الأستاذ الشيخ هادي آل راضي

بحث الأصول

42/11/05

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع : قيام الأمارات والأصول مقام القطع/قيام الأمارات مقام القطع الطريقي المحض/أجوبة الإشكال الثبوتي.

المقام الثاني : قيام الأمارة مقام القطع الموضوعي الطريقي

بعد أن أكملنا البحث في المقام الأول وهو قيام الأمارة مقام القطع الطريقي المحض يقع الكلام في المقام الثاني وهو قيام الأمارة مقام القطع الموضوعي الطريقي ، أي القطع الذي يؤخذ موضوعاً لحكم بما هو طريق وكاشف ، فيكون قطعاً موضوعياً لأنه أُخذ في موضوع حكم وطريقياً لأنه لوحظ بما هو كاشف وطريق ، فهل تقوم الأمارة مقامه أو لا ؟

وينبغي الإلتفات أولاً الى أمرين :

الأول هو أنَّ المقصود من قيام الأمارة مقام القطع الموضوعي الطريقي هو ترتيب الآثار الشرعية التي رتبها الشارع في الدليل على القطع كموضوع لها ، فهل تقوم الأمارة مقام القطع في ترتيب تلك الآثار بمعنى إذا حصل القطع تترتب تلك الآثار فإذا قامت الأمارة هل تترتب تلك الآثار أيضاً أو لا ، فلو فرضنا أنه ورد :إذا علمتَ بأنّ هذا خمر فأهرقه ، فالعلم بالخمرية بالنسبة الى حرمة شرب الخمر علمٌ طريقي محض لأنَّ الحرمة ثابتة للخمر الواقعي ، والعلم بالخمرية لا دخل له في حرمة الشرب فإن حرمة الشرب ثابتة للخمر لا لمقطوع الخمرية فلا يكون القطع بالخمرية موضوعاً لهذا الحكم الشرعي ، لكن بالنسبة الى وجوب الإراقة فالقطع بالخمرية أُخذ موضوعاً فيه ، وهذا الحكم الذي ترتَّب على القطع بالخمرية _ تَرتُّب كل حكم على موضوعه _ هل تقوم الأمارة مقامه أو لا ، ففي المثال إذا قامت الأمارة على خمرية شيء فهل يجب إهراقه كما لو قطعنا بخمريته أو لا يجب ؟

فمعنى قيام الأمارة مقام القطع الطريقي الموضوعي هو أنَّ الآثار الشرعية المترتبة على القطع المأخوذ في موضوع تلك الآثار هل يثبت بقيام الأمارة مقام القطع فيكون حالها حال القطع في ترتب الحكم الشرعي أو لا ؟

الثاني : الكلام يقع في أنَّ دليل إعتبار الأمارة هل يُستفاد منه قيام الأمارة مقام القطع الموضوعي الطريقي أو لا يُستفاد ذلك ؟ فلابد من ملاحظة دليل إعتبار الأمارة الذي ليس فيه إلا إعتبارها من دون فرض أمور إضافية هل يُستفاد منه قيام الأمارة مقام القطع الموضوعي الطريقي ، على غرار ما تقدم في المقام الأول ، فالكلام في أنَّ الأمارة هل تقوم مقام القطع الموضوعي الطريقي بدليل إعتبارها أو تحتاج الى مؤنة زائدة وعنايات إضافية لتقوم مقامه .

والكلام في المقام تارة يقع ثبوتياً ويكون في إمكان قيام الأمارة مقام القطع الموضوعي الطريقي ، وأخرى يقع إثباتياً أي في صحة إستفادة قيام الأمارة مقام القطع الموضوعي الطريقي من دليل إعتبارها ، ولابد من إثبات كِلا الأمرين.

ومن هنا يقع الكلام في بحثين :

البحث الأول وهو البحث الثبوتي في الإمكان وعدمه :

والإشكال الثبوتي هنا يختلف عن الإشكال الثبوتي في المقام الأول ، فإنه هناك كان يقول كيف تقوم الأمارة مقام القطع الطريقي المحض في التنجيز والحال أنه على خلاف قاعدة قبح العقاب بلا بيان ، وعلى مسلك حق الطاعة أُثير الإشكال الثبوتي في جانب المعذرية وهو كيف تكون الأمارة النافية للتكليف معذرة ومؤمنة والحال أنه على خلاف مسلك منجزية الإحتمال.

