الأستاذ الشيخ هادي آل راضي

بحث الأصول

43/03/10

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع : القطع/ القطع الموضوعي / فرع في تقسيمات الظن

قلنا بأنّ السيد الخوئي قده يبني على إستحالة تقييد الحكم بالعلم به ، وأنه عالج الروايات الخاصة بالمسافر الجاهل بأنَّ حكمه التخيير وأنّها تنطلق من ذلك وتقول (لا إعادة عليه) لأنه جاء بأحد فردي الواجب.

وأما الصحيح فهو إمكان تقييد موضوع الحكم بالعلم به ولا مانع من الأخذ بظاهر هذه الروايات ، وهذا كله مبني على بحث فقهي وهو ما هو الظاهر من الروايات الخاصة ؟

فهل هي ظاهرة في تقييد الحكم بالعلم به أي هل هي ظاهرة في إختصاص الحكم بوجوب القصر بالعالم به أم لا ؟

والذي نقوله _ على تقدير ظهور الروايات في إختصاص الحكم بالعالم _ هو لا مانع من الأخذ بهذا الظهور لأننا لا نرى إستحالةً في تقييد الحكم بالعالم به وإختصاصه بالعالم ، وهذا بحث فقهي وليس أصولياً.

ولعل السيد الخوئي قده يرى أنَّ الروايات ظاهرة في تقييد الحكم بالعلم به ، ولكن لا يمكنه قبوله لأنه يرى الإستحالة فلذا أوّله بما ذكرناه نقلا عنه.

وقد يقال أنَّ السيد الخوئي قده وقع بما فرَّ منه فإنه يقول إنّ المسافر الجاهل بوجوب القصر حكمه التخيير والعالم حكمه القصر ، فاختصَّ وجوب القصر بالعالم ، فيعود الإشكال ، لأنَّ إختصاص الحكم بالعالم يعني تقييد الحكم بالعلم به ، مع أنّ السيد الخوئي يراه مستحيلاً !

والجواب عنه أنه لا يرى إختصاص وجوب القصر بالعالم به بل الحكم يشمل العالم والجاهل غاية الأمر أنَّ تَعيُّن القصر على العالم مشروط بالعلم بالحكم ، وفرق بين إختصاص وجوب القصر بالعالم وهو ما يلزم منه الإشكال وبين أن يكون تَعيُّن وجوب القصر على العالم مشروطاً بالعلم ، بمعنى أنك إذا كنتَ عالماً بالجعل يتعيَّن عليك القصر ولا تكون مخيراً بينه وبين التمام ، فتعين القصر مشروط بالعلم وليس أصل الحكم بوجوب القصر مشروطاً به ، ومن الواضح أنَّ إشكال الدور ونحوه إنما يلزم إذا قلنا بأنَّ الحكم بوجوب القصر مشروط بالعلم به ، وأما إذا قلنا أنَّ تعين القصر مشروط بالعلم بالحكم فلا يلزم الدور ، فتعين القصر موقوف على العلم والعلم موقوف على الجعل ، نعم إذا قلنا أنَّ الحكم بوجوب القصر مشروط بالعلم به يأتي إشكال الدور ، ويأتي جوابه أيضاً.

والحاصل إنَّ الإشكال يرد عند إفتراض إشتراط الحكم بالعلم به وأما إذا كان تعيُّن القصر مشروطاً بالعلم بالحكم فلا يلزم منه أي إشكال ، فيبقى الحكم مشتركاً بين العالم والجاهل ، غاية الأمر أنّ الجاهل يجب عليه تخييرا والعالم يجب عليه تعييناً ، لأنّ أدلة وجوب القصر ظاهرة في الوجوب التعييني وهي مطلقة تشمل العالم والجاهل مع وجود أدلة مختصة بالجاهل تقول يكفيه ما جاء به إذا صلى تماما في موضوع القصر ، فاستفاد من هذه الأدلة تخيير الجاهل بين القصر والتمام ، فيثبت التخيير للجاهل فقط ، هذا ما يرتبط بتوضيح ما ذهب إليه السيد الخوئي قده.

