42/11/11
الموضوع : قيام الأمارات والأصول مقام القطع/ قيام الأمارات مقام القطع الطريقي الصفتي /
تعرضنا في الدرس السابق الى الإشكال الإثباتي في قيام الأمارة مقام القطع الطريقي المحض وقيامها مقام القطع الموضوعي الطريقي ، وهو هل يمكن أن نستفيد من دليل إعتبار الأمارة قيامها مقام هذين الأمرين أم لا ؟
فإن إستفدنا ذلك من دليل الإعتبار ثبت كِلا الأمرين ، وإما إذا قلنا أنّ دليل الإعتبار لا يُساعد إلا على قيام الأمارة مقام القطع الطريقي المحض دون قيامها مقام القطع الموضوعي الطريقي فلا يثبت به إلا الأول.
وقلنا أيضاً أنّ عمدة أدلة إعتبار الأمارات هي السيرة العقلائية ، وعند ملاحظتها لا نجد في أحكام العقلاء ما يكون القطع موضوعياً بالنسبة لها ، وأحكامهم كلها ثابتة للواقع والقطع يكون طريقاً لإحراز تلك الأحكام ، فقد يقال بإمكان إستفادة الإمضاء الشرعي لسيرة العقلاء على العمل بالأمارات والطرق الظنية بالنسبة الى أحكامهم التي أُخِذَ العلم فيها موضوعاً ، فإذا أمضى الشارع ذلك فهذا يعني رضاه بقيام الأمارة مقام القطع الموضوعي الطريقي ، وهو المطلوب .
وجوابه: أنَّ العقلاء ليس لديهم قطوع موضوعية ، وعملهم بالأمارة ليس لإثبات الأحكام التي أُخِذَ القطع في موضوعها وإنما عملهم بها لإثبات الواقع ، وهذا يعني قيام الأمارة مقام العلم الذي يؤخذ كطريق للواقع ، وهذا العمل إذا أمضاه الشارع فلا يُستفاد منه إلا قيام الأمارة مقام القطع الطريق المحض.
فنكتة منع وفاء الدليل لكلا الأمرين هي عدم وجود أحكام أُخِذَ القطع في موضوعها عند العقلاء ، وإنما أحكامهم دائماً ثابتة للواقع والعلم ليس دخيلاً فيها.
ومن هنا قد يقال: سلَّمنا أن العقلاء ليس لهم أحكام أُخِذَ العلم في موضوعها ، لكن ما الضير في القول بأنَّ سيرة العقلاء إنعقدت على قيام الأمارة مقام الموضوعي الطريقي بالنسبة الى الأحكام الشرعية ، فيُنِّزلون الأمارة منزلة العلم في ترتب تلك الأحكام الشرعية.
وجوابه :
أولاً: لا نُسلَّم وجود مثل هذا البناء عند العقلاء ، وكيف يتم إثبات هذا المدعى ؟
وثانياً: إنّ كلّ حاكم له حق التصرف في موضوعه وليس له حق الصرف في موضوع حاكم آخر ، ومرجع هذه الدعوى الى أنَّ العقلاء يتصرفون في موضوع الحكم الشرعي ، لأن المفروض أن الحكم الشرعي أُخِذَ العلم في موضوعه والعقلاء يتصرفون فيه ويُنزلون الأمارة منزلة العلم في إثبات هذا الحكم ، وليس للعقلاء حق التصرف في موضوعات الأحكام الثابتة عند حاكم آخر ، بل هو ممنوع على تقدير وجوده ، نعم بإمكانهم التصرف في موضوع الحكم العقلائي ولكنه ليس محل الكلام.
فالنتيجة أنَّ قيام الأمارة مقام القطع الطريقي المحض وقيامها مقام القطع الموضوعي الطريقي وإن لم تكن فيه مشكلة ثبوتية لكن فيه مشكلة إثباتية ، بمعنى أن دليل إعتبار الأمارة لا يُساعد على قيامها بلحاظ كِلا الأمرين ، وإنما يُساعد على قيامها مقام القطع الطريقي المحض لأنه مما جرت عليه سيرة العقلاء ، ومن دليل الإمضاء نستفيد أن الشارع جعل الأمارة عنده تقوم مقام العلم الطريقي المحض ، فحرمة شرب الخمر لا تتوقف على العلم بالخمرية شرعاً بل كما تثبت عند العلم بالخمرية كذلك تثبت عند قيام الأمارة عليها ، وهذا من نتائج قيام الأمارة مقام القطع الطريقي.
