الأستاذ الشيخ هادي آل راضي

بحث الأصول

42/11/12

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع : قيام الأمارات والأصول مقام القطع/ قيام الأمارات مقام القطع الطريقي الصفتي/

في الدرس ذكرنا الفرق بين الحكومة الظاهرية والحكومة الواقعية ، والكلام يقع في أنّ حكومة أدلة إعتبار الأمارة على أدلة الأحكام الواقعية التي يؤخذ القطع بالنسبة إليها طريقاً فقط أو أدلة الأحكام الواقعية التي يؤخذ القطع موضوعاً فيها ، فهذه الحكومة _ إذا قلنا بها _ هل هي حكومة ظاهرية في كلٍ منهما أم واقعية في كل منهما أم أنّ الأمر يختلف فيهما ؟

الرأي الأول يقول أنَّ الأمر يختلف فيهما فحكومة أدلة إعتبار الأمارة على أدلة الأحكام الواقعية التي أخذ القطع طريقاً فيها حكومة ظاهرية ، ويبدو أنّ هذا أمرٌ متفق عليه ، والسر فيه أنَّ الأمارة عندما تقوم على حرمة هذا شيء لم يؤخذ في موضوع هذه الحرمة القطع بل هي ثابتة لذات الشيء فيكون القطع طريقياً ، وقيام الأمارة على الحرمة يُنجِّز هذه الحرمة بلا إشكال ولكن بإعتبار الشك في هذه الحرمة ، فهي حرمة ثابتة ظاهراً وفي مورد الشك ، أما الواقع فلا تتصرف فيه ، كثبوت الحرمة لذات الخمر ، فالحرمة الثابتة لهذا الشيء حرمة ظاهرية ، وتنجيز الأمارة لهذه الحرمة يكون بحكومة دليل إعتبار الأمارة على دليل الحكم الواقعي الذي يكون القطع بالنسبة له قطعاً طريقياً ، فهذه الحرمة تُنجِّز الواقع على المكلف بإعتباره شاكاً ، فالحرمة الظاهرية والحكومة كذلك ، ولذا يُتصور فيها الخلاف بأن تكون الأمارة غير مصيبة للواقع وليست هناك حرمة أصلاً ، وهذا من شؤون الحكومة الظاهرية.

وأما حكومة أدلة إعتبار الأمارة على أدلة الأحكام الواقعية التي أُخِذَ القطع موضوعاً فيها من قبيل وجوب الإراقة في ( إذا قطعت بخمرية شيء فأرقه ) فهذا حكم واقعي أُخِذَ العلم موضعاً فيه ، وقيام الأمارة مقام القطع الموضوعي الطريقي _ إذا قلنا به _ الغرض منه ثبوت الحكم بقيام الأمارة على الخمرية كما لو حصل القطع بالخمرية ، فتجب الإراقة على كِلا التقديرين ، والحكم بوجوب الإراقة الذي يثبت بالأمارة حكم واقعيٌ غير ثابت في ظرف الشك في الواقع ، وبقطع النظر عن الحكومة والتوسعة المستفادة من دليل إعتبار الأمارة ، فالمكلف قاطع بعدم ثبوت ذلك الحكم عند قيام الأمارة على خمرية شيء لأن وجوب الإراقة موضوعه العلم وليس لديه علم ، ففي ظرف القطع بعدم الحكم الواقعي _ أي عدم ثبوت وجوب الإراقة عند قيام الأمارة _ يجعل له وجوب الإراقة ، فهذا الحكم ليس ثابتاً بإفتراض الشك فهو حكم واقعي يثبت عند قيام الأمارة على خمرية شيء ، وهذا يعني أنَّ التوسعة واقعية ، أي أنَّ موضوع وجوب الإراقة يتوسع ببركة هذه الحكومة ، فبعد أن كان موضوعها هو العلم بالخمرية صار الأعم من العلم بالخمرية أو قيام الأمارة على الخمرية ، فكما أنه إذا علم بالخمرية يثبت وجوب الإراقة كحكم واقعي كذلك إذا قامت الأمارة على الخمرية يثبت وجوب الإراقة كحكم واقعي.

