42/11/08
الموضوع : قيام الأمارات والأصول مقام القطع/قيام الأمارات مقام القطع الطريقي المحض/ الإشكال الثبوتي.
الكلام في المقام الثاني ، وهو قيام الأمارة مقام القطع الموضوعي الطريقي ، وقلنا أنّ الكلام يقع في بحثين :
البحث الأول : هل يمكن أن تقوم الأمارة مقام القطع الموضوعي الطريقي بدليل إعتبارها ، وهو البحث الثبوتي.
البحث الثاني : هل يُستفاد من دليل إعتبارها قيامها مقام القطع الموضوعي الطريقي أم لا .
والكلام فعلاً في البحث الثبوتي ، والإشكال فيه في المقام الثاني هو في إمكان أن يكون دليل الإعتبار وهو دليل واحد دالاً على قيام الأمارة مقام القطع الطريقي المحض وقيامها مقام القطع الموضوعي الطريقي ، لأننا فرغنا في المقام الأول من قيام الأمارة مقام القطع الطريقي المحض بلا إشكال ، فهل يمكن أن تقوم الأمارة مقام القطع الطريقي الموضوعي أو لا يمكن ذلك ؟
المعروف هو الإمكان لكن صاحب الكفاية ذهب الى عدم الإمكان ، وإستدل عليه بنفس الدليل الذي إستدل به على عدم إمكان قيام الأمارة مقام القطع الموضوعي الصفتي ، ودليل المنع في الصفتي هو أنّ دليل إعتبار الأمارة لا يُستفاد منه إلا قيام الأمارة مقام القطع في ترتيب الآثار الثابتة للقطع بما هو حجة ، أما الآثار التي تترتب على القطع بما هو موضوع من الموضوعات فلا يمكن أن نستفيد من دليل إعتبار الأمارة قيامها مقامه في ترتيب تلك الآثار ، وهناك نوعان من الآثار :
آثار تترتب على القطع بما هو حجة بحيث يكون القطع حجة في إثبات تلك الآثار ، فهذه الاثار هي التي تترتب على الأمارة بقيامها مقام القطع .
وهناك آثار تترتب على القطع بإعتباره موضوع من الموضوعات ، فالقطع ليس حجة في إثباتها وإنما تترتب عليه بإعتبار أخذ القطع في موضوع تلك الآثار ، ولذا قلنا في المثال السابق إذا قال : شرب الخمر حرامٌ ، إذا قطعت بخمرية شيء فأرقه ، فهناك حكمان حرمة شرب الخمر ووجوب إراقة مقطوع الخمرية ، والأول أثرٌ يترتب على القطع بما هو حجة فيه ، بمعنى أنَّ القطع هو الذي يُثبت هذه الحرمة ويكون حجة فيها فهو أثرٌ ثابت للقطع بما هو حجة فيه.
أما وجوب الإراقة فليس أثراً للقطع بما هو حجة لأنَّ القطع ليس مُثبتاً له ، وليس حجة فيه ، لأنه ليس طريقاً إليه ، نعم يترتب عليه وجوب الإراقة ترتبَ كل حكم على موضوعه ، ويقول المحقق الخراساني أنَّ المستفاد من دليل إعتبار الأمارة هو قيامها مقام القطع في ترتيب الآثار الشرعية المترتبة على القطع بما هو حجة ، فكما إذا قطعتُ بالخمرية تثبت حرمة الشرب فكذلك إذا قامت الأمارة تثبت حرمة الشرب ، وهذا معنى قيام الأمارة مقام القطع الطريقي المحض وهو ما ذكرناه في المقام الأول.
أما الآثار التي تترتب على القطع بإعتباره موضوع من الموضوعات _ لا بما هو حجة فيها _ فهذه الآثار لا تُستفاد من دليل إعتبار الأمارة أنها تقوم مقام القطع في ترتُبها.
