الأستاذ الشيخ هادي آل راضي

بحث الأصول

42/11/18

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع : القطع/ القطع الموضوعي / تقسيمات القطع الموضوعي/ أخذُ القطع بحكمٍ في موضوع الحكم/ القسم الرابع.

الكلام في القسم الثالث وهو ما إذا فرضنا أنَّ القطع المأخوذ في موضوع حكم يتعلق بحكمٍ ، فالقطع بحكمٍ يؤخذ في موضوع حكمٍ ، وفي القسم الثالث نفترض أنَّ الحكمين متماثلان إذا قطعتَ بحرمة شرب الخمر يحرم عليك شربه ، بحرمة أخرى مماثلة للحرمة المقطوع بها ، فهناك حرمة يُقطع بها وهناك حرمة تترتب على الحرمة الأولى ، وهنا طُرِح إشكال لزوم إجتماع المثلين إما واقعاً أو بنظر القاطع ، وقلنا طُرحت فكرة التأكد لدفع هذا المحذور ، فنحمل الحكم الثاني الذي يتعلق به القطع على تأكد الحكم ، فليس هناك إجتماع لمثلين وإنما هناك حكم واحد مؤكد ولا مانع من ذلك وبه يرتفع المحذور ، فلا مانع من أن يقول (إذا قطعت بحرمة شرب الخمر يحرم عليك شربه).

وذكرنا الإعتراض عليه ، وحاصله : كيف يُحمل الحكم على التأكد مع التعدد في الرتبة ، فالحرمة المترتبة على القطع متأخرة برُتبتين على الحرمة التي يتعلَّق بها القطع ، ومع تعدد الرتبة لا معنى للتوحُّد ، هكذا قيل.

وإنتهينا الى أنَّ الصحيح هو يقال بأنَّ الأحكام الشرعية ليست أموراً واقعية وإنما هي إعتبارات ولا واقع لها وراء الإعتبار ، فإذا قلنا بإمكان إجتماع المثلين في الأمور الإعتبارية من دون محذور فلا إشكال حينئذٍ ، وأما إذا قلنا بعدم إمكان ذلك فلابد من الإلتزام هنا بالتأكد ، لكن التأكد يكون في الحكم والإرادة مع تعدد المبادئ من المصلحة والمفسدة ، وفي المثال تعددت المفسدة فهناك مفسدتان ملزمتان ، لكن تعدد المفسدة لا يوجب تعدد الحكم وتعدد الكراهة ، وإنما هناك كراهة واحدة مؤكدة وحكمٌ واحد مُؤكد ، فالمحال هو إجتماع حكمين متماثلين ينشأن من مصلحتين أو مفسدتين ملزمتين ، أي المحال هو التعدد في الحكم والتعدد في الإرادة أو الكراهة الذي ينشأ من التعدد في المصالح والمفاسد ، وأما إذا كان هناك تعدد في المصالح والمفاسد فقط مع توحُّد في عالم الإرادة وفي عالم الحكم ، فهناك حكم واحد مؤكد وإرادة واحدة مؤكدة ولا مانع من حمل الأدلة التي ظاهرها إجتماع المثلين على الـتأكد في الحكم.

ويشهد لذلك ما إتفقوا عليه في موارد العموم والخصوص من وجه من جواز إجتماع حكمين متماثلين في مادة الإجتماع ، ولا قائل بالإستحالة ، كما في أكرم العالم وأكرم الهاشمي ، فمادة الإجتماع هي العالم الهاشمي ، وهناك وجوبان لإكرامه ولا قائل بهنا بإستحالة إجتماع المثلين ، كما لا قائل بأنَّ هناك وجوبان مستقلان بنحو يجب إكرام العالم الهاشمي مرتين ، فيفهم من ذلك الحمل على التأكيد ، فيجب إكرامه مرة واحدة وجوباً مؤكداً لإجتماع العنوانين فيه.