والإشكال الثبوتي هنا في إمكان أن يكون دليل الإعتبار جُعلَ فيه قيام الأمارة مقام القطع الموضوعي الطريقي ، بإعتبار أنَّ المفروض أننا فرغنا عن أنَّ دليل الإعتبار جُعلَ فيه قيام الأمارة مقام القطع الطريقي المحض في التنجيز والتعذير ، والبحث الثبوتي هنا يقول هل يمكن بالإضافة الى ذلك أن يكون دليل الإعتبار وهو دليل واحد متضمناً كِلا الأمرين ، أي يتضمن جعل الأمارة تقوم مقام القطع الطريقي المحض وجعلها تقوم مقام القطع الموضوعي الطريقي ، هل يمكن ذلك أو لا يمكن ؟ فالإشكال الثبوتي هنا غير الإشكال الثبوتي في المقام الأول.

المعروف والمشهور بينهم هو الإمكان وأنَّ دليل الإعتبار يتكفل كِلا الأمرين ، فإذا كان هناك دليلان أحدهما يقول الخمر حرام والآخر يقول إذا قطعت بخمرية شيء فأرقه ، فالأمارة كما تقوم مقام القطع الطريقي المحض الذي لم يؤخذ في موضوع الحكم وهو حرمة الشرب الثابتة لذات الخمر فكذلك تقوم الأمارة مقام القطع الموضوعي الطريقي و تُثبت وجوب الإراقة ، فالأمارة التي قامت على خمرية شيء فيحرم شربه أولاً وتجب إراقته ثانياً ، وحرمة شربه من آثار قيام الأمارة مقام القطع الموضوعي المحض ، ووجوب إراقته من آثار قيام الأمارة مقام القطع الموضوعي الطريقي ، هذا ما يقال أنه هو المعروف.

لكن صاحب الكفاية خالف فيه وذهب الى عدم إمكان أن يتكفل الدليل الواحد كِلا الأمرين لمحذورٍ ثبوتي ، وإستدل على عدم إمكان قيام الإمارة بدليل إعتبارها مقام القطع الموضوعي الصفتي _ وهو المقام الثالث الآتي _ بدليل يأتي قريباً ثم عطف عليه قيام الأمارة مقام القطع الموضوعي الطريقي ، قال :

(.. لا ريب في عدم قيامها _ أي الأمارة _ بمجرّد ذلك الدليل _ أي دليل إعتبارها _ مقام ما اُخذَ في الموضوع على نحو الصفتيّة ..).

وخلاصة ما يذكره كدليل على منع قيام الأمارة مقام القطع الموضوعي الصفتي هو أنّ القطع المأخوذ موضوعاً لحكم آخر على نحو الصفتية لم يؤخذ بالنسبة الى ذلك الحكم بإعتباره طريقاً إليه بل بإعتباره صفة من الصفات ، فإذا أُخذَ بما هو صفة في موضوع الحكم الشرعي فدليل إعتبار الأمارة لا يُقيم الأمارة مقامه في ترتيب ذلك الحكم الشرعي الذي لم يؤخذ القطع فيه بما هو طريق إليه وإنما أخذ فيه بما هو صفة من الصفات ، لأنَّ دليل إعتبار الأمارة يتكفل ترتيب الآثار الشرعية الثابتة للقطع بما هو حجة لا الآثار الشرعية الثابتة للقطع بما هو صفة من الصفات ، فلا يتكفل دليل إعتبار الأمارة قيامها مقام القطع الموضوعي الصفتي ولا يُستفاد منه ذلك ، فحرمة الشرب الثابتة للواقع بما هو حجة تترتب على الأمارة بدليل إعتبارها ، أما الآثار الشرعية الثابتة للقطع بما هو صفة فدليل الإعتبار لا يتكفل قيام الأمارة مقام هذا القطع ، فلا يمكن إثبات ذلك الحكم الشرعي عند قيام الأمارة لأنه لا يُستفاد من دليل إعتبارها قيامها مقام هذا القطع لترتيب تلك الآثار ، هذا ذكره في القطع الموضوعي الصفتي ثم قال :

( ومنه قد إنقدح عدم قيامها بذاك الدليل _ أي دليل إعتبارها _ مقام ما اُخذَ في الموضوع على نحو الكشف _ أي القطع الموضوعي الطريقي _ )

