الظن ، ويشهد لهذا بعض فقرات كلامه المنقولة في الرسائل :

(وقد أثبتنا سابقا أنه لا اعتماد على الظن المتعلق بنفس أحكامه)

ويقول أيضاً :

(وأنت إذا تأملت في هذا الدليل علمت أنَّ مقتضاه أنه لا يجوز الإعتماد على الدليل الظني في احكامه تعالى)

ثم يقول :

(الأول في إبطال جواز التمسك بالاستنباطات الظنية في نفس أحكامه تعالى ووجوب التوقف عند فقد القطع بحكم الله أو بحكم ورد عنهم عليهم السلام).

وكلامه هذا في سياق الإستناد الى الدليل العقلي وإثبات أنَّ الأدلة العقلية لا تورث إلا الظن ، والظن لا يجوز الإستناد إليه في إثبات الأحكام الشرعية ، وإنما لابد من الإستناد الى القطع واليقين ، والأدلة العقلية لا تورث ذلك و غاية ما تورثه هو الظن ، فلا يبعد أن يكون المقصود من كلامه هو ما ذكره صاحب الكفاية.

وعلى تقدير ذلك ذكر السيد الخوئي قده أنه إذا كان مقصودهم المنع من العمل بالقطع بعد فرض حصوله من الأدلة العقلية فهو واضح المنع إذ لا يمكن سلب الحجية عن القطع بعد فرض حصوله ، وأما إذا كان مقصودهم هو إنكار حصول القطع بالحكم من الدليل العقلي فهو ليس صحيحاً على إطلاقه ، ففي بعض الأدلة العقلية يمكن فيها هذا المنع ويمثل لذلك بالموارد التي يُدرك فيها العقل الملاك أي وجود المصلحة أو المفسدة في الفعل ، والمفروض أننا نؤمن بتبعية الأحكام للمصالح والمفاسد ، فهل يكفي إدراك العقل للمصلحة أو المفسدة في الفعل في إستنباط الحكم الشرعي بإعتبار هذه التبعية وعليه لابد أن يكون الفعل محكوماً بالوجوب الشرعي تبعاً لإدراك المصلحة أو محكوماً بالحرمة إستناداً الى إدراك العقل وجود مفسدة في هذا الفعل ؟!

لا يمكن ذلك ، وهذا الكلام صحيح في هذا المورد ، والسبب واضح وهو قصور عقولنا عن إدراك الجهات الواقعية الموجودة في الفعل فلعل هناك مفسدة لا ندركها تكون مزاحمة للمصلحة التي ادركناها ، وهكذا إذا أدرك العقل وجود مفسدة في الفعل فلعل هناك ما يكون مانعاً من تأثير هذه المفسدة في الحكم الشرعي ، فلا يمكن الجزم بذلك ، ففي هذا الموارد يصح كلامهم ، وهذا كله على تقدير أن يكون هذا مقصودهم.

ولكن ليس الأمر كذلك دائماً ففي كثير من الأحيان لا يمكننا أن نمنع من حصول اليقين من بعض الأدلة العقلية ، ولا يمكن إنكار ذلك ، فما يدركه العقل من الأمور الثابتة بقطع النظر عن الشارع و الشريعة كإستحالة إجتماع النقيضين واستحالة إجتماع الضدين ، واستحالة الترتب عند من يقول بها أو إمكان الترتب ، ووجوب مقدمة الواجب ، وحرمة الضد إذا قلنا بأنَّ وجوب الشيء يقتضي النهي عن ضده ، هذه أحكام عقلية فعلى تقدير تمامية مقدماتها فهي توجب اليقين والقطع بالحكم الشرعي ، فإذا جاء دليل شرعي يقول تجب الصلاة وعلمنا بأنَّ الصلاة متوقفة على مقدمة والعقل يحكم بأنَّ مقدمة الواجب واجبة ، فهذا الحكم العقلي بضميمة الحكم الشرعي الدال على وجوب الصلاة ووضوح توقف الصلاة على هذه المقدمة نستنتج منه وجوب تلك المقدمة على نحو اليقين والجزم ، أو إذا وجوب شيء نستنتج حرمة ضده _ إذا تمت مقدمات مبحث الضد _ ، وكذا حكم العقل بإستحالة إجتماع النقيضين يلزمنا بنفي الحرمة إذا ثبت الوجوب بالدليل في مورد ما ، أو إذا إنتفى حكم فلابد أن يثبت الحكم النقيض له كحكم شرعي إستناداً الى حكم العقل بإستحالة إجتماع النقيضين واستحالة إرتفاعهما ، فليس كلامهم على إطلاقه صحيحاً إذا كان مقصودهم هو هذا.

