43/03/04
الموضوع : القطع/ القطع الموضوعي / تقسيمات القطع الموضوعي/ أخذُ القطع بحكمٍ في موضوع الحكم/ القسم الرابع.
تقدم فيما سبق أنَّ الحكم المقطوع به والحكم المترتب على القطع بذلك الحكم إما أن يكونا متخالفين أو يكونا متضادين أو يكونا متماثلين أو يكونا متحدين ، فالأقسام أربعة:
القسم الأول الحكمان المتخالفان :كما إذ فرضنا أنه قال (إذا قطعتَ بوجوب الصلاة فتصدق) فالقطع بوجوب الصلاة أُخِذ في موضوع وجوب التصدق ، ووجوب الصلاة ووجوب التصدق حكمان متخالفان ، ولا إشكال في إمكان هذا القسم ، فيجب على المكلف التصدق متى ما قطع بوجوب الصلاة.
القسم الثاني الحكمان المتضادان : كما إذا قال (إذا قطعت بوجوب الصلاة حرمت عليك الصلاة) فهذان حكمان وجوب الصلاة هو الحكم المقطوع به وحرمة الصلاة هو الحكم المترتب على القطع بوجوب الصلاة ، لكنهما حكمان متضادان ، وهنا لا إشكال عندهم في عدم إمكان هذا القسم للزوم التضاد منه - على الأقل في نظر القاطع - وقد تقدم أنّ هذا القطع إن كان مصيباَ فيلزم التضاد في الواقع وإن كان غير مصيبا للواقع فيلزم التضاد في نظر القاطع ، وكلاهما محال.
القسم الثالث الحكمان المتماثلان : كما إذا قال (إذا قطعت بحرمة شرب الخمر حَرم عليك شربه) فالحكم المقطوع به هو حرمة شرب الخمر وما يترتب على القطع به هو حرمة شرب الخمر أيضاً ، وهذان حكمان متماثلان ، قالوا هذا غير ممكن أيضاً للزوم إجتماع المثلين إما واقعاً على تقدير إصابة القطع للواقع وإما في نظر القطع على الأقل على تقدير عدم إصابته للواقع.
القسم الرابع الحكمان المتحدان : أي أنَّ الحكم الذي يتعلق به القطع هو نفس الحكم المترتب على القطع به ، كما إذا قال (إذا قطعتَ بوجوب الصلاة ثبت عليك نفس ذلك الوجوب) ، فما يترتب على القطع بالحكم هو نفس الحكم المقطوع به ، وهذا القسم مرجعه الى أنَّ ثبوت الحكم منوط بالقطع به ، فوجوب الصلاة مثلا يكون ثبوته منوطاً بالقطع به ، وهذا القسم الرابع هو محل الكلام هل هو ممكن أم لا ؟
المعروف هو إستحالة هذا القسم ، بل لعلهم إتفقوا على إستحالته غاية الأمر هو أنهم إختلفوا في توجيه هذه الإستحالة ، وقد ذكرت وجوه لإثبات إستحالة أن يكون الحكم معلقا على القطع به تقدم الكلام عنها ، ومن جملتها هو لزوم الدور وقد تقدم تقريبه والجواب عنه.
ومن جملة الوجوه التي ذكرت لإثبات الإستحالة الوجه الذي يبتني على دعوى أنَّ القطع بالشيء هو مجرد كاشف عنه ولا يكون مساهماً في صنعه ، فما يتعلق به القطع يحصل بعلله الخاصة به والقطع لا يساهم في صنعه وإنما يكشف عنه فقط ودوره دور المرآة فقط ، ويلزم من هذا القسم أن يكون القطع مساهما في صنع ما يتعلق به ، لأنّ معنى (إذا قطعت بوجوب الصلاة يثبت عليك ذلك الوجوب) هو أنَّ وجوب الصلاة يثبت مشروطاَ بالقطع به ، والمشروط عدم عند عدم شرطه ، فلا وجوب الصلاة مع عدم القطع به ، وهذا يعني أنَّ القطع بوجوب الصلاة يساهم في صنع متعلقه ، والمفروض أن القطع يستحيل أن يكون مساهما في صنع متعلقه.
وذكرنا بعد الفراغ عن إستحالة أخذ القطع في موضوع نفسه أنَّ الكلام يقع في الموارد التي قام الدليل فيها على إختصاص الحكم بالعالم به ، منها وجوب الجهر والإخفات ووجوب القصر والإتمام ، فالقصر يجب على العالم بوجوب القصر فهو مختص بالعالم بالوجوب ، و كذا الإخفات ، وأما إذا كان المكلف جاهلا بوجوب القصر فلا يجب عليه القصر ، فلو صلى تماماً جاهلا لا تجب عليه الإعادة ، وهذا يعني إختصاص الحكم بالعالم به فكيف يمكن التوفيق بين ظواهر هذه الأدلة وبين ما فرغنا عنه من إستحالة أخذ القطع بالحكم في موضوع نفسه.