كان الكلام في تقسيمات الظن وذكروا أنَّ نفس التقسيمات التي تجري في القطع تجري في الظن ، فقد يكون الظن موضوعياً بمعنى أنه يؤخذ في موضوع حكمٍ شرعي ، والكلام يقع فيما إذا كان الظن بحكم شرعي أُخِذ في موضوع حكمٍ شرعي آخر ، فهناك حكمان أحدهما يتعلق به الظن وآخر يترتب على الظن بالحكم الأول ، وهذان الحكمان إما أن يكونا متخالفين أو متضادين أو متماثلين أو متحدين .

والكلام في الثاني وهو ما إذا كانا متضادين نحو (إذا ظننتَ بوجوب الصلاة تحرم عليك الصلاة) فالحكم بوجوب الصلاة متعلق الظن ، وحرمة الصلاة هو الحكم المترتب على الظن بالحكم الأول.

قالوا هذا محال إذا كان الظن ظناً معتبراً لأنه يؤدي الى ثبوت وجوب الصلاة وحرمتها على المكلف ، وهذا محال ، وأما إذا كان الظن غير معتبر فهل تبقى الإستحالة أم لا ؟

قلنا إنَّ صاحب الكفاية ذكر أنه يمكن إثبات جواز ذلك بإعتبار أنّ الظن غير المعتبر بحكم الشك ، فكأنه قيل له (إذا شككت بوجوب الصلاة تحرم عليك الصلاة) فتكون الحرمة حكماً مجعولاً في ظرف الشك في الحكم الواقعي فتكون حكماً ظاهرياً ، ولا محذور في المضادة بين الحكم الواقعي المشكوك وبين الحكم الظاهري المجعول في ظرف الشك في الحكم الواقعي لإختلاف الرتبة بينهما ، فالأول حكم واقعي يتعلق به الشك والثاني حكم ظاهري مترتب على الشك في الحكم الواقعي ، فلا يجتمع الضدان في مرتبة واحدة ، فلا إستحالة ، ويقول على هذا الأساس جمعنا بين الأحكام الواقعية والأحكام الظاهرية وإن كان الحكمان متضادين ، والبراءة من هذا القبيل فهي حكم ظاهري يجعل عند الشك في الحكم الواقعي الإلزامي ، كالشك في وجوب الصلاة عند دخول المسجد فتُجعل له البراءة التي تُثبت الإباحة وهي مضادة للوجوب المشكوك ، ومحل الكلام كذلك فلا مانع من جعل الحرمة الظاهرية في ظرف الشك في الحكم الواقعي.

وهذا الذي ذكره صاحب الكفاية صحيح في حد نفسه فمع تعدد الرتبة لا مانع من إجتماع الحكمين المتخالفين المتضادين على أن يكون أحدهما حكماً واقعياً ثابتاً للشيء بعناوينه الأولية والثاني حكماً ظاهرياً ثابتاً للشيء بعنوان أنه مشكوكٌ حكمه الواقعي ، لكن هذا لا علاقة له بمحل الكلام ، إذ ليس الكلام في إمكان جعل حكم ظاهري عند قيام الظن على الحكم الواقعي المضاد له بل الكلام عن حكمين واقعيين أحدهما يتعلق به الظن والآخر يترتب على الظن بذلك الحكم قياساً له على القطع في المسألة السابقة ، إذ المفترض هناك أنّ الحكمين واقعيان مثل (إذا قطعتَ بوجوب الصلاة تحرم عليك الصلاة) ومثال المتخالفين (إذا قطعت بوجوب الصلاة وجب عليك التصدق) فوجوب الصلاة حكم واقعي يتعلق به القطع وكذلك وجوب التصدق ، وهكذا الكلام في الأقسام الباقية ، فمحل الكلام في الحكمين الواقعيين.

