الأستاذ الشيخ هادي آل راضي

بحث الأصول

42/11/15

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع : قيام الأمارات والأصول مقام القطع/ قيام الأمارات مقام القطع / تنبيهات/ التنبيه الثاني والثالث

كان الكلام في التنبيه الثاني ووقع الكلام في أنَّ قيام الأمارة مقام القطع الموضوعي هل هو في طول قيامها مقام القطع الطريقي ومترتب عليه أم لا ، فإذا قامت الأمارة مقام القطع الطريقي في موردٍ فيقال انها تقوم مقام القطع الموضوعي ، وأما إذا فرضنا عدم قيامها مقام القطع الطريقي في موردٍ لأنه ليس له أثرُ في التنجيز فلا معنى لقيام الأمارة مقامه في التنجيز ، والسؤال حينئذٍ هل تقوم الأمارة مقام القطع الموضوعي أم لا ؟

فإن قلنا بالطولية والترتب فلا تقوم الأمارة مقام القطع الموضوعي ، وإن لم نقل بالطولية فعدم قيامها مقام القطع الطريقي في مورد من الموارد لا يعني عدم قيامها مقام القطع الموضوعي ، وهنا تظهر الثمرة ، ويُمثل لذلك بجواز الإفتاء في الأحكام التي لا تتنجَّز على الفقيه كأحكام النساء ، فقيام الأمارة على الحكم في هذه الموارد لا يكون للقطع الطريقي أثر بالنسبة إليه إي لا يُنجُّز تلك الأحكام عليه ، فلو قطع الفقيه بأنَّ حكم الحائض كذا فهذا القطع لا يُنجز الحكم عليه ، فلا تقوم الأمارة مقام القطع في التنجيز في هذه الموارد ، أي لا تقوم الأمارة مقام القطع الطريقي.

وأما قيام الأمارة مقام القطع الموضوعي _ أي القطع بتلك الأحكام _ الذي يؤخذ في موضوع حكم آخر وهو جواز الإفتاء فمرتبط بهذا البحث ، فإذا قلنا بالطولية فلا يجوز له الإفتاء لأنَّ الأمارة لا تقوم مقام القطع الموضوعي، لأنَّ المفروض أنه في طول قيامها مقام القطع الطريقي ، وهي لا تقوم مقام القطع الطريقي في هذه الموارد كما تقدم ، وعليه لا يجوز للفقيه الإفتاء في هذه الموارد لأنه ليس عالماً بهذه الأحكام وجداناً كما هو واضح ، وليس عالماً بها تعبداً لعدم قيام الأمارة مقام القطع الموضوعي بحسب الفرض .

وأما إذا لم نلتزم بالطولية وأنَّ قيام الأمارة مقام القطع الموضوعي هو في عرض قيامها مقام القطع الطريقي ، ففي هذه الموارد وإن لم تقم مقام القطع الطريقي و لكن لا مانع من قيامها مقام القطع الموضوعي ، فلا مانع من إفتاء الفقيه لأنَّ جواز الإفتاء من آثار قيام الأمارة مقام القطع الموضوعي.

ونفس الكلام يقال في جواز الإسناد ، ففي بعض الأخبار تَرِد تفاصيل ترتبط بالبرزخ والصراط ونحو ذلك ، وهذه ليست قابلة للتنجيز كما هو واضح فإنّ القطع بها لا يكون منجزاً لها فضلاً عن الأمارة ، وهذا يعني انَّ الأمارة لا تقوم مقام القطع الطريقي ، لكن العلم بهذه الأمور وقعَ موضوعاً لجواز الإسناد ، فيجوز للعالم بها أن يسندها وينسبها الى الشارع ، والسؤال هل قيام الأمارة على هذه التفاصيل يقوم مقام القطع الموضوعي في جواز الإسناد أم لا ؟

فجواز الإسناد _ بناءً على أنَّ موضوعه العلم _ يترتب على هذا البحث فإذا قلنا بالطولية فلا يجوز الإسناد ، وإذا قلنا بأنهما في عرض واحد فالأمارة وإن لم تقوم مقام القطع الطريقي لأنه ليس له أثر في النجيز ولكنها تقوم مقام القطع الموضوعي ويترتب عليها جواز الإسناد.