وهو المقام الثاني الذي نتكلم فيه ، فهو يمنع من قيام الأمارة مقام القطع الموضوع مطلقاً بدليل واحد سواءً كان قطعاً موضوعياً طريقياً أم صفتياً ، وهو الدليل السابق ، والفرق بين القطع الموضوعي الطريقي والقطع الموضوعي الصفتي هو أنَّ القطع عند أخذه موضوعاً لحكم تارة يؤخذ بما هو كاشف _ وهو الطريقي _ وأخرى يؤخذ بما هو صفة _ وهو الصفتي _ ، لكن في كونه موضوعاً للحكم لا فرق بينهما ، فمثلاً : إذا قطعت بخمرية شيء فأرقه ، فتارة يكون القطع بما هو طريق لمتعلقه _ أي الخمرية _ مأخوذاً في موضوع وجوب الإراقة فيكون قطعاً موضوعياً طريقياً ، وأخرى يؤخذ بما هو صفة ، وعلى كلا التقديرين أُخذَ موضوعاً لحكمٍ ، فهذا الحكم ليس من الآثار الشرعية المترتبة على القطع بما هو حجة وإنما أُخِذ موضوعاً في وجوب الإراقة فقط ، فيأتي الكلام السابق وهو أنّ المستفاد من دليل إعتبار الأمارة هو قيامها مقام القطع في ترتيب الآثار الشرعية المترتبة على القطع بما هو حجة ، وأما الآثار المترتبة على القطع بما هو موضوع من الموضوعات حتى لو فرضنا_ من باب فرض المحال _ أنَّ القطع ليس بحجة فهو موضوع لحكم إما بما هو صفة من الصفات وإما بما هو كاشف عن متعلقه ، فعلى كِلا التقديرين أُخِذ موضوعاً لحكم ، فيكون حال القطع حال سائر الموضوعات الأخرى التي لا تقوم الأمارة بدليل إعتبارها مقامها ، فلا معنى لأنّ تقوم الأمارة مقام النصاب في موضوع وجوب الزكاة ، فقطع بالنسبة الى وجوب الإراقة كالنصاب بالنسبة الى وجوب الزكاة والإستطاعة بالنسبة الى وجوب الحج ، ودليل إعتبار الأمارة لا يُستفاد منه إلا قيام الأمارة مقام القطع في ترتيب الآثار المترتبة عليه بما هو حجة ، وليس الأثر بنظر صاحب الكفاية إلا حرمة الشرب أي ليس إلا الأحكام والآثار الشرعية المترتبة على واقع الأشياء التي لم يؤخذ القطع في موضوعها ، ويكون القطع بالنسبة إليها قطعاً طريقياً محضاً ، فكل حكم يَثبت لذات الخمر يترتب بقيام الأمارة على الخمرية بدليل إعتبارها.

الى هنا كأنّ الكلام في إستفادة القيام من دليل الإعتبار وعدم إستفادته .

ثم دخل في البحث الثبوتي من خلال طرح مطلب ذكره تلامذة الشيخ الأنصاري الذي يتبنى الإمكان ، فكأنهم في مقام الدفاع عن الشيخ ذكروا أنَّ دليل إعتبار الأمارة يتكفل كِلا الأمرين : قيامها مقام القطع الطريقي المحض ومن نتائجه ثبوت حرمة الشرب عندما تقوم الأمارة على الخمرية ، وقيامها مقام القطع الطريقي الموضوعي ومن نتائجه ثبوت وجوب الإراقة عندما تقوم الأمارة على خمرية شيء ، ولا إشكال في أن يتكفل دليل الإعتبار كِلا الأمرين ، لأنَّ مفاده كما قالوا جعل الطريقية ونفي إحتمال الخلاف لأنَّ الأمارة في حد نفسها كاشف ناقص والشارع بدليل الإعتبار يُتمم هذا الكشف إعتباراً فيعتبر الأمارة علماً ويُنزل الأمارة منزلة العلم بإلغاء إحتمال الخلاف تعبداً .

ومقتضى إطلاق هذا التنزيل الصادر من الشارع أنّ الأمارة مُنزَّلة مَنزِلة العلم في جميع الآثار العقلية والشرعية ، سواءً كانت آثاراً مترتبة عليه بما هو حجة أو كانت آثاراً مترتبة عليه بما هو موضوع من الموضوعات ، وهذا العلم الموضوعي الطريقي يترتب عليه أثر شرعي وهو وجوب الإراقة ولو بما هو موضوع له ، قالوا لا مشكلة في إفتراض أن يكون دليل التنزيل متكفلاً لكلتا الجهتين.

وهنا طرح صاحب الكفاية الإشكال الثبوتي في مقام الجواب عن ما ذُكر ، فقال لا يمكن أن يتكفل دليل إعتبار الأمارة وهو دليل واحد كِلا الأمرين تنزيل الأمارة منزلة القطع الطريقي المحض وتنزيلها منزلة القطع الموضوعي الطريقي إذ يلزم من هذا إجتماع اللحاظين الآلي والإستقلالي على ملحوظ واحد ، وتوضيحه :

إنّ تنزيل الأمارة منزلة القطع الطريقي المحض يعني لحاظ الأمارة بما هي طريق وهذا يعني لحاظها باللحاظ الآلي ، في حين أنّ تنزيل الأمارة منزلة القطع الموضوعي الطريقي يستلزم أن تلحظ باللحاظ الإستقلالي ، ولحاظها باللحاظين في آن واحد غير ممكن ، ولذا لا يمكن أن يكون هناك تنزيلان في دليل إعتبار الأمارة.