وذكرنا أنه يمكن التخلص من هذا الإشكال عن طرق التفريق بين الجعل والمجعول فالجعل هو القضية الشرطية وهي مفاد الأدلة الشرعية ، وغالبا ما تدل الأدلة الشرعية على قضية شرطية ﴿وَلِلَّهِ عَلَى ٱلنَّاسِ حِجُّ ٱلبَیتِ مَنِ ٱستَطَاعَ إِلَیهِ سبیلا﴾ [1] ، فعلى تقدير حصول الإستطاعة يجب الحج ، فمفاد الدليل قضية شرطية وهي لا تتعرض الى ثبوت الشرط أو عدم ثبوته وإنما تدل على ثبوت الحكم على تقدير تحقق الشرط ، وبعبارة أخرى أن مفاد الأدلة هو جعل الحكم على نهج القضية الحقيقية التي تكون معلقة على شرط أو موضوع ، و لا إشكال في تحقق شيءٍ بعد إنشاء هذه الشرطية فنستطيع أن ننسب الى المتكلم أنه حكم بوجوب الحج على تقدير تحقق الإستطاعة ، هذا هو ما صدر من الشارع ويعبر عنه بالجعل ، فالجعل عبارة عن قضية شرطية حقيقية المشروط فيها معلق على تحقق الشرط خارجا ، فما يُنشؤه المتكلم بهذه القضية ليس هو تحقق الحكم خارجا وإنما هو تحققه معلقا على تقدير تحقق شرطه أو موضوعه.
وأما المجعول فهو فعلية الجزاء في القضية الشرطية عند تحقق الشرط ، فإذا تحققت الإستطاعة خارجا تحققت فعلية وجوب الحج ، فقبل تحقق الشرط لا فعلية للوجوب وإنما هناك وجوب تعليقي فقط ، وهذا المجعول لا يُعبر عن حكم شرعي وإنما هو نتيجة طبيعية للقضية الشرطية بعد تحقق شرطها ، هذا هو المجعول ، وعلى أساس هذه النظرية يمكن الجواب عن الإشكال المتقدم بأن يقال : إنَّ الحكم وإن أخِذ القطع به في موضوعه لكن المقصود بالحكم الذي يتعلق به القطع غير الحكم الذي يترتب على القطع به ، فالحكم الذي يترتب عليه القطع يراد به الجعل وما يترتب على القطع بالجعل هو المجعول ، وهذا يستفاد من نفس أدلة هذه الأحكام كما في قوله عليه السلام (.. إن كان قُرئت عليه آية التقصير وفسّرت له فصلّى أربعاً أعاد ، وإن لم يكن قرئت عليه ولم يعلمها فلا إعادة عليه) وآية التقصير تتمثل بالجعل ، أي إذا كان عالما بالجعل تجب عليه الإعادة ، أما إذا كان جاهلا بالتقصير فلا تجب عليه الإعادة ، وهذا يعني أنَّ وجوب القصير فعلا على المكلف على نحو يترتب على تركه وجوب الإعادة منوط بالعلم بالجعل ، وبهذا يختلف الحكم الذي يتعلق به القطع عن الحكم الذي يترتب على القطع به ، فما يتعلق به القطع هو الحكم بمعنى الجعل وما يترتب على القطع بالجعل هو الحكم بمعنى المجعول أي صيرورة الحكم فعليا ، وبهذا نتخلص عن كل الإشكالات السابقة.
إما عدم ورود إشكال الدور فلأن المعلق على العلم غير ما يترتب على العلم ، فما يتعلق به العلم هو الجعل وما يترتب على العلم هو المجعول فلا دور ، وأما عدم ورود إشكال تجريد العلم عن دوره وهو الكشف فلأنَّ العلم يكشف عن الجعل فيكون دوره دور الكاشف فقط ولكنه يساهم في صنع المجعول ، فالقطع باقٍ على دوره وهو الكشف عن ما يتعلق به .
ولا يبعد أن تكون هذه الفكرة مستوحاة مما ذكره صاحب الكفاية ، حيث ذكر أنَّ للحكم مراتب أربعة : مرتبة الإقتضاء ومرتبة الإنشاء ومرتبة الفعلية ومرتبة التنجيز ، وخلاصتها :
أن الحكم في مرتبة الإقتضاء هو عبارة عن وجود مقتضي لهذا الحكم وهو وجود ملاك الحكم ، ثم مرحلة الإنشاء وتتحقق بإنشاء الحكم من دون أن يصل الى مرحلة الفعلية والبعث والزجر ، وهو عبارة عن الجعل بإصطلاح المحقق النائيني ، ثم مرحلة الفعلية وهي مرحلة وصول الحكم الى حد البعث والزجر ، لكن ليس كل حكم يصل الى مرحلة البعث والزجر يترتب على مخالفته إستحقاق العقاب فقد يكون الحكم محركا ولا يترتب على مخالفته إستحقاق العقاب ، فإذا وصل الى مرحلة إستحقاق العقاب على المخالفة فهي المرحلة الرابعة التي يُعبر عنها بمرحلة التَنجُّز ، وذكر صاحب الكفاية أنه لا مانع من أن يكون الحكم في أحد هذه المراتب مشروطاً بالعلم به في مرتبة أخرى ، فلا مانع من أن يكون الحكم في مرحلة الفعلية مشروطا بالقطع به في مرتبة الإنشاء.
أقول الجواب عن الإشكال المتقدم بالتفريق بين الجعل والمجعول لعلها مستوحاة من مما ذكره صاحب الكافية.