نعم لا يمكن إستفادة وجوب الإراقة من الدليل في المثال السابق لأنه لم يثبت قيام الأمارة مقام القطع الموضوعي الطريقي.
هذا تمام الكلام في المقام الثاني.
المقام الثالث : قيام الأمارة مقام القطع الموضوعي الصفتي
ذكرنا رأي صاحب الكفاية سابقاً ، وهو يرى أنَّ هناك قصوراً في عالم الإثبات يمنع من قيام الأمارة مقام القطع الموضوعي الصفتي ، بل ذَكَرَ هذا حتى في قيام القطع الموضوعي الطريقي وقد أيدناه في ذلك كما تقدم .
وكان يقول أنَّ المستفاد من دليل إعتبار الأمارة هو قيام الأمارة مقام القطع بلحاظ الإحكام الثابتة له بما هو حجة ، فكل قطع يكون حجة في إثبات الحكم تقوم الأمارة مقامه ، أما الأحكام التي تترتب على القطع بإعتباره صفة أو موضوعاً من الموضوعات من دون أن يكون هذا القطع حجة في إثبات الحكم فلا نستفيد من دليل إعتبار الأمارة قيامها مقامه ، ولذا يجري هذا الإشكال الإثباتي في المقامين الثاني والثالث لأنه في كلٍ منهما أُخِذَ القطع موضوعاً أو صفة في الحكم ، وليس طريقاً لهذا الحكم ، كأخذ القطع في موضوع وجوب الإراقة (إذا قطعت بحرمة شرب الخمر فأرقه) ، وهذا القطع بالخمرية ليس طريقياً لوجوب الإراقة وإنما هو موضوع لوجوب الإراقة ، نعم هو طريق لحرمة الشرب وحجة فيه.
فيُطرح في المقام الثالث الإشكال الإثباتي وهو نفس ما ذكرناه في المقام الثاني ، من أنّ دليل إعتبار الأمارة هو السيرة العقلائية ولا توجد فيها قطوع موضوعية سواءً كانت بنحو القطع الموضوعي الطريقي أو الصفتي حتى يدعى عملهم بالأمارة لإثبات تلك الأحكام ثم يأتي الإمضاء لإثبات هذه السيرة فيثبت قيام الأمارة مقام القطع الموضوعي الطريقي والصفتي ، لا يوجد مثل هذه الأحكام عند العقلاء ، وإنما الموجود عندهم هو القطع الطريقي المحض أي الأحكام الثابتة للواقع وليس العلم دخيلاً فيها ، فالإمضاء إنما يكون للقطع الطريقي المحض لا غير.
والإشكال الثبوتي الذي طَرَحه في المقام الثاني وأجبنا عنه على تقدير تماميته يرد أيضاً في قيام الأمارة مقام القطع الصفتي ، بل لعله يكون هنا أوضح ، وكان حاصله هو أنَّ قيام الأمارة مقام القطع الموضوعي الطريقي يستلزم لحاظ الظن والعلم باللحاظ الإستقلالي في حين أنَّ قيامها مقام القطع الطريقي المحض يستلزم لحاظهما باللحاظ الآلي ففي آن واحد وتنزيل واحد يلحظ الظن والعلم باللحاظ الآلي والإستقلالي وهو غير ممكن.
واللحاظ الإستقلالي هنا أوضح لأنّ العلم يؤخذ بما هو صفة خاصة فلابد من أن يلحظ باللحاظ الإستقلالي ، وهذا لا يجتمع مع لحاظ العلم باللحاظ الآلي الذي هو لازم قيام الأمارة مقام القطع الطريقي المحض.
