الأستاذ الشيخ هادي آل راضي

بحث الأصول

43/03/11

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع : القطع/ الموافقة الإلتزامية /-

الموافقة الإلتزامية

الأحكام الشرعية إذا ثبتت إما بالقطع وإما بالدليل المعتبر فلا إشكال في وجوب العمل بها وهذه تسمى الموافقة العملية ، فهل تجب مضافاً الى ذلك الموافقة الإلتزامية ؟

الموافقة العملية تتمثل بالعمل الخارجي طبقاً للحكم الشرعي ، وهناك موافقة إلتزامية وهي تُعبِّر عن عقد القلب على إلتزام الحكم الشرعي ، وليس المقصود بها وجوب تصديق النبي صلى الله عليه وآله في ما جاء به المذكور في علم الكلام فذاك شيء آخر أوسع دائرة من الأحكام الشرعية إذ يجب تصديق النبي صلى الله عليه وآله في كل ما جاء به حتى في الموضوعات الخارجية لأنه تصديق بالنبوة وهو مطلوب من كل مسلم.

وأيضاً ليس المقصود بالموافقة الإلتزامية وجوب الإتيان بالعمل على وجهه ، أي الإتيان بالواجب مع قصد كونه واجباً ، فهذا على تقدير القول به مختصٌ بالعبادات إذ يقال يجب الإتيان بالعبادة لوجهها أي بقصد وجوبها ، والمقصود بالموافقة الإلتزامية هو الإلتزام القلبي الجوانحي بالحكم الشرعي والذي يُعبر عنه بـعقد القلب على الحكم ، فإذا قلنا بوجوب الموافقة الإلتزامية فيعني أنّ الواجب له موافقتان موافقة عملية _ لا إشكال في وجوبها _ وموافقة إلتزامية تتمثل بعقد القلب على ذلك الحكم.

والسؤال ما هي علاقة هذه المسألة بعلم الأصول ، فهي كمسألة وجوب الموافقة العملية الذي لا علاقة له بعلم الأصول ، فهل لوجوب الموافقة الإلتزامية صلة بعلم الأصول ؟

الظاهر إنّ الموافقة الإلتزامية _ إذا قلنا بها _ قد تمنع من جريان الأصول في أطراف العلم الإجمالي في الموارد التي يكون هناك مانع من الموافقة العملية ، ففي موارد العلم الإجمالي يُمنع من جريان الأصول المرخصة في إطراف العلم الإجمالي التنجيزي لأنها تؤدي الى الترخيص في المخالفة العملية للتكليف المعلوم بالإجمال ، فإذا عَلِم المكلف بوجوب إما القصر وإما التمام فلا يصح له إجراء الأصل لنفي وجوب القصر ونفي وجوب التمام ، لأنه يعني مخالفة التكليف المعلوم بالإجمال المردد بين القصر والتمام مخالفة عملية قطعية وهو غير جائز ، فلذا يمنع من جريان الأصول المؤمنة في أطراف العلم الإجمالي المنجِّز.

ولكن في بعض الموارد لا يلزم من إجراء الأصول في الأطراف الترخيص في المخالفة العملية كما في دوران الأمر بين المحذورين ، فإجراء الأصل في الأطراف _ لنفي الوجوب ونفي الحرمة _ لا يترتب عليه شيء لعدم التمكن من المخالفة العملية القطعية أساساً ، كما لا يمكن الموافقة العملية القطعية لأنّ الأمر دائر بين الفعل والترك فمع الفعل لا تتحقق المخالفة العملية القطعية ، ومع الترك كذلك ، والمكلف لا يخلو إما يفعل وإما يترك فعلى كل تقدير هناك موافقة إحتمالية ، إذن الموافقة العملية القطعية غير متيسرة في هذا المورد ، ولذا قالوا لا مانع من إجراء الأصول هنا لأنه لا يؤدي الى الترخيص في المخالفة العملية القطعية ، فلا مانع من إجراء الأصول من ناحية وجوب الموافقة العملية القطعية وحرمة المخالفة العملية القطعية ، وهنا يأتي هذا البحث فهل يجوز إجراء الأصول من ناحية المخالفة الإلتزامية أم لا ؟

فإذا أجرى المكلف الأصول من ناحية الوجوب ومن ناحية الحرمة فهذا يعني أنه سيخالف إلتزاماً قطعاً ، لأن الفعل لا يخلو إما أن يكون واجباً أو حراماً وهو لا يلتزم بالوجوب عملاً بالبراءة الجارية لنفي الوجوب ، ولا يلتزم بالتحريم عملاً بالبراءة الجارية لنفي التحريم ، فيكون إجراء الأصلين في هذه الموارد مؤدياً الى الترخيص في المخالفة الإلتزامية ، هذا هو ربط المسألة بعلم الأصول ، وأما أصل وجوب الموافقة الإلتزامية فلا علاقة له بعلم الأصول.