وثم قال وعلى أساس ما ذكرنا نمنع من إستفادة قيام الأمارة مقام القطع الموضوعي الطريقي من دليل إعتبارها ، وأيضاً نمنع من قيامها مقام القطع الموضوعي الصفتي ، إذ لا فرق بينهما في أن كُلاً منهما أُخذَ موضوعاً للحكم الشرعي ، نعم تارة يؤخذ في الموضوع بما هو كاشف عن متعلقه ، وأخرى يؤخذ فيه بما هو صفة من الصفات ، وعلى كِلا التقديرين هو موضوع للأثر الشرعي ، فالأثر ليس مترتباً على القطع بما هو حجة .
وإعترض عليه بأنَّ مقتضى إطلاق التنزيل هو قيام الأمارة مقام القطع في جميع الآثار ، فإنَّ الأمارة والظن كاشف أيضاً إلا أنّ كشفها ناقص ، ودليل إعتبارها يُتمم هذه الكاشفية ، فيُنزَّل الظن منزَّلة العلم ويعتبر الظن علماً ، ومقتضى إطلاق هذا التنزيل هو الشمول لجميع الآثار المترتبة على العلم سواءً كانت الآثار المترتبة عليه بما هو حجة أو المترتبة عليه بما هو موضوع من الموضوعات .
وبعبارة أخرى إنَّ مقتضى إطلاق التنزيل هو قيام الأمارة مقام القطع في ترتيب الآثار الشرعية بما هو حجة والآثار الشرعية المترتبة عليه بما هو موضوع من الموضوعات ، ولا يوجد ما يقتضي إختصاص التنزيل بالآثار الأولى ، فالمستفاد من دليل إعتبار الأمارة قيامها مقام كِلا الأمرين القطع الطريق المحض والقطع الموضوعي الطريقي.
وهنا ذكر المحقق الخراساني الإشكال الثبوتي وأنه يلزم من ذلك إجتماع اللحاظين الآلي والإستقلالي على ملحوظ واحد ، وهو غير معقول ، فالمنزَّل والمنزَّل عليه _ أي الظن والعلم _ تارة يُلحظان في التنزيل بما هما هما ، أي باللحاظ الإستقلالي ، وأخرى يلحظان بما هما طريقان ، أي باللحاظ الألي ، والجمع بين اللحاظين غير ممكن ، فلا يمكن ملاحظة الظن في التنزيل الواحد بما هو هو باللحاظ الإستقلالي وفي نفس الوقت يُلاحظ باللحاظ الآلي ، هذا أشبه بالجمع بين المتناقضين ، لأنَّ لحاظ الظن بما هو طريق يعني غض النظر عنه وأخذه بما هو كاشف عن شيء آخر يكون هو الغرض ، بينما إذا لوحظ باللحاظ الإستقلالي يكون الغرض متعلق به ولا يكون طريقاً لشيء آخر ، وهذان أمران متنافيان لا يمكن الجمع بينهما.
وأما لماذا أنَّ قيام الأمارة مقام القطع الطريقي المحض يستلزم لحاظ الظن والعلم _ أي المنزَّل والمنزَّل عليه _ باللحاظ الآلي ، في حين أنَّ تنزيل الأمارة منزلة العلم الموضوعي الطريقي يستلزم لحاظهما باللحاظ الإستقلالي ؟
وذلك لأن تنزيل الأمارة منزلة القطع الطريقي المحض يعني في واقعه تنزيل المظنون منزلة المعلوم لأنَّ أخذ الظن بما هو طريق لشيء _ وهو مؤدى الأمارة _ يعني تنزيله منزلة الواقع المعلوم ، فتنزيل الظن منزلة العلم في واقعه هو تنزيل المظنون منزلة الواقع المقطوع ، وذلك لأنَّ تنزيل الظن منزلة العلم الطريقي في التنجيز والتعذير فيه الإشكال المتقدم ذكره وهو التوسعة في دائرة ما حَكمَ به العقل ، فإنَّ العقل حَكمَ بأنَّ موضوع التنجيز والتعذير هو القطع ، ثم يأتي حاكم آخر يوسع من الموضوع بنحو يشمل الظن ، وقلنا لا يصح أن يتصرف حاكم في موضوع حاكم آخر ويثبت أنَّ الحكم العقلي بالتنجيز والتعذير لا يختص بالعلم ويشمل الظن هذا غير ممكن ، وليس من صلاحية أي حاكم التصرف في موضوع حاكم آخر بالتوسعة أو التضييق ، ولذا يُفسَّر تنزيل الظن منزلة العلم بتنزيل مؤدى الأمارة منزلة الواقع المقطوع به ، وهذا لا مشكلة فيه إذ ليس هناك تصرف في موضوع الحكم العقلي وإنما الشارع يًرتب آثار المقطوع به على المؤدى الأمارة ، فهو في واقعه تنزيل للمظنون منزلة الواقع المقطوع به.