وفي محل لكلام إذا ورد : إذا قطعتَ بوجوب الصلاة تجب عليك الصلاة ، نقول عندما يقطع المكلف بوجوب الصلاة يثبتُ عليه وجوب الصلاة لكن هذا وجوب واحد مؤكد ، فالحمل على التأكد لا مشكلة فيه ، والتعدد في الرتبة لا يصلح للمنع من ذلك.

القسم الرابع _ وهو المهم الذي وقع فيه البحث _ وهو أن يكون الحكمان _ الحكم المقطوع به والحكم المترتب على القطع _ متحدين ، فالحكم الذي تعلق به القطع هو نفسه الذي يترتب على القطع ، إذا قطعتَ بهذا الحكم يترتب عليك نفس الحكم الذي قطعتَ به _ لا مثله _ ومرجعه الى أن يكون الحكم الشرعي مشروطاً بالعلم به ، فالعلم بالحكم شرطٌ في نفس الحكم ، فالذي يترتب على العلم هو نفس الحكم الذي تعلق به العلم ، (إذا قُرأت عليه آية التقصير وجبَ عليه التقصير) هذه كناية عن العلم بوجوب القصر في السفر ، يعني إذا علمتَ بوجوب التقصير يثبت عليك هذا الوجوب نفسه ، فهل يُعقل أن يكون الحكم مشروطاً بالعلم به ، وبعبارة أخرى هل يمكن أن يكون القطع بالحكم مأخوذاً في موضوع نفس ذلك الحكم ؟

ولا يُفرَّق بين أن يكون العلم بالحكم مأخوذاً في موضوع نفس الحكم أو يكون العلم بعدم الحكم مأخوذاً في موضوع الحكم ، ومثال الأول إذا علمتَ بوجوب القصر يجبُ عليك القصر ، والجهر والإخفات من هذا القبيل أيضاً فوجوب الجهر على من يعلم بوجوبه ، وأما من لا يعلم به فلا شيء عليه ، فلو أخفتَ في موضع وجوب الجهر جهلاً لا يجب عليه الإعادة ، وكذلك في النسيان ، وهذا يعني أنَّ وجوبَ الجهر مشروطٌ بالعلم به ، أي العلم بوجوب الجهر أُخِذَ في وجوب الجهر نفسه .

ومثال الثاني ما يقال من أنَّ الحكم الشرعي مشروطٌ بعدم العلم به من الأدلة العقلية ، فالعلم بالحكم تارة يكون حاصلاً من الأدلة الشرعية وأخرى يكون حاصلاً من الأدلة العقلية ، وهناك رأي يقول أنَّ الأحكام الحاصلة من الأدلة العقلية لا تثبت ، فالحكم مشروط بعدم العلم به من الدليل العقلي ، إذن الحكم تارة يكون مشروطاً بالعلم به من الدليل النقلي ، وأخرى يكون مشروطاً بعدم العلم به من الدليل العقلي ، ولا فرق بينهما.

والكلام يقع في إمكان أخذ القطع بالحكم في موضوع نفس الحكم ، أو قل : هل يمكن أن يكون موضوع الحكم مشروطاً بالعلم به أو لا يمكن ذلك ؟

يبدو أنهم متفقون على الإستحالة لكنهم يختلفون في تخريجها ، فما هي الوجوه التي يُستدل بها على إستحالة أخذ القطع بالحكم في موضوع نفسه أو إشتراط الحكم بالعلم به ؟

الدليل الأول لزوم الدور وهو إشكال معروف ، وذلك بإعتبار أنَّ القطع بالحكم موقوف على الحكم ، لا بوجوده الخارجي وإنما بوجوده الذهني ، فإنّ المعلوم بالذات الذي يتعلق به العلم هو الوجود الذهني ، والوجود الخارجي للمعلوم هو المعلوم بالعرض وهو المطابَق الخارجي للصورة الذهنية ، ولا إشكال في أنَّ العلم بالشيء يتوقف على المعلوم بالذات توقف كل عارض على معروضه ، فالاحمرار العارض على الجسم موقوف على الجسم ، وهكذا ، فالعلم بالحكم يتوقف على الحكم توقف كل عارض على معروضه ، فإذا أخذنا العلم بالحكم في موضوع نفسه صار الحكم موقوفاً على العلم به توقف كل حكم على ما أشترط فيه وأخذ في موضوعه ، فيلزم الدور.