والكلام في أصل المسألة يقع في مقامين:

المقام الأول في أصل وجوب الموافقة الإلتزامية وما هو الدليل عليه.

المقام الثاني _على تقدير الوجوب _ هل تكون منافية لإجراء الأصول في أطراف العلم الإجمالي ، وكيف تتحقق المنافاة ؟

أما المقام الأول فقد ذهب صاحب الكفاية الى عدم وجوب الموافقة الإلتزامية في مقابل الموافقة العملية وإستدل عليه بالوجدان الحاكم في باب الطاعة ، فإن الوجدان لا يرى إستحقاق العبد للعقاب إذا وافق التكليف عملاً ولم يوافقه إلتزاماً ، وهذا أدل دليل على عدم وجوبها ، ولو كانت واجبة لكان العبد مستحقاً للعقاب كما يستحق العقاب إذا خالف عملاً.

وبناءً على هذا الرأي لا مانع من جريان الأصول العملية في إطراف العلم الإجمالي عندما لا تؤدي الى الترخيص في المخالفة العملية القطعية.

ونفس الكلام يقال في موارد أخرى كما إذا كانت الأصول الجارية في الأطراف مُنجِّزة وكان المعلوم بالإجمال هو الترخيص كما لو كان هناك إناءان نجسان سابقاً ثم علمنا بطهارة أحدهما المردد بين هذا وذاك ، فهنا علم إجمالي بطهارة أحد الإناءين النجسين سابقاً ، فالأصل الجاري في الإناءين هو إستصحاب النجاسة وهو ينافي العلم الإجمالي بطهارة أحد الإنائين ، قالوا لا مانع من إجراء هذين الأصلين في طرفي العلم الإجمالي لأنه لا يؤدي الى الترخيص في المخالفة العملية القطعية فإنَّ العلم الإجمالي هنا لا يولد تكليفاً أصلاً بل يولد الإباحة ، بخلاف العلم الإجمالي بأنّ أحدهما نجس أو ميتة أو خمر مما يولد تكليفاً ، فإجراء الأصلين في المقام لا يؤدي الى المخالفة القطعية غاية الأمر أنه يمنع من إستعمال كلا الإنائين ، وأحدهما طاهر يجوز إستعماله ، فبناءً على هذا الرأي لا مانع من جريان الأصول في الأطراف وإن أدى الى الترخيص في المخالفة الإلتزامية إذ لا تجب الموافقة الإلتزامية أساساً.

والظاهر أنَّ ما ذكره صاحب الكفاية هو المعروف المشهور فيما بينهم ، بل الظاهر أنه موضع إتفاق علماءنا ، والسر فيه أنه لا دليل على وجوب الموافقة الإلتزامية إن لم نقل بقيام الدليل على عدم وجوبها ، وذلك لأنَّ نفس التكليف لا يقتضي إلا الموافقة العملية لأنه بعثٌ وحثٌ على الموافقة العملية ولا يفهم منه وجوب الموافقة الإلتزامية ، كما أن لا يوجد دليل خارج التكليف يدل على وجوبها ، خصوصاً بعد الإشارة الى الفرق بين وجوب الموافقة الإلتزامية و وجوب تصديق النبي صلى الله عليه وآله في ما جاء به ، فالثاني واجب بلا كلام لما تقدم ، وأما الموافقة الإلتزامية المعبر عنها بعقد القلب على الحكم الشرعي الثابت فهي شيء آخر لا دليل على وجوبه لا من التكليف نفسه لا من خارج التكليف ، فالظاهر أنَّ هذا هو الصحيح.

وبناءً على هذا لا داعي للبحث في المقام الثاني لأنه متفرع على القول بوجوب الموافقة الإلتزامية وهل تمنع من جريان الأصول في الأطراف أو لا ، لوضوح جواز إجراء الأصول في أطراف العلم الإجمالي وإن إستلزم ذلك الترخيص في المخالفة الإلتزامية.

