42/11/09
الموضوع : قيام الأمارات والأصول مقام القطع/قيام الأمارات مقام القطع الطريقي المحض/أجوبة الإشكال الثبوتي.
لا زال الكلام في الإشكال الثبوتي الذي طُرحَ في مسألة قيام الأمارة مقام القطع الطريقي المحض وقيامها مقام القطع الموضوعي الطريقي وتكفُّل دليل الإعتبار بكِلا الأمرين ، وحاصل الإشكال الثبوتي هو إجتماع اللحاظين الآلي والإستقلالي على ملحوظ واحد في آن واحد وهو غير ممكن.
وذكرنا الجواب الأول وهو ما عن المحقق النائيني قده وخلاصته إنّ الإشكال إنما يرد إذا قلنا بمسلك جعل المؤدى ، أي أنَّ دليل إعتبار الأمارة يجعل مؤدى الأمارة بمنزلة الواقع ، وأما إذا لم نقل بذلك وقلنا بجعل الطريقية والمحرزية والعلمية فلا يرد هذا الإشكال ، إذ لا نلحظ المؤدى والواقع حتى يقال أنَّ لحاظ المؤدى لا يكون إلا من خلال لحاظ الظن فلابد أن يُلحظ الظن في التنزيل باللحاظ الآلي ، كما أنَّ لحاظ الواقع في التنزيل لا يكون إلا من خلال القطع وهو طريق الى الواقع فيكون ملحوظاً في التنزيل باللحاظ الآلي أيضاً وهذا لا يجتمع مع اللحاظ الإستقلالي الذي يقتضيه قيام الأمارة مقام القطع الموضوعي الطريقي.
وأما على مبنى جعل العلمية والطريقية فدليل الإعتبار يجعل المحرزية والكاشفية الثابتة للقطع ويُثبتها للأمارة ويقول الأمارة علم ومحرزة للواقع بتتميم الكشف ، ولا نلاحظ على هذا المسلك المؤدى والواقع حتى يقال يلزم إجتماع اللحاظين الآلي والإستقلالي ، فالملحوظ في المقام هو الأمارة والقطع ودليل الإعتبار يجعل المحرزية والكاشفية للأمارة ، فيترتب على الأمارة كل ما يترتب على القطع من الآثار العقلية والشرعية ، لأنها من آثار الواقع المحرز وبدليل إعتبار الأمارة تكون الأمارة محرزة للواقع.
وهذا الجواب مبنائي كما هو واضح ، وظاهر المحقق النائيني الإعتراف بورود الإشكال لأنه لم يُجب عنه على مبنى جعل المؤدى ، ولذا يمكن أن يُجيب بهذه الطريقية كلُ من يبني على مبنى آخر كمسلك جعل المنجزية والمعذرية فلا يرد الإشكال الثبوتي على مبناه ، هذه ملاحظة على هذا الجواب.
ويضاف الى ذلك أنَّ مسألة قيام الأمارة مقام القطع الموضوعي الطريقي بمجرد جعل الكاشفية والطريقية كما يقول المحقق النائيني غير واضح ، نعم قيامها مقام القطع الطريقي المحض بجعل العلمية والطريقية والكاشفية ممكن ولا إشكال فيه وتكون منجزة ومعذرة ، لكن قيام مقام القطع الموضوعي الطريقي إذا بنينا على مسلك جعل الطريقية غير واضح ، بمعنى أنَّ هذا المسلك لا يوجب قيام الأمارة مقام القطع الطريقي الموضوعي ، وذلك لأنَّ الظهور الأولي لدليل الحكم الذي أُخذَ القطع موضوعاً فيه هو أنّ موضوع الحكم هو العلم الحقيقي لا الادعائي التنزيلي ، فإذا قال : إذا علمتَ بخمرية شيء فأرقهُ ، إذا علمتَ بوجوب الحج فتصدَّق ، إذا علمتَ بحياة ولدك فتصدق ، وأمثال ذلك فالظهور الأولي لهذه الأدلة هو أنَّ العلم الذي أخذ في موضوع هذه الأحكام هو العلم الحقيقي كما هو ظاهر كلَّ عنوان يؤخذ في دليلٍ ، لأنّ ظهور العنوان في المعنى الحقيقي لا الإدعائي التنزيلي ، فإذا كان موضوع الحكم هو العلم الحقيقي فكيف يقال إذا قامت الأمارة يثبت ذلك الحكم أيضاً ، فالأمارة بدليل إعتبارها وجعل الطريقية لها لا تنقلب الى علم حقيقي ولا تكون فرداً حقيقاً له وإنما هي فرد تنزيلي إدعائي فالحكم المترتب على العلم الحقيقي كيف يثبت عند قيام الأمارة ؟
