الأستاذ الشيخ هادي آل راضي

بحث الأصول

42/11/17

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع : القطع/ القطع الموضوعي / تقسيمات القطع الموضوعي/ أخذُ القطع بحكمٍ في موضوع الحكم.

الكلام في تقسيمات القطع الموضوعي، القطع الموضوعي هو القطع بالشيء الذي يؤخذ في موضوع حكمٍ من الأحكام ، وهذا الشيء الذي يتعلَّق به القطع تارة يكون موضوعاً من الموضوعات كما إذا قال إذا قطعتَ بخمرية مائع فتجب إراقته ، وأخرى يكون حكماً من الأحكام ، فهنا حكمان حكمٌ يتعلّق به القطع وحكمٌ يترتب على القطع ، كما إذا قال : إذا قطعتَ بوجوب الصلاة فيجب عليك التصدق ، فمتعلق القطع حكمُ شرعي وهو وجوب الصلاة وما يترتب على القطع حكم شرعي أيضاً وهو وجوب التصدق ، والكلام في هذا القسم ، وهو يُتصور على أنحاء :

لأنَّ هذين الحكمين تارة يكونا متخالفين كما مثلنا إذا قطعتَ بوجوب الصلاة فتصدّق ، فوجوب الصلاة ووجوب التصدق حكمان متخالفان ، وهذا القسم لا إشكال في إمكانه ولا محذور فيه ، والقطع بوجوب الصلاة قطع موضوعي.

وأخرى يكونا متضادين كما إذا قال : إذا قطعتَ بوجوب الصلاة حرمت عليك الصلاة ، فمتعلق القطع وجوب الصلاة وما يترتب على القطع بوجوب الصلاة هو حرمة الصلاة ، وهما حكمان متضادان ، قالوا لا إشكال في عدم إمكانه للزوم إجتماع الضدين بنظر القاطع على الأقل ، لأنه يقطع بوجوب الصلاة فعلى تقدير إصابة قطعه للواقع كيف تثبت حرمة الصلاة ، وعلى تقدير الخطأ بأن لم يكن هناك وجوب للصلاة في الواقع فيلزم إجتماع الضدين بنظر القاطع لأنه يرى أنّ قطعه مصيب للواقع وهذا محال أيضاً.

وثالثة يكونا متماثلين كما إذا قيل : إذا قطعتَ بحرمة شرب الخمر حَرًمَ عليك شربه ، ولكن بحرمة أخرى مماثلة للحرمة المقطوع بها ، قالوا هذا غير ممكن أيضاً للزوم إجتماع المثلين إما واقعاً على تقدير إصابة قطعه للواقع بأن كانت هناك حرمة لشرب الخمر واقعاً ، أو بنظر القاطع على تقدير الخطأ ، وهو محال كإجتماع الضدين

ورابعة يكونا متحدين ،كما إذا قال إذا قطعتَ بحرمة شرب الخمر تثبت عليك نفس الحرمة التي قطعتَ بها ، وإذا قطعتَ بوجوب الصلاة ثبتَ عليك الوجوب الذي قطعتَ به ، وهذا الذي وقع فيه الكلام بينهم ، ومرجعه الى إناطة ثبوت الحكم بالعلم به ، فإنَّ معناه إذا علمتَ بالحكم ثبتَ عليك ، فوجوب الصلاة واحد ولا يثبت إلا إذا علمتَ به ، وهذا محل كلام ، فهل يعقل أن يكون من شرائط ثبوت الحكم العلم به أو لا ؟

أما القسم الأول _ إذا كانا متخالفين _ ، إذا قطعتَ بوجوب الصلاة فتصدق ، إذا قطعت بحرمة شرب الخمر فأرقه ، فلا إشكال في إمكانه.

