الأستاذ الشيخ هادي آل راضي

بحث الأصول

42/11/04

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع : قيام الأمارات والأصول مقام القطع/قيام الأمارات مقام القطع الطريقي المحض/أجوبة الإشكال الثبوتي.

لا زال الكلام في المقام الأول أي في قيام الأمارة مقام القطع الطريقي المحض ، قلنا هناك إشكال ثبوتي في ذلك بإعتبار أنّ قيامها مقام القطع الطريقي المحض يُنافي قاعدة قبح العقاب بلا بيان ، وتعرضنا لأجوبة هذا الإشكال وإنتهينا الى الجواب الثالث الذي يقول أنَّ القاعدة لا تجري في الموارد التي نعلم بأنَّ الحكم الواقعي مما لا يرضى الشارع بتفويته حتى مع الشك ، كموارد الدماء والفروج والأموال ، ويُدعى أنَّ المستفاد من أدلة إعتبار الأمارات بل حتى أدلة إعتبار الأصول العملية أنَّ الشارع يهتم بالأحكام الواقعية ولا يرضى بتفويتها حتى في ظرف الشك ، والأدلة من قبيل لسان ( صَدِّق العادل ) ولسان ( لا عذر لأحد من موالينا في التشكيك فيما يرويه عنّا ثقاتنا ) أو ( أخوك دينك فإحتط لدينك ) ، وأمثال هذه الأدلة التي يُستفاد منها إهتمام الشارع بالأحكام الواقعية وعدم رضاه بتفويتها حتى في ظرف الشك ، فأمره بالإحتياط في ظرف الشك ( أخوك دينك فإحتط لدينك ) لضمان عدم تفويتها ، وهكذا ( لا عذر لأحد من موالينا في التشكيك فيما يرويه عنّا ثقاتنا ) فلم يقل مثلاً لا تعتني بالتكليف في ظرف الشك بل أمَرَ بالعمل بخبر الثقة بإعتبار أنه أقرب الطرق الموصلة الى الواقع.

إذن يفهم من أدلة خبر الواحد بشكل عام أنَّ الشارع يهتم بأحكامه الواقعية ولا يرضى بتفويتها حتى في ظرف الشك.

وبناءً عليه يقال إنَّ الأمارة قامت على التكليف ، ومن دليل إعتبارها يُستفاد أنَّ هذا التكليف مما يهتم الشارع به ولا يرضى بتفويته حتى في ظرف الشك ـ فلا تجري البراءة حينئذٍ ، نعم تجري في الأحكام الشرعية التي يُشك بها ولا نعلم إهتمام الشارع بها وعدم رضاه بتفويتها ، فيرتفع الإشكال الثبوتي.

ويلاحظ عليه : إنّ هذا الجواب إنما يدفع الإشكال الثبوتي في صورة علم المكلف بإهتمام الشارع بالتكليف ، لكن هذا العلم تارة يكون علماً وجدانياً فالجواب تام فيه ، ويمنع هذا العلم من جريان قاعدة قبح العقاب بلا بيان.

وأخرى يكون علماً تعبدياً كما لو قامت أمارة معتبرة على إهتمام الشارع بالتكليف ، فالظاهر أن هذا الجواب لا يتم في هذه الصورة ولا يمنع من جريان قاعدة قبح العقاب بلا بيان ، لأنَّ هذا الجواب مرجعه الى دعوى أنّ موضوع القاعدة هو عدم العلم بالتكليف وعدم العلم بالإهتمام ، فكما أنّ العلم بالتكليف لا يقبح معه العقاب على المخالفة ولا تجري معه القاعدة فكذلك مع العلم بإهتمام الشارع بالتكليف المشكوك وعدم رضاه بتفويته يمنع من جريان القاعدة لإرتفاع موضوعها وهو عدم العلم بالتكليف وعدم العلم بالإهتمام بحسب هذا الجواب ، هذا مع العلم الوجداني بالإهتمام .