وحينئذٍ نقول لابد في التنزيل من أن يلحظ المظنون والواقع المقطوع ، وملاحظة المظنون عن طريق الظن وملاحظة الواقع عن طريق القطع ، و هذا معنى أنَّ الظن في التنزيل يلحظ باللحاظ الآلي وكذا المنزَّل عليه هو الواقع المقطوع ، والقطع مجرد طريق الى هذا الواقع ، فالظن عندما يُنزَّل منزلة العلم في دليل التنزيل لابد أن يُلحظ المنزَّل والمنزَّل عليه باللحاظ الآلي لأنَّ الغرض في الواقع هو تنزيل المظنون منزلة الواقع المقطوع ، هذا تنزيل الأمارة منزلة القطع الطريقي المحض.
أما تنزيل الأمارة منزلة القطع الموضوعي الطريقي فلابد من لحاظ القطع والظن باللحاظ الإستقلالي لأنَّ الغرض تنزيل نفس الظن منزلة القطع الموضوعي الطريقي ، أي القطع الذي أُخذَ موضوعاً للحكم الشرعي ، كالقطع بالنسبة الى وجوب الإراقة فهو يُلحظ باللحاظ الإستقلالي ، فإذا أراد الشارع تنزيل الظن منزلة القطع فيُلحظا أيضاً باللحاظ الإستقلالي ، وهذان اللحاظان لا يجتمعان في تنزيل واحد لأنهما متنافيان ، فإما أن يلُحظا باللحاظ الآلي فيثبت تنزيل الظن منزلة القطع الطريقي المحض ، وإما أن يُلحظا باللحاظ الإستقلالي فيثبت تنزيله منزلة القطع الموضوعي الطريقي ، وأما الجمع بينهما فغير ممكن ، هذا هو الإشكال الثبوتي.
ويستنتج من هذا الإشكال الثبوتي إن تمَّ _ وهو تام عنده _ أنّ الدليل لابد أن يتكفل بأحد التنزيلين ، والتنزيل الذي يتكفل به دليل إعتبار الأمارة هو قيامها مقام القطع الطريقي المحض ، وهو المتيقن من دليل إعتبارها كما تقدم ، بل الظاهر من دليل الإعتبار هو أنَّ الأمارة مُنجِّزة ومُعذِّرة ، وهذا يعني قيامها مقام القطع في التنجيز والتعذير ، وهو معنى قيامها مقام اقطع الطريقي المحض.
وأجيب عن هذا الإشكال الثبوتي بعدة وجوه :
الوجه الأول ما ذكره المحقق النائيني وحاصله :
أنّ هذا الإشكال مبني على مسلك جعل المؤدى في باب الأمارات ، بمعنى أنّ دليل إعتبار الأمارة مفاده جعل مؤدى الأمارة منزلة الواقع ، فالأمارة التي تقوم على وجوب شيء يُجعل بمنزلة الحكم الواقعي ، وعلى هذا المبنى يرد هذا الإشكال ، إذ لابد من لحاظ المؤدى والواقع في عملية التنزيل ، ولحاظهما إنما يكون بواسطة لحاظ الظن والعلم لأنّ الظن طريق الى المظنون _ وهو المؤدى _ والعلم طريق الى الواقع ، فالعلم والظن في التنزيل يُلحظان باللحاظ الآلي كطريقين للحاظ المعلوم والمظنون وتنزيل هذا منزلة ذاك ، فيأتي الإشكال الثبوتي.
وأما إذا قلنا بأنَّ المجعول في باب الأمارات هو الكاشفية والطريقية والـمُحرزية والعلمية فلا يرد هذا الإشكال.