42/11/10
الموضوع : قيام الأمارات والأصول مقام القطع/قيام الأمارات مقام القطع الطريقي الموضوعي/أجوبة الإشكال الثبوتي .
الجواب الثالث : أنَّ الإشكال الثبوتي مبني على إفتراض أنّ مفاد دليل إعتبار الأمارة هو التنزيل ، أي تنزيل الظن منزلة العلم وتنزيل المؤدى منزلة الواقع ، حتى يتكفل هذا الدليل الواحد تنزيل الأمارة منزلة القطع الطريقي المحض وتنزيلها منزلة القطع الموضوعي الطريقي ، فهناك تنزيلان تنزيل الظن منزلة العلم وينتج قيام الأمارة مقام القطع الموضوعي الطريقي ، وتنزيل المؤدى منزلة الواقع وينتج قيام الأمارة مقام القطع الطريق المحض ، فمفاد دليل إعتبار الأمارة هو التنزيل ، ومقتضى إطلاقه هو تنزيل الظن منزلة العلم وتنزيل المؤدى منزلة الواقع ، وبالتالي قيام الأمارة مقام القطع الطريقي المحض وقيامها مقام القطع الموضوعي الطريقي.
وهذا الجواب يقول إنّ التنزيل بمعناه الاصطلاحي غير متصور في المقام ، والتنزيل الإصطلاحي يعني تنزيل شيءٍ منزلة شيءٍ آخر بلحاظ أثرٍ شرعي ، فيُشترط فيه أن يكون المنزَّل عليه له أثرٌ شرعي ، والتنزيل يُنزِّل الـمُنزَّل على الـمُنزَّل عليه بلحاظ ذلك الأثر الشرعي ، فيكون الغرض من التنزيل هو ترتيب الأثر الشرعي للمنزَّل عليه على المنزَّل ، فـــ (الطواف في البيت صلاة) يُنزَّل الطواف فيه منزلة الصلاة بلحاظ آثارها الشرعية كالطهارة ، فلابد من إفتراض مُنزَّل ومُنزَّل عليه وأثر شرعي للمنزَّل عليه ، وهذا المعنى معقول في تنزيل الظن منزلة العلم الذي يُنتج قيام الأمارة مقام القطع الموضوعي الطريقي ، لأنَّ فيه أُخذ العلم موضوعاً في الحكم الشرعي (إذا قطعت بخمرية شيء فأرقه) فيُنزلَّ الظن منزلة العلم الذي أُخذ في موضوع وجوب الإراقة ، فالتنزيل الإصطلاحي معقول هنا لترتيب الأثر على الظن وهو وجوب الإراقة ، فهنا المنزَّل عليه هو العلم المأخوذ موضوعاً في الدليل ، وله أثر شرعي هو الحكم _ وجوب الإراقة في المثال _ والظن يُنزل منزلة العلم لغرض ترتيب ذلك الأثر الشرعي.
لكن هذا التنزيل غير متصورٍ في تنزيل المؤدى منزلة الواقع لأنّ الواقع هو نفس الحكم الشرعي وليس له أثرٌ شرعي ، فليس هناك واقع له أثر شرعي حتى يُقال أنّ المؤدى يُنزل منزلة الواقع بلحاظ أثر الواقع الشرعي ، وفرق بين العلم الذي له أثر شرعي هو الحكم والواقع الذي هو نفس الحكم وليس له أثرٌ شرعي.
فكأنّ عدم تصور التنزيل بمعنى الإصطلاحي في تنزيل المؤدى من منزلة الواقع بالنسبة الى القطع الطريقي المحض يُلزمنا بأنَّ نقول أنّ دليل إعتبار الأمارة لا يُراد به التنزيل بمعناه الإصطلاحي وإنما يُراد به التشبيه وجعل هذا مثل ذاك ، ومرجعه الى لزوم العمل بالمؤدى واعتباره كأنه هو الواقع ، أي الى لزوم العمل على طبق الأمارة وكأنه الواقع ، هذا هو مفاد دليل إعتبار الأمارة ، وخلاصته أنه يؤمر بالتعامل مع الأمارة كما يُتعامل مع الواقع .