قطع القَطَّاع أو حجية الدليل العقلي

المراد بقطع القطَّاع هو القطع الحاصل عند الإنسان بالإعتماد على أمورٍ غير متعارفة لا توجب حصول القطع للإنسان السَّوي ، والبحث يقع في إمكان النهي والمنع من العمل بهذا القطع ، وبعبارة أخرى هل يمكن سلب الحجية عن القطع المستند الى أمور غير متعارفة أو لا ؟

ويمكن أن يدخل في هذا البحث النقاش مع الأخباريين بأن يقال : القطع بالحكم الشرعي الحاصل من الدليل العقلي هل يمكن سلب الحجية عنه ومنع المكلف الذي حصل له القطع بالحكم الشرعي من الدليل العقلي من العمل بقطعه ، فهذا أيضاً منع من العمل بالقطع الحاصل من السبب الخاص أي من الأدلة العقلية.

وبشكل عام من المسلَّم عندهم أنه لا يمكن المنع من العمل بالقطع بعد حصوله وسلب الحجية عنه ، لكن هناك كلام في القطع الحاصل من سبب خاص كالقطَّاع ، والقطع الحاصل من الدليل العقلي ، فهل يمكن سلب الحجية عنه ومنع المكلف من العمل به أو لا ؟

أما بحث قطع القطَّاع فلم يفصلوا فيه في كتبهم الأصولية ، والظاهر أنَّ أول من أثاره هو الشيخ كاشف الغطاء في عبارته الشهيرة التي مفادها أنَّ قطع القطاع ليس حجة فصارت مثاراً لهذا البحث فإنّ حجية القطع ذاتية ولا يمكن التفكيك بين القطع وبين الحجية ، بل إعتبر بعضهم أنّ الحجية كالكاشفية للقطع فكما لا يمكن سلب الكاشفية عن القطع فكذلك لا يمكن سلب الحجية عنه.

قالوا هذا الكلام غير صحيح لأن القطع كما تقدم حجيته ذاتية لا يمكن سلبها عنه من دون فرق بين الأسباب الموجبة لحصول القطع ، فلا يمكن أن نقول للقاطع بعد حصول القطع له أنّ قطعكَ ليس حجة ، ولا فرق بين القطع الحاصل من الأسباب المتعارفة والقطع الحاصل من أسباب غير متعارفة ، فكل منهما قطع بالحكم الشرعي ولا يمكن سلب الحجية عنه بعد حصوله ، هذا في القطع الطريقي.

وأما القطع الموضوعي فيلحظ فيه الدليل ، فإذا ورد مثلاً (إذا قطعتَ بوجوب الصلاة فتصدق) فالقطع هنا موضوعي بالنسبة الى وجوب التصدق ، والقطع هنا بحسب ما يفهم من الدليل هل هو خصوص القطع الحاصل من الأسباب المتعارفة أم مطلقاً في ترتب هذا الأثر ، ومقتضى إطلاق الدليل هو ترتب وجوب التصدق على القطع الحاصل من أي سبب كان ، إلا أنَّهم قالوا أنَّ هذا الإطلاق يمنعه الإنصراف الى القطع الحاصل من الأسباب المتعارفة فلا يشمل قطع القطَّاع.

لكن دعوى الإنصراف لا أثر لها بالنسبة الى نفس القاطع لأنه لا يلتفت عادة الى مناشئ قطعه ، نعم إذا إلتفت الى ذلك فهذا الدليل لا يشمله وأما إذا لم يلتفت فهذا الدليل يشمله ، فالانصراف إنما يكون له فائدة إذا كان القاطع ملتفتاً الى أنّ قطعه حاصل من أسباب غير متعارفة وإن وجوب التصدق يترتب على القطع الحاصل من أسباب متعارفة.

وظاهر كلامهم في القطع الطريقي _ في أنه لا يمكن سلب الحجية عنه _ قياس حجية القطع على كاشفيته وطريقيته ، إذا لا إشكال عندهم في أنَّ كاشفية القطع ذاتية ومن لوازم القطع ، بل هي القطع ، فلذا لا يمكن التفكيك بين القطع وبين الكاشفية والطريقية.

وأما الحجية فالظاهر أنها شيء آخر بخلاف ما بَنوا عليه فإنها تثبت بحكم العقل ، فهي حكمٌ عقلي بمعنى أنّ المكلف إذا قطع بالتكليف فالعقل يحكم بكونه مُنَجَّزاً عليه وإذا قطع بعدم التكليف حكم العقل بكونه عُذراً له أمام المولى ، فالتنجيز في حالات القطع بالتكليف والتعذير في حالات القطع بعدمه من الأحكام العقلية ، ومن هنا يمكن أن يطرح هذا السؤال:

هل يمكن أن يحكم العقل بعدم المعذرية _ أي عدم الحجية في جانب التعذير _ فيما إذا قطع المكلف بعدم التكليف من أسباب غير متعارفة أم لا ؟