وأما مع قيام الأمارة على الإهتمام فدليل إعتبار الأمارة يكون حجة على الإهتمام ولا يورث العلم الوجداني بالإهتمام لأنه دليل ظني ، ومن هنا يمكن أن يقال أنّ موضوع القاعدة _ وهو عدم العلم الوجداني _ يبقى محفوظاً مع قيام الأمارة على التكليف وعلى إهتمام الشارع بالتكليف ، وأدلة الإعتبار وإن دلَّت على إهتمام الشارع بالتكاليف الواقعية لكنها أدلة ظنية لا تورث العلم الوجداني بالإهتمام ، فعدم العلم بالتكليف وعدم العلم بالإهتمام محفوظ ، فتجري قاعدة قبح العقاب بلا بيان ، ويعود الإشكال الثبوتي وهو أنّ تأمين القاعدة ينافي منجزية الأمارة للتكليف الذي تقوم عليه ، والتنجيز والتأمين لا يجتمعان ، فتطبيق الجواب مشكل.

ونحتاج لدفع الإشكال الى الأجوبة السابقة ولا يكون هذا جواباً مستقلاً ، لأنَّ قيام الأمارة على الإهتمام كقيامها على أصل التكليف يواجه المشكلة الثبوتية السابقة ، لأنَّ موضوع القاعدة _ وهو عدم العلم الوجداني _ محفوظ فتجري القاعدة وتنافي الحكم بالمنجزية ، ونفس الكلام يأتي في الإهتمام فنقول أنَّ العلم الوجداني بالإهتمام يمنع من جريان القاعدة ، أما قيام الأمارة على الإهتمام فلا ينفع في رفع الإشكال ولا يمنع من جريان القاعدة لأنّ موضوعها وهو عدم العلم الوجداني يبقى محفوظاً ، فنحتاج في حل الإشكال الى أحد الوجهين السابقين بأن نقول أنَّ المقصود من العلم الذي أخذ عدمه في موضوع القاعدة ليس هو خصوص العلم الوجداني بل الأعم منه ومن العلم التعبدي ، فكما أنَّ العلم الوجداني يرفع موضوع القاعدة ويمنع من جريانها فكذلك العلم التعبدي بالتكليف يرفع موضوعها ويمنع من جريانها ، والأمارة علم تعبدي بالتكليف بناءً على جعل الطريقية ، فنقول بالنسبة الى الإهتمام أنَّ موضوع القاعدة هو عدم العلم بالتكليف الأعم من الوجداني والتعبدي وعدم العلم بالإهتمام الأعم من الوجداني والتعبدي ، فكما أنَّ المكلف إذا علم وجداناً بالإهتمام لا تجري القاعدة وينحل الإشكال الثبوتي فكذلك إذا علم تعبداً بالإهتمام ، وفي المقام العلم التعبدي حاصل لأنَّ المفروض قيام الأمارة بأدلة إعتبارها على الإهتمام فتورث العلم التعبدي ، ومعه يرتفع موضوع القاعدة فلا تجري فلا تكون هناك منافاة ويرتفع الإشكال الثبوتي ، فلابد لتتميم الجواب من الإستعانة بأحد الوجهين السابقين وما ذكرناه هو الوجه الثاني.

وعلى الوجه الأول القائل بأنَّ موضوع القاعدة هو عدم الحجة ولا خصوصية للعلم ، وعدم الحجة أعم من كونه عدم الحجة على التكليف أو على الإهتمام ، فكما أنّ قيام الحجة على التكليف يرفع موضع القاعدة ، فكذلك قيام الحجة على الإهتمام يرفع موضوع القاعدة ، فهذا الوجه يرجع في الحقيقة الى الوجهين السابقين.

هذا تمام الكلام في قيام الأمارة مقام القطع الطريقي المحض بلحاظ المنجزية ثبوتاً ، وقيامها مقام القطع الطريقي في المنجزية إثباتاً هو القدر المتيقن من أدلة إعتبارها كما تقدم.

