الأستاذ الشيخ هادي آل راضي

بحث الأصول

43/03/09

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع : القطع/ القطع الموضوعي/ فرع في تقسيمات الظن

ذكرنا بأن السيد الخوئي عالج الروايات الدالة على أنَّ من صلى تماماً في موضوع القصر فلا إعادة عليه بأنّ الجاهل بالقصر حكمه التخيير بين القصر والتمام وبهذا يختلف عن المسافر العالم بالحكم فحكمه القصر تعييناً.

وذكرنا إعتراض بعضهم عليه وحاصله أنّ مقتضى الصناعة هو التقييد والإلتزام بأنّ على المسافر الجاهل التمام تعييناً لا تخييرياً ، لأنّ هناك أدلة مطلقة تدل على وجوب القصر على المسافر ومقتضى إطلاقها هو وجوب القصر على المسافر سواء كان عالماً أم جاهلاً ، وهناك أدلة خاصة تدل على أنّ المسافر إذا كان جاهلا يجب عليه التمام ، فهذه الأدلة الخاصة تًقيد ذلك الإطلاق ، فينتج أنَّ العالم بالحكم يجب عليه القصر تعييناً والجاهل به يجب عليه التمام تعييناً ، فمن أين جاء التخيير ؟!

والجواب عن هذا الإعتراض :

إنّ هذا الوجه إنما يمكن قبوله إذا كان لسان الأدلة الخاصة لسان عدم وجوب القصر على المسافر الجاهل أو لسان وجوب التمام عليه ً، فهنا يمكن دعوى التقييد لأنّ المطلقات تقول يجب القصر مطلقاً _ على المسافر العالم والجاهل _ والروايات الخاصة تقول لا يجب على المسافر الجاهل القصر فتُقيد تلك المطلقات بلا إشكال ، أو يكون مفادها يجب على المسافر الجاهل التمام فيمكن أن يدعى أنها مقيدة لتلك المطلقات ، لكن الروايات الخاصة لسانها لسان الإجزاء نحو (يكفيه ما جاء به) و (لا إعادة عليه) وهذا اللسان لا ينافي وجوب شيء آخر عليه بإعتباره أحد فردي الواجب التخييري ، كما لو قيل في المورد الكفارة : أنه صام فأجاب: يكفيه ، فلا ينافي وجود عِدل للصيام في باب الكفارة ، وعليه لا مجال للتقييد .

وبعبارة أخرى إنّ التقييد إنما يُصار إليه عندما يكون هناك تنافياً بين الدليلين فيُقيَّد الدليل المطلق بالدليل الأخص منه ، كما إذا فرضنا أنّ الدليل يقول يجب القصر تعييناً على المسافر مطلقاً _ عالماً كان أو جاهلاً _ ودليل آخر يقول يجب التمام تعييناً على المسافر الجاهل ، فهما متنافيان في الجاهل فنقيد الدليل المطلق بالدليل الخاص ، وفي المقام لا يوجد تنافي بين الأدلة لأن لسان الروايات الخاصة هو الإجزاء والإكتفاء وهو لا ينافي الوجوب التخييري ، فلا مجال لتوهم التقييد.

ومن هنا يظهر أنّ ما ذكره السيد الخوئي قده تام ظاهراً ولكن بناءً على إستحالة تقييد الحكم بالعلم به كما ذهب إليه ، ولكن الصحيح كما تقدم هو عدم الإستحالة ، فلا مشكلة في الأخذ بظواهر الأدلة الخاصة كما تقدم ، فنلزم أنّ المسافر على قسمين : عالم بوجوب القصر يجب عليه القصر وجاهل بوجوب القصر يجب عليه التمام إما بإعتبار أنّ القصر والتمام ضدان فإذا نفينا أحد الضدين يثبت الضد الآخر فإذا نفينا وجوب القصر عنه ثبت التمام ، وإما بإعتبار ما ذكروه من أنَّ الأصل في الصلاة أن تكون تماماً ، والمسافر العالم بوجوب القصر خرج بالدليل الدال على وجوب القصر ، وأما المسافر الجاهل بوجوب القصر فمقتضى الأدلة الدالة على وجوب التمام يجب عليه التمام.