وعليه إذا كان الحكم الواقعي مشروط بالظن بحكمٍ واقعي آخر وكانا متضادين فهل هذا ممكن أم لا ؟ ففي المثال السابق (إذا ظننتَ بوجوب الصلاة تحرم عليك الصلاة) المقصود بالحرمة هو الحكم الواقعي وليس الحكم الظاهري.

والصحيح أنه غير ممكن ، فكما أنه لا يمكن إذا كان الظن ظناً معتبراً لأنه يؤدي الى إجتماع حكمين متضادين في حق المكلف وجوب الصلاة وحرمة الصلاة ، فكذلك إذا كان الظن غير معتبر ، ببيان أنّ المكلف في الظن غير المعتبر وإن كان يحتمل مخالفة ظنه للواقع بأن لا يكون هناك وجوب للصلاة أصلاً فلا إستحالة على هذا التقدير ، لكنه يحتمل أيضاً إصابة ظنه للواقع بأن يكون هناك وجوب واقعي للصلاة وعلى هذا التقدير تثبت الإستحالة ، وحيث أنّ المكلف يحتمل إصابة ظنه للواقع فهو يحتمل إجتماع الضدين ، وإحتمال إجتماع الضدين محال كالقطع بإجتماعهما ، إذ المحال ينبغي القطع بعدمه ولا يصح إحتماله ، هذا هو البرهان على الإستحالة فيما إذا كان الظن غير معتبر، هذا كله في القسم الثاني

وأما القسم الثالث وهو إما إذا كان الحكمان متماثلين كما إذا قال (إذا ظننت بحرمة شرب الخمر حرم عليك شربها) فحرمة الشرب حرمة مجعولة مماثلة للحرمة المظنونة لا نفسها ، فهل هذا ممكن أم لا ؟

وهنا فرقوا بين الظن معتبر وبين الظن غير المعتبر ، فإذا كان الظن معتبرا فهو ممكن ، فإذا ظن بحرمة شرب الخمر فهو يحتمل ثبوت الحرمة فتجتمع حرمتان ، الحرمة التي ظن بها والحرمة المترتبة على الحرمة الأولى ، قالوا لا مشكلة فيه ويحمل على التوحد والتأكد في صورة الإجتماع ، بمعنى ثبوت كلتا الحرمتين في الواقع بأن يكون الظن مصيباً وتترتب عليه الحرمة الثانية.

وأما الظن غير المعتبر فهو أوضح ولا يلزم منه أي محذور ، فعلى تقدير إصابته للواقع يحمل على التأكد والتوحد أيضاً ، وقد مر الكلام عنه في تقسيمات القطع.

وأما القسم الرابع هو ما إذا كان الحكمان متحدان (إذا ظننتَ بوجوب الصلاة ثبتَ عليك نفس هذا الوجوب) فيأتي فيه نفس الكلام الذي تقدم في القطع حرفاً بحرف ، فيأتي فيه إشكال الدور وإشكال إخراجه عن دوره وهو الكشف والإراءة ولكن مع تغيير القطع بالظن.

فالدور بأن يقال الحكم الشرعي موقوف على الظن لأنه أُخِذ في موضوعه والظن موقوف عليه توقف كل ظن على متعلقه _كما تقدم في القطع _ فنفس البيان الذي ذكرناه لإستحالة أخذ القطع في موضوع نفس الحكم يُذكر في المقام لإثبات إستحالة أخذ الظن بالحكم في موضوع نفسه ، ونفس الجواب السابق المبتني على التفريق بين الجعل والمجعول يجري هنا.

الى هنا ننتهي من بحث تقسيمات القطع وندخل في بحث وجوب الموافقة الإلتزامية فهل هي واجبة أم لا ؟

وهذا في قبال الموافقة العملية الخارجية.