42/11/19
الموضوع : القطع/ القطع الموضوعي / تقسيمات القطع الموضوعي/ أخذُ القطع بحكمٍ في موضوع الحكم/ القسم الرابع.
كان الكلام في القسم الرابع الذي فرضنا فيه وحدة الحكمين الحكم الذي تعلَّق به القطع والحكم الذي يترتب على القطع ، وقد وقع الكلام في إمكان أن يكون الحكم مشروطاً بالعلم به _ فلا يثبت الحكم مع فرض الجهل به _ أو لا يمكن ذلك ؟
وهناك وجوه ذكرت لاستحالته ، ذكرنا وجه الدور مع الجواب عنه ، وذكرنا الوجه الثاني الذي يعتمد على أنّ دور العلم هو الكاشفية فقط وأنه لا يساهم في صنع متعلقه ، وهذا القسم الرابع يُنافي ذلك لأنّه يعني أن العلم يساهم في صنع متعلقه بإعتبار أنَّ ما يترتب على العلم هو نفس ما تعلّق به العلم ، والحكم بإعتباره متعلقاً للعلم يكون دور العلم بالنسبة إليه دور الكاشف فقط ولا يمكن أن يساهم في صنعه ، والحال أننا إذا جعلنا هذا الحكم مشروطاً بالعلم وجعلنا العلم بالحكم مأخوذاً في موضوع الحكم نفسه فمعناه أنَّ العلم بالحكم يساهم في صنع هذا الحكم ، وهذا تهافت لأنَّ العلم لا يمكن أن يكون إلا كاشفاً عن متعلقه ولا يساهم في صنعه.
الوجه الثالث : أن يقال بلزوم الدور من جهة أخرى غير ما تقدم في الوجه الأول ، وتصويره يبتني على التفرقة المعروفة بين الجعل والمجعول وهو فعلية الحكم ، لأنَّ الحكم بمجرد جعله لا يكون فعلياً فقوله تعالى : ﴿وَلِلَّهِ عَلَى ٱلنَّاسِ حِجُّ ٱلۡبَیۡتِ مَنِ ٱسۡتَطَاعَ إِلَیۡهِ سَبِیلࣰاۚ﴾ لا يعني فعلية وجوب الحج وإنما يكون فعلياً عندما يتحقق موضوعه وهو الإستطاعة ، أما مجرد جعله في الآية الشريفة بنحو القضية الشرطية فلا يعني أنَّ هناك وجوباً بالفعل ، فهذا جعل وتشريع فقط ، وإذا تحققت الإستطاعة في الخارج يكون وجوب الحج فعلياً وهو المسمى بالمجعول.
والمجعول يصل الى المكلف بوصول موضوعه ، فإذا عَلِمَ المكلف بتحقق الموضوع يكون المجعول واصلاً إليه ، وبعبارة أخرى أنَّ وصول المجعول يكفي فيه العلم بالجعل والعلم بتحقق الموضوع ، فإذا عَلِمَ المكلف بأنَّ الشارع جعلَ وجوب الحج على المستطيع بنحو القضية الشرطية الحقيقية وعَلِمَ بتحقق الإستطاعة فهذا الأمران كافيان في تحقق المجعول فيكون وجوب الحج فعلياً عليه ، فالعلم بالمجعول متوقِف على العلم بتحقق الموضوع _ أي الإستطاعة _ بعد فرض العلم بالجعل ، وبناءً على هذا يقال في تصوير الدور في محل الكلام :
العلم بالمجعول يتوقف على العلم بموضوعه ، فالمكلف يعلم بأنَّ وجوب الصلاة فعلي إذا عَلِمَ بشيئين العلم بالجعل ﴿إِنَّ ٱلصَّلَوٰةَ كَانَتۡ عَلَى ٱلۡمُؤۡمِنِینَ كِتَـٰبࣰا مَّوۡقُوتࣰا﴾ والعلم بموضوعه وهي شرائط وجوب الصلاة ، فإذا عَلِمَ بتحقق الموضوع والمفروض أنه عالم بالجعل فيعلم بفعلية الوجوب ، أي يعلم بالحكم ، فالعلم بالمجعول يتوقف على العلم بموضوعه وموضوعه هو العلم بالحكم ، فيكون العلم بالحكم موقف على العلم بالعلم بالحكم ، والعلم بالعلم بالحكم هو عبارة أخرى عن العلم بالحكم ، فيكون العلم بالحكم موقوفاً على العلم بالحكم وهذا دور.