وعلى كل حال الإلتزام بتقييد الحكم بوجوب القصر بالعلم به وإختصاص الحكم بالعالم لا محذور فيه أخذاً بظواهر الأدلة.

وقد أشرنا الى أنَّ المحقق النائيني قده له وجه آخر في توجيه هذه الروايات مرتبط بنظرية متمم الجعل ، وبه يتخلص من الإشكال في الروايات الخاصة ، والحديث فيه طويل لا داعي للدخول في تفاصيله.

هذا كله في تقييد الحكم بالعلم به ، وهناك كلام آخر في تقييد الحكم بعدم العلم به ، وهذا ما تعرض له الشيخ الأنصاري في الرسائل في مقام توجيه ما نُسِبَ الى الأخباريين من القول بعدم حجية القطع الحاصل من الأدلة العقلية ، و اُشكِل عليهم بأنَّ الحجية من لوازم القطع الذاتية ولا يمكن أن تنفك عنه ، لا يعقل أن يقال للمكلف القاطع بالحكم الشرعي _ من أي طريق كان _ أنَّ قطعكَ ليس بحجة ، هذا غير معقول.

والشيخ الأنصاري في مقام توجيه ما نُسِبَ إليهم ذكر أنَّ مقصودهم من أنّ هذه الأحكام مقيدة بعدم العلم بها من الطرق العقلية ، فيكون عدم العلم بالحكم من الطرق العقلية مأخوذاً في موضوع الأحكام الشرعية ، فيكون الحكم الشرعي مقيداً بعدم العلم به من الطرق العقلية ، فيثبت الحكم إذا علم المكلف به من الطرق النقلية ولا يثبت إذا علم به من الطرق العقلية.

وبعبارة أخرى إنّ الأحكام الشرعية مختصة بالعلم بها من الأدلة النقلية فقط ، فيؤخذ عدم العلم في موضوع الحكم ، فيمكن أن يطرح هذا البحث أيضاً.

ومما تقدم يظهر أنه لا إشكال في ذلك ، فنقول على غرار ما تقدم كما أنه لا لإستحالة في أخذ العلم بالحكم في موضوع الحكم نفسه - بناءً على التفريق بين الجعل والمجعول - نقول هنا أيضاً لا مانع من أخذ عدم العلم في موضوع الحكم نفسه بنفس البيان المتقدم ، بأن يقال أنَّ عدم العلم بالجعل من الأدلة العقلية مأخوذ في موضوع المجعول ، بمعنى أنَّ هذا الحكم لا يكون فعلياً إذا علِم به المكلف من الأدلة العقلية ويكون فعلياً إذا علم به من الأدلة النقلية.

مضافاً إلى عدم ورد إشكال الدور هنا فإنما إنه إنما ورد في أخذ العلم في موضوع نفس الحكم بإعتبار أنَّ العلم موقوف على متعلقه _ وهو الحكم _ فإذا كان الحكم موقوفاً على العلم لزوم الدور ، وأما أخذُ عدم العلم في موضوع الحكم فلا يتصور فيه الدور لأنّ عدم العلم ليس موقوفاً على متعلقه كما أنَّ عدم العلم بوجود زيد لا يكون موقوفا على وجود زيد .

نعم قد يقال بلزوم محذور اللغوية في محل الكلام ، بأن يقال : لا فائدة في جعل الحكم مقيداً بعدم العلم به ، فلا معنى لأن يكون وجوب الصلاة مثلاً مقيداً بعدم العلم به ، هذا لغو ولا فائدة فيه ، وذلك لأني إن كنتُ عالماً به لا يثبت هذا الحكم وإن كنتُ جاهلاً به فلا يكون محركاً وواصلاً الى مرحلة إستحقاق العقاب على المخالفة ، فجعل مثل هذا الحكم الذي لا يصل الى مرحلة التنجيز يكون لغواً.