ومن هنا نقول لا يتصور في الحكومة الواقعية إنكشاف الخلاف لأنَّ موضوع الحكم هو الأعم من العلم ومن قيام الأمارة ، وكما أنَّ العلم حينما أُخِذَ موضوعاً لم يؤخذ فيه إصابة الواقع فكذلك عند قيام الأمارة لم يؤخذ فيها إصابة الواقع ، فموضوع الحكم يتوسع ولا نتصور فيه إنكشاف الخلاف حتى لو كانت الأمارة غير مصيبة للواقع فالحكم يترتب كما هو الحال في العلم ، فإذا علم بالخمرية ثم تبيّن أنَّ علمه غير مُصيبِ للواقع فوجوب الإراقة يثبت كحكم واقعي ، فتكون الحكومة في الثاني _ القطع الموضوعي الطريقي _ حكومة واقعية ، وتكون في الأول _ القطع الطريقي المحض _ حكومة ظاهرية ، والسر في هذا هو دعوى أنَّ المكلف عند قيام الأمارة على خمرية شيء ليس لديه شك بالنسبة الى وجوب الإراقة حتى يكون الحكم المجعول في هذا الظرف حكماً ظاهرياً ، وأما قيام الأمارة بالنسبة الى حرمة الشرب فالشك موجود في ثبوت مؤدى الأمارة واقعاً ، ففي ظرف الشك في ثبوت مؤدى الأمارة واقعاً تُجعل له الأمارة حجة ، أي تُجعل الأمارة مُنجِّزة لهذا الحكم الذي أخبرت عنه ، فتتنجز عليه الحرمة ، وهذا التنجز تنجزٌ ظاهري ثابتٌ في ظرف الشك ، أما وجوب الإراقة _ بقطع النظر عن الحكومة _ فغير واجب قطعاً لأنَّ موضوعه العلم ولا علم لدى المكلف ، فليس شاكاً في وجوب الإراقة بل هو قاطعٌ بعدمها ، وفي ظرف عدم الشك تكون الحكومة وتُنزَّل الأمارة منزل القطع ، فهذه الحكومة واقعية ولا يعقل أن تكون ظاهرية لأنها ليست ثابتة في ظرف الشك ، هذا هو الرأي الأول.

الرأي الثاني : الذي إختاره المحقق النائيني قده وهو أنَّ الحكومة في كلٍ منهما حكومة ظاهرية ، أما قيام الأمارة مقام القطع الطريقي المحض فبما تقدم بيانه وقلنا أنَّ الظاهر أنه متفقٌ عليه ، وإنما الكلام في قيامها مقام القطع الموضوعي الطريقي ، فالحكومة _ لو قلنا بها _ هل هي حكومة ظاهرية أو واقعية ؟

المحقق النائيني يقول هي حكومة ظاهرية أيضاً وذلك بإعتبار أنّ دليل إعتبار الأمارة مفاده إعتبار الأمارة علماً ، وهذا يعني ترتب آثار العلم على الأمارة من دون فرق بين أن تكون آثاراً عقلية كالتنجيز والتعذير أو آثاراً شرعية ، فالعلم حينما يتعلق بشرب الخمر أثره تنجيز هذه الحرمة وإدخالها في عهدة المكلف والأمارة تقوم مقام العلم في التنجيز ، وكذا الكلام في التعذير فعند قيام العلم على نفي الحكم يكون معذراً وتقوم الأمارة مقامه في التعذير وهذه آثار عقلية ، وأيضاً تترتب على الأمارة الآثار الشرعية المترتبة على العلم من قبيل وجوب الإراقة في المثال فإنَّ وجوب الإراقة حكم شرعي مترتب على العلم بالخمرية فإذا قامت الأمارة مقامه ترتب عليها الحكم الشرعي ، يقول المحقق النائيني إنّ دليل إعتبار الأمارة يكفي في ترتيب جميع آثار العلم العقلية الشرعية على الأمارة ، وهذه حكومة ظاهرية وفي مقام الإثبات لأنَّ دليل الأمارة لا يتكفل توسعة موضوع الحكم في الواقع وإنما هو في مقام إحراز الواقع يفرض التوسعة والحكومة فكما تُحرَز الخمرية بالعلم تُحرَز أيضاً بقيام الأمارة بإعتبارها علماً ، والواقع يبقى على حاله ويبقى وجوب الإراقة موضوعه هو العلم بالخمرية.

وهنا يمكن أن نتصور إنكشاف الخلاف بمعنى أن تكون الأمارة غير مصيبة للواقع فلا يكون هذا خمراً واقعاً ، فيكون وجوب الإراقة ظاهرياً ، فإذا تبين خطأ الأمارة يتبيَّن عدم وجوب الإراقة لأن هذا ليس خمراً واقعاً .