نعم هناك طريقان للتخلص من ذلك :
الطريق الأول أنَّ نقول أنّ العلم المأخوذ في موضوع الحكم ليس هو العلم الحقيقي وإنما هو الأعم من العلم الحقيقي والعلم التعبدي التنزيلي ، وحينئذٍ لا مشكلة في قيام الأمارة مقام القطع الموضوعي الطريقي بجعل الطريقية لها ، لأنَّ موضوع الحكم بحسب الفرض ليس هو العلم الحقيقي فقط بل الأعم منه ومن العلم التعبدي ، ودليل إعتبار الأمارة _ بناءً على جعل الطريقية _ يوجد فرداً حقيقياً من موضوع الحكم الشرعي ، لأنَّ الأمارة واقعاً وحقيقةً تكون علماً تعبدياً تنزيلياً ، وهذا هو معنى الورود ، أي يكون دليل إعتبار الأمارة وارداً على دليل الحكم الشرعي لأنه يوجد فرداً حقيقياً من أفراد موضوعه ، وهذا الفرد لم يكن من أفراد موضوع الحكم قبل الإعتبار وجعل الطريقية ، حينئذٍ تقوم الأمارة مقام القطع الموضوعي الطريقي ، فكما يترتب الحكم على العلم الحقيقي يترتب على قيام الأمارة.
لكن هذا الطريق غير مقبول لأنّ ظاهر دليل الحكم الشرعي الذي أُخذ العلم موضوعاً فيه أنّ موضوعه هو العلم الحقيقي لا العلم التعبدي كما تقدم.
الطريق الثاني أن نلتزم بالحكومة _ ولعل المحقق النائيني يقصد ذلك _ بأن نقول أنّ موضوع الحكم الشرعي هو العلم الحقيقي وليس الأعم لكن دليل إعتبار الأمارة عندما يعتبرها علماً ويجعل الطريقية والكاشفية لها يوجد فرداً تعبدياً تنزيلياً للعلم الحقيقي فيكون دليل إعتبار الأمارة حاكماً على دليل الحكم الشرعي لأنه يوجد فرداً إدعائياً له بالتعبد ، وهو معنى الحكومة ، أي توسعة دائرة موضوع الحكم الشرعي تعبداً ، وكون الأمارة فرداً إدعائياً للعلم يثبت بجعل الطريقية لها بدليل إعتبارها ، فيثبت قيام الأمارة مقام القطع الموضوعي الطريقي وكما يترتب الحكم على العلم الحقيقي كذلك يترتب على قيام الأمارة.
والمشكلة في هذا الطريق أنّ الحكومة يُعتبر فيها النظر بأن يكون الدليل الحاكم ناظراً الى الدليل المحكوم بخلاف الورود ، فإذا قال الدليل الحاكم وهو دليل الإعتبار : الأمارة علم ، لابد أن يكون ناظراً الى الدليل المحكوم وهو ( إذا علمتَ بأنّ هذا خمر فأرقه ) ويُريد أن يجعل الأمارة فرداً إدعائياً من أفراد العلم الحقيقي بالتعبد ، لكن النظر في المقام غير واضح ، فمثلاً الدليل القائل ( لا ربا بين الوالد وولده ) ناظر الى دليل حرمة الربا كما هو واضح ويرفع هذا الفرد من أفراد الربا تعبداً ، فيكون حاكماً ، وغرضه نفي الحرمة لا نفي الموضوع لأن أخذ الفائدة متحقق خارجاً ، فدليل ( لا ربا بين الوالد وولده ) يفترض وجود دليل على حرمة الربا ويقول أنَّ هذه المعاملة الربوية ليست حراماً فينفي الحرمة بلسان نفي الموضوع تعبداً ، وكذا الكلام في أدلة لا ضرر ولا حرج فإنها ناظرة الى وجود أدلة تدل على وجود أحكام شرعية وتقول إذا لزم من هذه الأحكام الضرر أو الحرج فهي منفية ، فهي ناظرة الى وجود أحكام شرعية ، والكلام في أنَّ دليل إعتبار الأمارة بناءً على مسلك جعل الطريقية هل يكون ناظراً الى أدلة الأحكام التي أخذَ القطع والعلم في موضوعها أم لا ؟
هذا النظر غير واضح ، فدليل الإعتبار وإن جَعلَ الطريقية والعلمية للأمارة لكنه لا يظهر منه النظر الى مثل ( إذا علمت بأنّ هذا خمر فأرقه ) ويريد أن يوسع من موضوعه بإضافة فرد تعبداً وهو الأمارة.