فإذا فسَّرنا دليل الإعتبار بهذا التفسير فلا مشكلة في قيام الأمارة مقام القطع الطريقي المحض والقطع الموضوعي الطريقي ، فإذا قامت الأمارة على أنَّ هذا خمر ثبتت حرمة الشرب ووجوب الإراقة معاً ، كما لو قطعتُ بأنّه خمر فتثبُت حرمة الشرب ووجوب الإراقة ، فكما يُرتِب العلم بالخمرية كِلا الأثرين فكذلك قيام الأمارة يَترتب عليه كِلا الأثرين وهذا معناه قيام الأمارة مقام القطع الطريقي المحض وقيامها مقام القطع الموضوعي الطريقي من دون أن يلزم من ذلك الإشكال الثبوتي.
ويلاحظ عليه يمكن أنّ نتصور التنزيل بمعناه الإصطلاحي حتى في تنزيل المؤدى منزلة الواقع ، فللواقع أثر لا يمكن إنكاره وهو التنجيز التعذير ، وإن لم يكن أثراً شرعياً ، فيُنزل المؤدى منزلة الواقع بلحاظ أثره العقلي وهو التنجيز والتعذير ، ويُنزل الظن منزلة العلم بلحاظ أثره الشرعي ، وهذا معناه قيام الأمارة مقام القطع الطريقي المحض وقيامها مقام القطع الموضوعي الطريقي ، ولا توجد ضرورة لتفسير التنزيل بمعنى آخر وهو التشبيه كما قيل في الجواب ، فهذا الجواب ليس تاماً.
هذه هي الأجوبة عن الإشكال الثبوتي ، وبذلك يتبيَّن إمكان دفعه بأحد الجوابين السابقين ، ويمكن تجاوز الملاحظات على الجواب الأول إذا إفترضنا الحكومة كما ذكرنا هناك.
الإشكال الإثباتي : هل يمكن أن نستفيد من دليل إعتبار الأمارة تكفله بقيام الأمارة مقام القطع الطريق المحض وقيامها مقام القطع الموضوعي الطريقي ؟
وهذا البحث لابد منه لأنَّ مجرد إثبات إمكان أن يتكفل دليل إعتبار الأمارة بكِلا التنزيلين لا يكفي في الإلتزام بكِلا التنزيلين ما لم يدل الدليل عليه ، فإنَّ دفع الإشكال الثبوتي يُثبت الإمكان فقط ولا يمكن التعويل عليه في إثبات كِلا التنزيلين ، ولابد من إستئناف بحث إثباتي في إستفادة ذلك من دليل إعتبار الأمارة ، فهل يمكن إستفادة ذلك من دليل الإعتبار أو لا يمكن ذلك ؟
وهذا البحث يستدعي ملاحظة أدلة إعتبار الأمارة ، ولا يخفى بأنّ عُمدتها هو السيرة العقلائية خصوصاً في الشبهات الحكمية ، والأدلة اللفظية الدالة على إعتبار الأمارات كثيرة وبألسنة مختلفة لكن هناك إحتمال كبير ودعوى أنَّ جميع الأدلة اللفظية إنما هي إمضاء للسيرة العقلائية وليست أدلة تأسيسية ، وحينئذٍ تتحدد هذه الأدلة بحدود السيرة ولا يَثبت بالأدلة اللفظية ما هو أوسع من الدائرة مما تُثبتُهُ السيرة ، ولو كانت الأدلة اللفظية تأسيسية فقد يُستفاد من إطلاقها أنّ دائرة الحجية أوسع منها في السيرة العقلائية ، لكنها إمضائية للسيرة فلابد من ملاحظة الممضى وهو السيرة العقلائية أولاً.
بل يمكن أن يقال حتى لو تنزلنا وسلَّمنا بأنَّ الأدلة اللفظية الدالة على حجية الأمارة ليست إمضائية وإنما هي تأسيسية فيمكن أن يقال أنَّ الأدلة اللفظية ليس فيها ما يمكن أن يُدعى أنه يتكفل بقيام الأمارة مقام القطع الطريقي المحض وقيامها مقام القطع الموضوعي الطريقي إلا بعض الأدلة اللفظية ، وإلا فمعظم الأدلة لا يمكن أن نستفيد منها ذلك .