وأما القسم الثاني _ إذا كانا متضادين _ إذا قطعتَ بوجوب الصلاة حرمت عليك الصلاة ، والوجوب والحرمة متضادان ، ومرجع هذا القسم الى الردع عن العمل بالقطع ، فإذا قطعَ بوجوب شيء حَرُم عليه ، وقد تقدم في بحث القطع عدم إمكان الردع عن العمل بالقطع أما بإعتبار لزوم إجتماع الضدين واقعاً على تقدير الإصابة ، وإما بنظر القاطع على تقدير عدم الإصابة ، وكلاهما محال ، وذلك لأنَّ المحال لابد من القطع بعدمه ، وإحتمال المحال محال ، فلو فرضنا أن القاطع أخطأ في قطعه ولكنه في نظره إجتمع الضدان لأنه قاطع بوجوب الصلاة ويثبت له حرمة الصلاة وإجتماع الضدين حتى بنظر القاطع محال لأنه لابد من القطع بعدمه ، هذا إذا كانت الحرمة المترتبة على القطع حرمة واقعية

وأما أن يقال أنَّ الحرمة المترتبة على القطع بوجوب الصلاة حكم ظاهري فهو لا يثبت في حال القطع بل في حال الشك والإحتمال ، هذا ما يقال في القسم الثاني.

وأما القسم الثالث _ إذا كنا متماثلين _ نحو : إذا قطعتً بحرمة شرب الخمر حرم عليك شربه ، لكن الحرمة الثانية غير الحرمة الأولى وإنما هي مماثلة لها ، قالوا هذا محال ، لأنه إما يلزم منه إجتماع المثلين واقعاً أو بنظر الواقع وهو كإجتماع الضدين.

وهذا القسم يتميز بشيء وهو أنه يمكن طرح إحتمال أن يكون الحكم الثاني مؤكداً للحكم الأول فترتفع المحالية ، فلا يُردع عن العمل بقطعه ، ولا يثبت حكم مماثل للحكم الذي قطع به ، بل هو تأكد للحكم الذي قطع به ، (إذا قطعتَ بوجوب الصلاة وجبت عليك الصلاة ) الوجوب الثاني تأكيد للوجوب الذي قطعَ به ، فإذا حملناه على التأكيد يرتفع الإشكال ولا يلزم منه إجتماع المثلين ، بل هناك حكم واحد مؤكد.

وهذا الجواب لا يمكن طرحه في المتضادين فلا معنى لأن تؤكد الحرمةُ الوجوبَ بخلاف المتماثلين فإنه يمكن ذلك.

وإعترض على التَّخلص من المحالية بطرح إحتمال التأكد بأنه لا مجال له لإختلاف رتبة الحكمين بإعتبار أنَّ الحكم المقطوع به متقدم رتبةً على القطع تقدم كل معلوم على العلم به وكل مقطوع على القطع به وكل مظنون على الظن به وكل محتمل على إحتماله وهكذا ، والقطع متقدم رتبة على الحكم المترتب عليه ، إذا قطعتَ بحرمة شرب الخمر يحرم عليك شربه ، هذا حكم متأخر رتبة عن القطع تأخر كل حكم عن موضوعه ، والقطع متأخر رتبة عن الحرمة التي تعلَّق بها ، فالحكم الذي تعلَّق به القطع متقدم رتبة بل رتبتين على الحكم الذي ترتب على القطع .

وبعبارة أخرى الحكم المترتب على القطع (يحرم عليك شربه) متأخر بمرتبتين عن الحكم الذي يتعلق به القطع ، لأنَّ الحكم الذي أُخِذَ القطع في موضوعه متأخر عن القطع بمرتبة والقطع متأخر عن متعلقه بمرتبة ، فبين الحكمين إختلاف رتبي ومع وجود الإختلاف الرتبي لا يكون قابلاً للتأكد ، وكأن المعتبر في التأكد ليس الإتحاد في الوجود الخارجي فقط بل يعتبر فيه عدم إختلاف الرتبة ، وإختلاف الرتبة يمنع من التأكد والتوحد ، هذا الإعتراض الذي طُرِحَ على الإلتزام بالتأكد في القسم الثالث.