فمن قامت عنده الأمارة على خمرية شيء لأنه شاك في الخمرية وغير عالم به تُجعل له الأمارة محرزة للخمرية كالعلم فهي توسعة في دائرة إحراز الواقع لا في نفس الواقع ، وتترتب على هذه التوسعة جميع آثار العلم.

ومن هنا يتبين بما ذكره المحقق النائيني بأنَّ ما أُستدل له في الرأي الأول ليس صحيحاً ، فلا يمكن القول بأن من قامت عنده الأمارة على خمرية شيء ليس شاكاً وأنَّ المكلف قاطعٌ بعدم وجوب الإراقة لأنَّ موضوعها العلم وليس لديه علم كما قيل ، بل هو شاك في ثبوت مؤدى الأمارة بقيامها عنده ، فإذا قيل مثلاً ( إذا قطعت بوجوب الصلاة فتصدق ) فالحكومة والتوسعة تثبت في ظرف الشك في ثبوت مؤدى الأمارة ، فيكون حكماً ظاهرياً ، والحكومة ظاهرية وليست حكومة واقعية ، لأنَّ المكلف ليس قاطعاً بعدم ثبوت مؤدى الأمارة.

التنبيه الثاني : بناءً على قيام الأمارة مقام القطع الطريقي المحض وقيامها مقام القطع الموضوعي الطريقي ، يقع الكلام في أنّ قيام الأمارة مقام القطع الموضوعي الطريقي هل هو في طول قيامها مقام القطع الطريقي المحض أم هما في عَرَض واحد ؟

فإذا قلنا بالطولية والترتب فمعناه إذا لم تقم الأمارة مقام القطع الطريقي المحض في موردٍ ما فلا تقوم مقام القطع الموضوعي الطريقي لأنَّ القيام الثاني متفرعٌ على القيام الأول .

وإما إذا لم نقل بالطولية وأنهما يثبتان في عرض واحد بلا ترتب بينهما فتقوم الأمارة مقام القطع الموضوعي الطريقي حتى في مورد لم تقم فيه مقام القطع الطريقي المحض.

قالوا يظهر أثره في جواز الإفتاء ، فالفقيه لديه أحكام يستنبطها من الأدلة ويعلم بها وهي محل ابتلائه كما هي محل إبتلاء الآخرين ، وهي معظم الأحكام ، وهناك أحكام يعلم بها ويستنبطها من الأدلة ولكنها ليست محل ابتلائه كأحكام النساء ، ولذا لا تتنجّز عليه ، فعلمه بهذه الأحكام ليس له أثر بالنسبة له ، أي لا يُنجِّز العلم عليه هذه الأحكام ، بخلاف علمه بحرمة شرب الخمر فأنه يُنجزَّه عليه ، أما علمه بأنَّ المستحاضة يجب عليها أن تغتسل ثلاثة أغسال في بعض حالاتها فلا يتنجزَّ عليه أصلاً ، وهذا معناه أنّ الأمارة لا تقوم مقام العلم في تنجيز تلك الأحكام لأنها لا تتنجز عليه بالعلم ، وهذا معناه أنَّ الأمارة في هذا المورد لا تقوم مقام القطع الطريق المحض لأنَّ معنى قيامها مقام القطع الطريقي المحض هو أنها تُنَجِّز الحكم كما أنّ العلم يُنجزَّه وفي هذه الأحكام لا معنى لتنجزِّها على الفقيه.

نعم هذه الأحكام العلم بها أُخِذَ موضوعاً لحكم آخر هو جواز الإفتاء ، فإذا عَلِمَ الفقه بحكمِ يرتبط بالحيض والنفاس فهذا العلم يكون مأخوذاً في موضوع جواز الإفتاء فيجوز له الإفتاء.

وهنا تظهر ثمرة البحث فإذا قلنا بالطولية فالأمارة لا تقوم مقام القطع الموضوعي الطريقي ، فإذا قامت الأمارة على حكم من أحكام النساء فهذا لا يقوم مقام العلم بذلك الحكم بلحاظ جواز الإفتاء ، لأنَّ قيامها مقام العلم الموضوعي الطريقي فرع قيامها مقام القطع الطريق المحض ، ولا تقوم مقامه على القول بالطولية ، وأما إذا قلنا أنهما في عَرَض واحد فالأمارة تقوم مقام القطع الموضوعي الطريقي في إثبات جواز الإفتاء وإن لم تقم مقام القطع الطريقي المحض بالنسبة الى تلك الأحكام.