وبعبارة أخرى إنّ الحكم إذا كان مشروطاً بالعلم به فهو متوقف على العلم به توقف كل حكم على موضوعه ، والحال أنَّ العلم بالحكم يتوقف على الحكم توقف كل عارض على معروضه فيلزم الدور.

وأجيب عن هذا الوجه بالتفريق بين المعلوم بالذات والمعلوم بالعرض ، والمعلوم بالذات هي الصورة الذهنية للشيء هي التي يتعلق بها العلم حقيقية ، بإعتبار أنَّ العلم أمرٌ ذهني فلابد أن يتعلق بأمر ذهني وهو الصورة الذهنية للمعلوم ويسمى بالمعلوم بالذات ، وله مطابَق في الخارج يُعبَّر عنه بالمعلوم بالعرض ، وحل الإشكال بأن يقال :

أنَّ الحكم الذي يتعلق به العلم هو الحكم بوجوده الذهني أي المعلوم بالذات ، فالعلم موقوف على الحكم بوجوده الذهني ، ولا يتوقف العلم على الوجود الخارجي للمعلوم بدليل حصول العلم من دون مُطابَق خارجي كما في حالة الخطأ ، وما يترتب على هذا العلم هو الحكم بوجوده الخارجي أي المعلوم بالعرض ، (إذا علمتَ بوجوب القصر وجَبَ عليك القصر) فالمراد من (وجبَ عليك القصر) وجوده الخارجي الواقعي ، فما يترتب على العلم بالحكم هو الحكم بإعتباره معلوماً بالعرض ، وما يتوقف عليه العلم هو الحكم بوجوده الذهني ، فيتعدد الموقوف والموقوف عليه وينحل إشكال الدور ، فالحكم موقوف على العلم به لكنه الحكم بوجوده الحقيقي الخارجي وهو الذي يثبت بالعلم بالحكم حقيقة وواقعاً ، والعلم بالحكم موقوف على الحكم لكن بوجوده الذهني ، فالذي توقف عليه العلم غير ما يكون موقوفاً على العلم ، فما يكون موقوفاً على العلم هو الوجود الواقعي للحكم ، بينما ما يكون موقوفاً عليه العلم هو الوجود الذهني للحكم ، ومع هذا التعدد ينحل إشكال الدور ، هذا الوجه الأول للإستحالة مع جوابه.

الدليل الثاني لتخريج الإستحالة مبني على فكرة أنَّ القطع بالنسبة الى متعلقه دوره دور الكاشف فقط ولا يساهمُ القطع في صنع المتعلق ، فالمتعلق له علله الخاصة والقطع كاشف فقط ، ولا يُعقل أن يكون القطع دخيلاً في صنع متعلقه وإنما دوره دور المرآة والكاشف فقط ، وبناءً على هذه الفكرة يقال : إنّ القسم الرابع مستحيل ، لأنّ القطع بالحكم إذا كان كاشفاً فقط فكيف يمكن أخذه في موضوع نفس ذلك الحكم ، لأنَّ أخذه في نفس الحكم يعني أنه يُساهم في صنع الحكم ، لأنه شرطٌ فيه والمشروط عدمٌ عند عدم شرطه ، وهذا يعني أنه لا وجود للحكم عند عدم الشرط ، وهذا محال لأنه يعني إنقلاب القطع من دور الكاشف الى دور المساهم في صنع مُتعلّقه ، فإنّ المفروض وحدة الحكم وهو مشروط بالعلم به فيكون العلم مساهماً في صنع الحكم ومن أجزاء علة الحكم ، وهذا خلف كونه كاشفاً فقط الذي هو أمرٌ وجداني واضح ، فلا يكون هذا مقبولاً ولا معقولاً بالنسبة الى نفس المكلف ، فلا يعقل جعله لأنه يكون بلا أثر بالنسبة الى المكلف ، هذا هو الوجه الثاني للإستحالة.