ومن هنا نستطيع أن نقول أنّ الملاحظة الثانية على الجواب الأول هي :
أنَّ الظهور الأولي لدليل الحكم الذي أُخذ الحكم في موضوعه هو أنَّ المراد بالعلم هو العلم الحقيقي وهذا لا يمكن إنكاره ، والأمارة بدليل إعتبارها وبجعل الطريقية لها لا تكون علماً حقيقياً ، فكيف يمكن ترتيب الأثر الشرعي المترتب على العلم الحقيقي على الأمارة ؟
والتخلص من هذا الإشكال يكون بإحدى الطريقتين :
الأولى: أن نقول أن الموضوع هو العلم الأعم من العلم الحقيقي والعلم التعبدي ، ولكنه خلاف ظاهر الدليل.
الثانية: الإلتزام بالحكومة ، لكن ملاكها النظر وهو في المقام غير واضح.
هذه هي الملاحظة على الجواب الأول.
الجواب الثاني : ما قيل من أنَّ الإشكال الثبوتي مبني على الخلط بين واقع القطع والظن وبين مفهوم القطع والظن ، أو ما يُعبر عنه بين القطع والظن بالحمل الشائع في نظر القاطع والظان _ وهو واقع القطع والظن _ وبين القطع والظن بالحمل الأولي ، وحينئذٍ نسأل أنَّ المأخوذ في تنزيل الأمارة منزلة القطع هل هو القطع والظن بالحمل الشائع أم بالحمل الأولي ؟
إذا قلنا أنّ الملحوظ في عملية التنزيل القطع والظن بالحمل الشائع أي واقع الظن والقطع في نظر الظان والقاطع فيلزم الإشكال ، لأنّ واقع القطع في نظر القطع لا يكون إلا طريقاً للواقع ، وهكذا الظن بالحمل الشائع هو مجرد طريق الى المؤدى ، فلابد أن يكونا ملحوظين باللحاظ الآلي ، فعندما يُلحظا في عملية التنزيل ويُنزل أحدهما منزلة الآخر لابد أن يُلحظا باللحاظ الآلي ، فإذا ضممنا هذا الى تنزيل الأمارة منزلة القطع الموضوعي الطريقي الذي يستلزم لحاظ القطع والظن باللحاظ الإستقلالي فيرد الإشكال ، فكيف نلحظ الظن في عملية تنزيل واحدة باللحاظ الآلي عندما نريد إقامته مقام القطع الطريقي المحض ونلحظه باللحاظ الإستقلالي عندما نريد إقامته مقام القطع الموضوعي الطريقي يلزم من ذلك إجتماع لحاظين على ملحوظٍ واحد.
وأما إذا قلنا أن الملحوظ في عملية التنزيل هو القطع والظن بالحمل الذاتي الأولي فلا يرد الإشكال الثبوتي ، وذلك بإعتبار أن مفهوم القطع ليس طريقاً الى الواقع ويلحظ باللحاظ الإستقلالي ولا يلحظ باللحاظ الآلي ، والطريق الى الواقع هو واقع القطع ولا يكون إلا ملحوظاً باللحاظ الآلي ، وهكذا الظن فالذي يكون طريقاً الى المؤدى هو واقع الظن بالحمل الشائع وأما مفهوم الظن فليس طريقاً الى المؤدى ، فإذا كان الملحوظ في التنزيل هو الظن والقطع بالحمل الأولي فلا مشكلة في أن يُلحظا باللحاظ الإستقلالي ، فلا يرد إشكال إجتماع لحاظين على ملحوظ واحد.
وبعبارة أخرى كل شيء يؤخذ في موضوع حكمٍ يكون ملحوظاً باللحاظ الإستقلالي ، والشارع يُنزل الظن منزلة العلم بدليل الإعتبار فيلحظ الظن والقطع باللحاظ الإستقلالي ويُنزل الظن منزلة القطع ، ومقتضى إطلاق التنزيل هو قيام الأمارة مقام القطع الطريقي المحض والقطع الطريقي الموضوعي ، ولا يلزم من ذلك إجتماع لحاظين على ملحوظ واحد ، ومقتضى إطلاق التنزيل هو ترتيب جميع الآثار المترتبة على العلم سواءً كانت آثاراً عقلية كالتنجيز والتعذير أو كانت شرعية كما هو الحال في القطع الموضوعي الطريقي ، ولا يلزم الإشكال المذكور.