والجواب المتقدم عن الإشكال الثبوتي يأتي هنا أيضاً ، فيبقى الإشكال الإثباتي وارد هنا ونحن نوافق عليه بالصيغة التي طرحناها ، وما ذكره صاحب الكفاية من أنَّ أدلة إعتبار الأمارة لا يُستفاد منها إلا قيامها مقام القطع في ترتيب الأحكام الثابتة له بما هو حجة يمكن أن يكون عبارة أخرى عن ما ذكرناه ، فإنّ دليل إعتبار الأمارة هو السيرة ولم تقم إلا على قيام الأمارة مقام القطع الطريقي المحض أي في ترتيب الأحكام الثابتة له بما هو حجة ومثبت لها كحرمة الشرب في المثال فالإشكال الثبوتي غير وارد ، لكن الإشكال الإثباتي وارد وهو الذي يمنع في كِلا المقامين الثاني والثالث من الإلتزام بقيام الأمارة مقام القطع الموضوعي بنفس دليل إعتبارها.
الى هنا يتم الكلام في المقامات الثالثة.
وهناك تنبيهات تُذكر في المقام وترتبط بهذا البحث نتطرق الى بعضها :
التنبيه الأول: ونتطرق فيه الى حكومة الظاهرية والواقعية والفرق بينهما
إذا قلنا بحكومة أدلة إعتبار الأمارة على أدلة الأحكام الواقعية فتارة نقول بأنّ أدلة إعتبار الأمارة حاكمة على دليل الحكم الواقعي الذي يكون القطع طريقاً له ، أي الحكومة الثابتة عند تنزيل الأمارة منزلة القطع الطريقي المحض .
وأخرى نقول بحكومة دليل إعتبار الأمارة على أدلة الأحكام الواقعية التي أُخِذَ العلم في موضوعها ، _ والحكومة تكون بين أدلة الأحكام لا بين نفس الأحكام _ .
والأولى كحكومة دليل إعتبار الأمارة على دليل الدال على حرمة شرب الخمر ، والثانية كحكومة دليل إعتبار الأمارة على دليل الحكم الواقعي الذي أُخِذَ العلم موضوعاً فيه مثل (إذا قطعت بخمرية المائع فأرقه) _ هذا إذا قلنا بالحكومة_.
والكلام الفرق بين الحكومتين فهل يوجد فرقٌ بينهما أم لا ؟
المدعى أنَّ الحكومة الأولى حكومة ظاهرية والحكومة الثانية حكومة واقعية ، والمقصود بالحكومة الظاهرية _ وهي في المقام حكومة توسعة _ هي الحكومة التي تَثبت بلحاظ الشك في الحكم الموسَّع ، فعند الشك في الحكم الموسَّع تأتي هذه الحكومة وتوسِع من دائرة الحكم الموسَّع الثابت بالدليل المحكوم ، من دون أن يحدث بسبب هذه الحكومة توسعة واقعية ، فالتوسعة في الظاهر وفي مقام الشك.
والمقصود من الحكومة الواقعية هي الحكومة التي تُحدث توسعة في الواقع لا بلحاظ الشك ، فمثلاً : ( الطواف في البيت صلاة ) حكومة موسعة توسعة واقعية ، إذا لا شك في أنّ أحكام الصلاة لا تثبت للطواف ، ولكن الدليل يدل على تنزيل الطواف منزلة الصلاة ، وهذه توسعة في الحكم الشرعي ، وهي توسعة واقعية لا في ظرف الشك في الحكم الموسَّع ، وإنما تأتي مع القطع بعدم ثبوت الحكم الموسَّع لولا الحكومة والتوسعة ، فهذه توسعة واقعية لا تثبت في ظرف الشك في الحكم الموسَّع بل في ظرف العلم بعدم ثبوته ، فهذه الأحكام المترتبة على الصلاة تترتب واقعاً على الطواف لا في ظرف الشك ، فالطهارة من أحكام الصلاة وتثبت للطواف واقعاً بالحكومة ، ولذا لا يُتصور فيها إنكشاف الخلاف ، بينما التوسعة الظاهرية يُتصور فيها إنكشاف الخلاف لأنها ثابتة بلحاظ الشك في ثبوت الحكم الموسَّع ، وكل حكم يثبت في الحكم الموسَّع في ظرف الشك هو حكم ظاهري.
والكلام يقع في أنَّ الحكومة في تنزيل الأمارة منزلة القطع الطريقي المحض _ إذا قلنا بها _ والحكومة في تنزيل الأمارة منزلة القطع الموضوعي الطريقي والموضوعي الصفتي هل هناك فرقٌ بينهما فكل منهما حكومة ظاهرية أو واقعية ، أو أنَّ أحدهما حكومة ظاهرية والأخرى حكومة واقعية ، هذا هو محل الكلام .