وعلى كل حال ، يحتمل أن يكون مقصودهم هو أنّ الدليل العقلي قاصر عن إفادة اليقين والجزم بالحكم الشرعي ، قالوا إنما كان قاصراً لكثرة وقوع الخطأ والإشتباه في المقدمات العقلية ، وقد صرح الأمين الإسترابادي بهذا وعلل ذلك بأنَّ المقدمات العقلية أكثرها ليست حسية ولا قريبة من الحس فلذا يكثر وقوع الخطأ والإشتباه فيها ويكثر الإختلاف فيها ، وهذا إحتمال في دعوى الأخباريين.

قد يُنقض على هذه الدعوى بأنَّ حصول اليقين بالأحكام الشرعية إذا إنحصر بالأدلة النقلية فقط مع تعطيل الدليل العقلي عن كونه موجباً لتحصيل اليقين لكثرة وقوع الإشتباه والخطأ في المقدمات العقلية فكيف يمكن إثبات أصول الدين ووجود الصانع بالأدلة العقلية !

وجوابه أنهم لا ينكرون إفادة الدليل العقلي لليقين بالمرة ولا يظهر ذلك من كلماتهم ، وإنما مقصودهم خصوص الأدلة العقلية النظرية ، فهناك أدلة عقلية نظرية تجريدية وهي التي تستعمل في علم الكلام والفلسفة وأحياناً في علم الأصول فهذه هي التي يكثر فيها الخطأ والإشتباه فلا تكون موجبة لحصول اليقين ، ومن الواضح أننا في أصول الدين لا نحتاج الى مثل هذه الأدلة العقلية النظرية التجريدية ، فأصول الدين يُستدل عليها بأحكام العقل الواضحة كالبديهيات وما يَقرُب منها وهذه لا يُشكك حتى الأخباريين بأنها توجب حصول اليقين والقطع فلا يرد هذا كنقض عليهم.

وقد يورد عليهم النقض بأنه في مجال الاستنباطات الفقهية قد يُعتمد على بعض الأدلة العقلية فكيف تورث هذه الأدلة العقلية اليقين.

وجوابه واضح فإنّ معظم أدلة الأخباريين في الاستنباطات الشرعية هو الأدلة النقلية والظواهر والجمع بين الأدلة ونحو ذلك ، وهذه ليست أدلة عقلية ، وأما إعتمادهم على الأدلة العقلية التي نؤمن بها _ في نطاق ضيق ومحدود _ فغير واضح ، ولذا قال صاحب الكفاية بأنه يحتمل أن يكون قصدهم هو إنكار الملازمة بين ما يحكم العقل وبين ما يحكم به الشرع ، فلا يرد عليهم هذا النقض أيضاً.

وعلى كل حال يقع الكلام في دعوى عدم حصول اليقين والقطع بالأحكام الشرعية من الأدلة العقلية في مقامين:

الأول في مُدركات العقلي النظري والثاني في مدركات العقل العملي:

المقام الأول في مدركات العقل النظري :

والسؤال ما هو مقصود الأخباريين من إنكار حصول اليقين والقطع من مدركات العقل النظري ؟

تارة نفترض أنهم يقصدون باليقين اليقين بمعناه الأصولي ، وهو اليقين الذي يستبطن عدم التردد والشك ، وأخرى نفترض أنهم يقصدون اليقين بالمعنى المنطقي المذكور في باب البرهان والذي يستبطن إصابة الواقع والحقانية.

فإن كان المقصود هو الأول فهو واضح الدفع ، فما هو معنى أن الأدلة العقلية لا توجب اليقين بالمعنى الأصولي أي اليقين الذي لا تردد ولا شك فيه ، فإن هذه قضية تربط بالمكلف نفسه وليس للأخباري أن يقول انه لا يحصل له اليقين ، فالمكلف إذا كان مؤهلاً واستند الى أدلة واقتنع بها فيحصل له اليقين قهراً ، فصار متيقنا بالحكم الشرعي وغير متردد في هذا الحكم الذي إستند فيه الى الأدلة العقلية التي يؤمن بها ، وليس للأخباريين الحكم بحصول اليقين بالمعنى الأصولي أو بعدم حصوله.