وأما جانب المعذرية فهل تقوم الأمارة بدليل إعتبارها مقام القطع الطريقي المحض ، فإذا قطع المكلف بعدم التكليف فلا إشكال في أنه عُذر له حتى لو كان التكليف ثابتاً في الواقع ، وأما إذا قامت الأمارة على نفي التكليف فهل تكون عذراً له أيضاً أم لا ؟

وهنا تارة نتكلم على مسلك المشهور الذي يؤمن بقاعدة قبح العقاب بلا بيان وأخرى نتكلم بناءً على مسلك حق الطاعة ومنجزية الإحتمال.

أما على مسلك المشهور فلا توجد مشكلة في قيام الأمارة مقام القطع المحض بلحاظ المعذرية ، بل تكون قاعدة قبح العقاب بلا بيان مؤيدة وتثبت المعذرية أيضاً في مورد إحتمال التكليف ، فالقاعدة تُثبت المعذرية في ظرف عدم العلم ، وقيام الأمارة على نفي التكليف مقام القطع الطريقي في المعذرية معناه هو عدم الإعتناء بإحتمال التكليف ، فإذا عملتَ بالأمارة النافية للتكليف وتبيّن ثبوته في الواقع فأنت معذور ، وهذا نفس مفاد قاعدة قبح العقاب بلا بيان فتكون القاعدة مؤيدة ومؤكدة لها.

وأما بناءً على مسلك حق الطاعة فقد يُثار الإشكال الثبوتي المتقدم في جانب المنجزية ولكن بالعكس فيقال هنا إنَّ مسلك حق الطاعة معناه منجزية الإحتمال ، وقيام الأمارة مقام القطع الطريقي المحض في جانب المعذرية ينافي هذا الحكم العقلي ، نظير ما تقدم في جانب التنجيز ، فالإشكال يرد هناك على مسلك قبح العقاب بلا بيان وهنا يرد على مسلك حق الطاعة ، فلا يمكن الإلتزام بالمعذرية لأنه يُصادم حكماً عقلياً عند من يؤمن بمسلك حق الطاعة.

وجواب من يؤمن بهذا المسلك هو أنَّ حكم العقل بمنجزية الإحتمال ليس حكماً تنجيزياً ومطلقاً وإنما هو حكم معلق على عدم ورود الترخيص من قبل الشارع ، ومن هنا تختلف منجزية الإحتمال عن منجزية العلم ، فمنجزية العلم تنجيزية ومنجزية الإحتمال معلقة على عدم ورود الترخيص من قِبل الشارع ، فإذا ورد الترخيص منه بالمخالفة فلا معنى لحكم العقل بالتنجيز ، ويدعي صاحب المسلك وجود ترخيص بالمخالفة في محل الكلام ، والترخيص هو بنفس قيام الأمارة على نفي التكليف ، والمفروض أنها معتبرة شرعاً ، وهذا يعني ترخيص الشارع في المخالفة حتى لو كان التكليف ثابتاً في الواقع ، ومع ورود الترخيص بالمخالفة وعدم الإعتناء بإحتمال التكليف وتجويز العمل بالأمارة النافية للتكليف لا يحكم العقل بمنجزية الإحتمال ، فلا منافاة بين مسلك حق الطاعة بين قيام الأمارة مقام القطع الطريقي في جانب المعذرية ، وبهذا يرتفع الإشكال الثبوتي بلحاظ المنجزية والمعذرية.

فقيام الأمارة مقام القطع الطريقي المحض في المنجزية والمعذرية ليس فيه إشكال ثبوتي حتى على مسلك حق الطاعة.

والبحث الإثباتي واضح إذ لا إشكال في أنَّ الأمارة تكون منجزة إذا قامت على التكليف ومعذرة إذا قامت على نفي التكليف وهو القدر المتيقن من دليل إعتبارها.