والجواب : ليس المدعى هو أنَّ الأحكام مقيدة بعدم العلم بها ، وإنما المدعى هو أنّ الأحكام مقيدة بعدم العلم بها من الطرق الخاصة _ أي من الأدلة العقلية _ فلا يلزم من جعل هذا الحكم اللغوية لإمكان تحصيل العلم بهذه الأحكام من الأدلة النقلية ، فيكون لهذا الحكم فائدة ويصل الى مرحلة التحريك والتنجيز وإستحقاق العقاب على المخالفة.

     أقسام الظن

وبعد الفراغ عن أقسام القطع تعرضوا لأقسام الظن ، وذكروا أنَّ للظن تقسيمات كالتقسيمات المتقدمة في القطع ، فمنها :

أنّ الظن بالحكم تارة يكون طريقياً صرفاً وأخرى يكون موضوعياً ، و الظن الموضوعي تارة يكون ظناً موضوعياً طريقياً وأخرى يكون ظناً موضوعياً صفتياً.

ومنها أنّ الظن تارة يكون تمام الموضوع وأخرى يكون جزء الموضوع.

ومنها أنَّ الحكمين _ أي متعلق الظن وما يترتب على الظن _ تارة يكونا متخالفين ، وأخرى يكونا متضادين ، وثالثة يكونا متماثلين ، ورابعة يكونا متحدين كما تقدم في تقسيمات القطع.

أما القسم الأول _الحكمان المتخالفان _ فلا إشكال في إمكانه نحو (إذا ظننتَ بوجوب الصلاة وجبَ عليك التصدق) ولا محذور فيه كما في القسم الأول من القطع ، ولا يُفرَّق في الإمكان بين أن يكون الظن حجة أو ليس بحجة فكل منهما ممكن.

وأما القسم الثاني _ الحكمان المتضادن _ نحو (إذا ظننتَ بوجوب الصلاة حرمت عليك الصلاة) فالحكم المظنون هو وجوب الصلاة والحكم المترتب على الحكم المظنون هو حرمة الصلاة ، وهذان حكمان متضادان يستحيل إجتماعهما ، وهنا قالوا بالإستحالة ولكن عندما يكون الظن معتبراً (إذا ظننتَ بوجوب الصلاة بالظن المعتبر حرمت عليك الصلاة) لأنه يؤدي الى إجتماع الضدين ، فإنّ الظن المعتبر إذا قام على وجوب الصلاة ثبتَ وجوب الصلاة فكيف تثبت حرمة الصلاة ، وهو كما إذا قطع بوجوب الصلاة فلا يمكن أن يُقال له (إذا قطعتَ بوجوب الصلاة حرمت عليك الصلاة) فإنه يودي الى ثبوت الحكم وضده على المكلف ، ولذا فرقوا هنا بين الظن المعتبر والظن غير المعتبر ، فإن كان الظن معتبراً فيكون مستحيلاً وإما إذا كان غير معتبر فلا إشكال في ذلك لأنه لا يثبت به وجوب الصلاة ، فلا مانع من جعل حرمة الصلاة فيقال (إذا ظننتَ بوجوب الصلاة ظناً غير معتبر حرمت عليك الصلاة) فهذا قال بعضهم بإمكانه ولا مانع منه.

وخرّجه صاحب الكفاية بأنَّ الظن غير المعتبر بمنزلة الشك فكأنه قيل (إذا شككت بوجوب الصلاة حرمت عليك الصلاة) ولا محذور فيه لأنَّ مرتبة الحكم الظاهري محفوظة عند الشك بالحكم الواقعي ، فالحرمة مجعولة في ظرف الشك في الحكم الواقعي فتكون حكما ظاهرياً ، ومرتبة الحكم الظاهرية محفوظة في محل الكلام ، ولا إشكال فيه.