والتخلص من هذا الإشكال في هذه الموارد _ جواز الإفتاء وجواز الإسناد _ التي جوازها مُسلَّم عندهم إما على أساس إنكار الطولية فالأمارة وإن لم تقم مقام القطع الطريقي لعدم التنجيز في هذه الموارد ولكنها تقوم مقام القطع الموضوعي فيجوز الإسناد والإفتاء ، وإما أن نُنكر كون جواز الإفتاء وجواز الإسناد مترتب على العلم بهذه الأمور بحيث يكون العلم بها موضوعاً لجواز الإسناد والإفتاء ، بأن نقول أنّ موضوع جواز الإفتاء هو الحكم الواقعي والعلم مجرد طريق لأحرازه ، وفرق بين أن يكون موضوع جواز الإفتاء هو العلم بالحكم الشرعي فيأتي هذا البحث ، وبين يكون موضوعه هو الحكم الواقعي والعلم طريق لإحرازه فهو قطع طريقي وليس قطعاً موضوعياً ، وحينئذٍ يقال إنَّ جواز الإفتاء ثابت بقيام الأمارة حتى إذا قلنا بالطولية لأنَّ جواز الإفتاء حينئذٍ يكون من نتائج قيام الأمارة مقام القطع الطريقي ، فالقطع الطريقي بالحكم الشرعي يترتب عليه جواز الإفتاء وجواز الإسناد والأمارة تقوم مقام العلم الطريقي في ترتب هذا الحكم الشرعي ، فكما أنَّ العلم يُحرز الحكم الواقعي ويجوز الإفتاء به فالأمارة أيضاً تحرزه ويجوز الإفتاء به ، وهذا من نتائج قيام الأمارة مقام القطع الطريقي وليس من تائج قيامها مقام القطع الموضوعي ، لأن المفروض أنَّ العلم المأخوذ في بعض أدلة جواز الإفتاء هو علمٌ طريقي ، أو قل إنَّ جواز الإفتاء موضوعه هو الحكم الواقعي والعلم طريق لإحرازه فإذا قلنا بقيام الأمارة مقام العلم الطريقي فيترتب عليه جواز الإفتاء ، وهذا هو مبنى المتأخرين ، وحتى ما ورد بلسان (إذا علمت فيجوز لك الإفتاء) يكون العلم فيه طريقياً وليس علماً موضوعياً.

فإما أن نقول بعدم الطولية كما هو الأقرب ويكون قيام الأمارة ثابت بدعوى الحكومة أو الورود من دون أن يتوقف على قيام الأمارة مقام العلم الطريقي في التنجيز ، هذا إذا تم قيامها مقام القطع الموضوعي ولا نقول به ، لكن من يقول به يستند الى أنّ دليل إعتبار الأمارة يكون حاكماً على دليل الحكم الشرعي الذي أُخِذ العلم في موضوعه ، أو يكون وارداً عليه فيما إذا قلنا أنّ موضوعه هو الأعم من العلم الوجداني والعلم التعبدي.

وإما أن نقول _ على تقدير الطولية _ أنَّ العلم المأخوذ في أدلة جواز الإفتاء علم طريقي ، وذلك لأنه لا إشكال عندهم في جواز الإفتاء وجواز الإسناد عند قيام الأمارة المعتبرة وهو أمرٌ مفروغ عنه ، ولكن تخريجه يكون بأحد هذين الوجهين.

التنبيه الثالث : ذكر المحقق الخراساني في الكفاية بأنّ الأصول العملية لا تقوم مقام القطع الطريقي فضلاً عن القطع الموضوعي ، واستثنى من ذلك الإستصحاب ، وعلل عدم قيامها مقام القطع الطريقي _ قبل الإستثناء _ بأنها مجرد وظائف عملية تُعطى للشاك لرفع الشك والحيرة في مقام العمل من دون أن يكون لها نظر الى الواقع والتنزيل وجعل البدل كما هو الحال في الأمارة ، فالأمارة النافية للتكليف فإنها ناظرة الى الواقع وتنفي ثبوته في الواقع ، أما البراءة فليس مفادها هذا ، وهكذا الإحتياط فليس مفاده إثبات الحكم الواقعي وإنما يقول هذا الحكم الذي تَشُك فيه آمرك بالإحتياط من جهته في مقام العمل ، أما الأمارة المثبتة للتكليف فهي ناظرة الى الواقع وتقول هذا التكليف ثابتٌ في الواقع.

وإذا كان القطع بالحكم منجزاً على تقدير الإصابة ومعذراً على تقدير عدم الإصابة فمعنى قيام الأمارة مقام القطع هو أنها تُنجِّز التكليف على تقدير الإصابة وتعذر عنه على تقدير عدم الإصابة ، وهذا مُتصور في الأمارات دون الأصول العملية لأنها بصدد علاج حيرة المكلف وشكه من ناحية عملية من دون ملاحظة الواقع المشكوك لا تنجيزاً ولا تعذيراً ، نعم لا يمكن إنكار أنَّ لازم البراءة هو المعذرية كما أنّ لازم الإحتياط هو المنجزية ، لكن هذا التعذير غير المعذرية التي تثبت للأمارة نتيجة قيامها مقام القطع الطريقي ، وكذا التنجيز في الإحتياط غير المنجزية الثابتة للأمارة عند قيامها على إثبات التكليف، وهذا ما سنوضحه في الدرس القادم إن شاء الله تعالى.