مثلاً الرواية المعروفة ( أفيونس بن عبد الرحمن ثقة آخذ عنه ما أحتاج إليه من معالم ديني فقال: نعم.) أو (صدّق العادل) الذي إختصروا به مفاد الأدلة ، لا يمكن أن يتكفل هذا الدليل بقيام الأمارة مقام القطع الطريقي المحض وقيامها مقام القطع الموضوعي الطريقي ، وإذا كان هناك دليل لفظي يمكن أن يُدعى تَكفُله كِلا الأمرين فهو رواية القاسم إبن العلاء ( فإنه لا عذرَ لأحد من موالينا في التشكيك فيما يرويه عنّا ثقاتنا ...)
فقد يُقال أنَّ هذا الحديث يدل على عدم جواز إظهار الشك عملاً ، وهذا يعني وجوب ترتيب أثر العلم وعدم الشك ، وقد يقال أنه بإطلاقه يشمل جميع آثار العلم العقلية ، وهو معنى قيام الأمارة مقام القطع الطريقي المحض ، والشرعية ، وهو معنى قيام الأمارة مقام القطع الموضوعي الطريقي ، فقد يُدعى فيه ذلك.
لكنه غير تام سنداً ففي رجاله أحمد بن إبراهيم المراغي ، ولم تَثبت وثاقته ، فتكون الرواية ضعيفة سنداً ، مضافاً أنَّ التعبير بـــ (ثقاتنا) وإضافة الثقة الى الإمام عليه السلام إنما يدل على حجية خبر ثقاتهم لا خبر الثقة الذي هو محل الكلام ، فتثبت الحجية في دائرة أخص من المطلوب ، وإذا كان الراوي من ثقاتهم عليهم السلام فهذا يساوق القطع ولا يكون من باب الأمارات.
وعلى أي حال الأدلة اللفظية أدلة إمضائية للسيرة فتتحدد بحدود السيرة ، ولابد من ملاحظة السيرة ، فهل نستفيد من السيرة قيام الأمارة مقام القطع الطريقي المحض وقيامها مقام القطع الموضوعي الطريقي أم لا ؟
نقول : إذا لاحظنا سيرة العقلاء سنجد أمرين :
الأمر الأول : أنَّ القطع الموضوعي الذي يؤخذ في موضوع الحكم لا وجود له في أحكام العقلاء ، وإذا وجد فنادر جداً ، وإنما الموجود عندهم هو القطع الطريقي ، فلديهم أحكام ثابتة لعناوينها والقطع مجرد طريق لها وليس دخيلاً فيها .
الأمر الثاني : إنّ سيرة العقلاء بلحاظ ما بنوا عليه من حجية بعض الأمارات كخبر الثقة منعقدة على الحجية ومعنى هذا هو إعتبار الأمارة حجة أي منجزة ومعذرة ، وبعبارة أخرى الأمارة عند العقلاء تقوم مقام القطع الطريقي ، فإذا قطع العبد بحكم من أحكام المولى يكون هذا القطع منجزاً لذلك الحكم ، ونجد في سيرتهم أنهم يتعاملون مع خبر الثقة من حيث التنجيز والتعذير كما يتعاملون مع القطع ، فكما إذا قطعَ العبد بحكم المولى يتنجز عليه ويستحق اللوم على المخالفة فكذلك إذا أخبره الثقة بحكم المولى ، وهذا معناه أنَّ الأمارة عندهم تقوم مقام القطع الطريقي المحض في التنجيز والتعذير ، ولا يمكن الإستفادة من سيرتهم البناء على قيام الأمارة مقام القطع الموضوعي الطريقي لعدم وجود القطوع الموضوعية في أحكامهم ، فإذا ثبتَ الإمضاء من قِبل الشارع فما يثبُت به هو قيام الأمارة مقام القطع الطريقي المحض بلحاظ أحكام الشارع أيضاً ، فالأمارة تقوم مقام القطع الطريقي المحض في الأحكام الشرعية ، ولا تقوم مقام القطع الموضوعي الطريقي بلحاظ الأحكام الشرعية.