لكن إختلاف الرتبة إذا إلتزمنا به والتزمنا بآثاره التي منها حل الإشكال المعروف في إجتماع الأحكام الواقعية والظاهرية ، إذ كيف يكون هذا واجباً واقعاً لكنه مباح ظاهراً ، كيف يجتمع الوجوب الواقعي مع الحرمة الظاهرية؟ أحد وجوه حل إجتماع الأحكام الظاهرية والواقعية هو دعوى إختلاف الرتبة ، بإعتبار أنَّ الحكم الظاهري متأخر عن الشك بالحكم الواقعي ، فيتأخر الحكم الظاهري عن الشك الذي هو موضوعه والشك متأخر عن متعلقه وهو الحكم الواقعي ، فإذا إلتزمنا بمسألة إختلاف الرتبة والتزمنا بآثاره ولوازمه فيرتفع أصل الإشكال في القسم الثالث ، بل في القسم الثاني أيضاً وهو ما إذا كان الحكمان متضادين (إذا قطعتَ بوجوب الصلاة تحرم عليك الصلاة) فالحرمة متأخرة برتبتين عن الوجوب ، فإنَّ الحرمة متأخرة عن القطع والقطع متأخر عن متعلقه وهو وجوب الصلاة ، فإختلاف الرتبة يرفع الإشكال ، فلا ضير في أن يقول : إذا قطعتَ بوجوب الصلاة حرمت عليك الصلاة ، أو يقول : إذا قطعتَ بوجوب الصلاة وجبت عليك الصلاة ، لإختلاف رتبتي هذين الحكمين ، ومع إختلاف الرتبة لا يكون هناك أي إشكال ، هذا إذا آمنَّا به.

لكن الصحيح هو أنَّ التقدم والتأخر في الرتبة ليس ممن الأمور والواقعية الخارجية وإنما هي تصورات ذهنية لأنَّ الذهن عندما يلحظ هذا الشيء وذلك الشيء يجد أنَّ هذا متقدم على ذلك في الذهن وأما في الخارج فلا يوجد تقدم ولا تأخر ، وحتى في باب العلة والمعلول فإنَّ العلة متقدمة على المعلول رتبة وأما في الخارج فهما متقارنان فالتقدم والتأخر موطنه الذهن لا الخارج ، ومثل هذا التقدم والتأخر لا يصحح إجتماع الضدين ولا إجتماع المثلين ، وإلا لأمكن أن يقول : إذا قطعتَ بوجوب الصلاة تحرم عليك الصلاة ، ولكان من الأمور الواضحة لأنَّ بينهما تقدم وتأخر رتبي ، ولكنه لا إشكال عندهم في عدم إمكانه في الضدين ، فلو كان التقدم والتأخر الرتبي ينفع في دفع غائلة إجتماع المثلين لكان نافعاً في دفع غائلة إجتماع الضدين ، وهذا يعني أنَّ التقدم والتأخر الرتبي لا ينفع في دفع محذور إجتماع الضدين ، وكذلك لا ينفع في دفع محذور إجتماع المثلين ، فما قيل في الإعتراض على فكرة التأكد من إختلاف الرتبة فجوابه أنَّ إختلاف الرتبة لا يكون مؤثراً فيما ذُكر .

والصحيح في القسم الثالث هو أن نقول أنَّ الأحكام الشرعية هي أحكام إعتبارية لا واقع لها إلا الإعتبار وليس لها ما بأزاء بالخارج ، وحينئذٍ إذا قلنا بأنَّ المثلين يمكن إجتماعهما في الإعتباريات فالمسألة محلولة ، (إذا قطعتَ بوجوب الصلاة وجبت عليك الصلاة ، إذا قطعت بحرمة الشرب الخمر حرم عليك شربه ) وهكذا ، ولا حاجة حينئذٍ لطرح مسألة التأكد.

وأما إذا قلنا بأنَّ إجتماع المثلين غير ممكن حتى في الأمور الإعتبارية فلابد أن نلتزم بالتأكد فيما لو ورد دليل من هذا القبيل لكن بلحاظ مبادئ الحكم من الحب والبغض والإرادة والكراهة ، فالتأكد في الحب والتأكد في البغض والتأكد في الإرادة وفي الكراهة وليس التأكد في نفس الحكم ، وسيأتي توضيحه إن شاء الله تعالى.