هذه هي الوجوه التي تذكر لإستحالة القسم الرابع ، وبعد الفراغ عن الإستحالة يقع الكلام في الموارد التي ثبتَ فيها إختصاص الحكم بالعالم به ، والأحكام بشكل عام مشتركة بين العالم والجاهل وهي قضية مُسلمَّة عندهم ، ويدعى عليها الإجماع ، فكل الأحكام مشتركة بين العالم والجاهل ، نعم هناك موارد خاصة دلَّ الدليل على أنَّ الحكم فيها مختص بالعالم به ، هذا هو عبارة عن القسم الرابع أي أنَّ الحكم مشروط بالعلم به ، ويعني أنَّ العلم بالحكم أُخِذَ في موضوع الحكم نفسه ، أو أنَّ الحكم مشروط بالعلم به ، فإذا كان المكلف جاهلاً بالحكم فلا حكم في حقه ، وهذا معنى إختصاص هذه الأحكام بالعالِمين بها ، وهذا هو القسم الرابع.
ويقع الكلام في كيفية تخريج ذلك بعد فرض الإستحالة بحسب الوجوه المتقدمة ، وله أمثلة من قبيل وجوب الجهر ووجوب الإخفات ووجوب القصر ووجوب الإتمام بناءً على أنَّ مختصة بالعالم بها ، فالجهر واجب على من يعلم بوجوبه ، ولذا لو أخفتَ في موضع الجهر جاهلاً به فلا شيء عليه ، وهكذا إذا قصَّر في موضع الإتمام أو أتمَّ في موضع القصر جاهلاً بالوجوب فلا شيء عليه فالوجوب ، مختص بالعالم به ، إن كان قُرِأت عليه آية التقصير كما في الرواية ، فكيف يمكن تخريجها ؟
فالكلام يقع في هذه الموارد الخاصة التي ثبتَ بحسب ظاهر دليلها أنها مختصة بالعالم.
التخريج الأول : تخريجها على أساس التفرقة بين الجعل والمجعول الذي بَنَت عليه مدرسة المحقق النائيني وهو الصحيح ، قد نختلف في تفسير المجعول ولكن هناك جعل وشيء آخر ، فالجعل يتحقق بإنشاء الحكم سواءً كان فعلياً بأن يُفترض تحقق شرائطه وموضوعه أم لم يكن فعلياً ، ﴿وَلِلَّهِ عَلَى ٱلنَّاسِ حِجُّ ٱلۡبَیۡتِ مَنِ ٱسۡتَطَاعَ إِلَیۡهِ سَبِیلࣰاۚ﴾ هذا حكم ثابت بالآية وإن لم يكن هناك مستطيع في الخارج ، فهذه القضية الشرطية نُعبر عنها بالجعل ، فالشارع في هذه الآية جَعَلَ وجوب الحج على تقدير الإستطاعة ، وهناك شيء آخر يتحقق بعد فرض تحقق الإستطاعة في الخارج وهو أنَّ هذا المكلف يجب عليه الحج ، وهذا الشيء المتحقق هو الذي يُسمى بالمجعول ، فبناءً على التفرقة بين الجعل والمجعول يقال في مقام تخريج ما دلَّت عليه الأدلة في الموارد المتقدمة بأنَّ ما يتوقف عليه العلم هو الجعل وما يترتب على العلم هو المجعول فتنحل الإشكالات وترتفع كل المحاذير السابقة ، فمعنى إذا علمتَ بالحكم يثبت عليك الحكم هو إذا علمتَ بالجعل يثبت عليك المجعول ولا محذور حينئذٍ.
(عن زرارة ومحمّد بن مسلم قالا : قلنا لأبي جعفر ( عليه السلام ) : رجل صلّى في السفر أربعاً ، أيعيد أم لا ؟ قال : إن كان قُرِأت عليه آية التقصير وفُسّرت له فصلّى أربعاً أعاد ، وإن لم يكن قُرِأت عليه ولم يعلمها فلا إعادة عليه.)[1]
وآية التقصير تمثل الجعل لا المجعول ، فإذا قُرأت عليه آية التقصير يجب عليه القصر وتجب عليه الإعادة إذا صلى تماماً في موضع القصر ، إذا كان عالماً بالجعل فيجب عليه التقصير ، فهو عالم بوجوب التقصير يعني عالم بجعل وجوب التقصير ، وما يترتب على علمه بالجعل هو فعلية المجعول وهو الوجوب الفعلي للتقصير بعد تحقق موضوعه وهو العلم بالجعل ، فترتفع المحاذير السابقة ، محذور الدور الأول والدور الثاني وأنَّ دور العلم هو الكشف عن متعلقه ، ولم نُعطله عن دوره فهو كاشف عن متعلقه ولا يساهم في صنع متعلقه وهو الجعل ، وللجعل أسبابه الخاصة ، نعم هو يساهم في صنع المجعول والمجعول ليس هو متعلق القطع ، ولا ضير في أن يكون القطع مساهماً في صنع المجعول لأنه ليس متعلقه بل مترتب عليه ، فترتفع كل المحاذير السابقة.