42/11/03
الموضوع : قيام الأمارات والأصول مقام القطع/قيام الأمارات مقام القطع الطريقي المحض/أجوبة الإشكال الثبوتي.
كان الكلام في قيام الأمارات مقام القطع الطريقي المحض ، وقلنا هناك إشكال ثبوتي وهو أنَّ موضوع قاعدة قبح العقاب بلا بيان محفوظ في موارد الأمارات فتكون القاعدة مؤمنة من ناحية التكليف الذي قامت عليه الأمارة ، فكيف يُدعى أنَّ الأمارة تقوم مقام العلم في المنجزية والحال أنَّ القاعدة تؤمن من ناحية ذلك التكليف ، وهذا يعني أنَّ الأمارة لا يمكن أن تقوم مقام القطع الطريقي في المنجزية.
وقلنا أنَّ هناك أجوبة مبنية على تسليم القاعدة ، وتقدم الجواب الأول الذي يبتني على أنَّ المقصود من البيان في القاعدة هو الحجة ، فلا تجري القاعدة في مورد الأمارات لأنها حجة ، ومن هنا قلنا أنَّ دليل إعتبار الأمارة الذي يُثبت الحجية لها يكون وارداً على القاعدة ، أي يكون رافعاً لموضوعها حقيقةً ، هذا هو الجواب الأول.
والظاهر أنَّ هذا الجواب تام والذي يُستدل به عليه هو أنَّ العقل يرى أنه لا فرق في حُسن العقاب عند المخالفة مع حصول العلم أو مع قيام الحجة ، وهذا يعني أن الموضوع القاعدة هو عدم الحجة ، ولا خصوصية للعلم ، فيحسن العقاب على المخالفة مع قيام مطلق الحجة على التكليف ، ويكون العقاب قبيحاً على المخالفة مع عدم قيام حجة على التكليف ، وهذا يعني عدم جريان القاعدة في موارد قيام الأمارة ، فلا منافاة بين الإلتزام بمنجزية الأمارة للتكليف الذي قامت عليه _ وهو معنى قيامها مقام القطع الطريقي في المنجزية _ وبين قاعدة قبح العقاب بلا بيان لأنها لا تجري في مورد الأمارة.
الجواب الثاني الذي إنتهى الكلام إليه وهو الذي يؤمن بأن مفاد دليل إعتبار الأمارة هو جعل الطريقية والعلمية ، أي جعل غير الطريق طريقاً وجعل غير العلم علماً تعبداً ، فدليل إعتبار الأمارة يقول الأمارة علم تعبداً ، فموضوع القاعدة هو عدم العلم ، فمعنى القاعدة هو قبح العقاب بلا علم ، والمقصود من العلم هو العلم الوجداني ، ودليل إعتبار الأمارة يوجد فرداً تعبدياً تشريعياً للعلم الوجداني ، فيكون دليل إعتبار الأمارة حاكماً على القاعدة بمعنى أنه يوجد فرداً تعبدياً لموضوع القاعدة ، فموضوع القاعدة ليس هو عدم العلم الوجداني فقط بل عدم العلم الوجداني والتعبدي ، فما يترتب على العلم الوجداني يترتب على العلم التعبدي الذي هو الأمارة ، والذي يترتب على العلم الوجداني بالتكليف هو حُسن العقاب على المخالفة ، فكذلك العلم التعبدي بالتكليف يحسن معه العقاب على المخالفة ، وعليه يقبح العقاب على المخالفة عند عدم العلم الوجداني وعدم العلم التعبدي ، وهذا معنى أنَّ موضوع القاعدة هو الأعم من العلم الوجداني والعلم التعبدي ، وهذا معنى الحكومة ، وهي هنا موسعة لأنَّ موضوع القاعدة كان عدم العلم الوجداني وببركة الحكومة صار موضوعها هو عدم العلم الأعم من الوجداني والتعبدي ، فالقاعدة لا تجري إلا مع عدم العلم الوجداني والتعبدي بالتكليف ، وهذا يعني عدم جريانها في موارد قيام الأمارات لأنّ المفروض أنَّ الأمارة علم تعبدي ، فالإلتزام بأنَّ الأمارة منجزة للتكليف لا ينافي هذه القاعدة العقلية فينحل الإشكال.
والفرق بين الجوابين واضح ففي الجواب الأول لا حاجة الى ملاحظة دليل إعتبار الأمارة وجعل الطريقية فيه لأنّ التصرف في الجواب الأول كان في موضوع القاعدة مباشرة وأنَّ المقصود من البيان هو الحجة ولا خصوصية للعلم فلا حاجة الى جعل الطريقية في الأمارات لأنَّ موضوع القاعدة حينئذٍ هو عدم الحجة والأمارة حجة بدليل إعتبارها بلا إشكال وإن لم نلتزم بجعل الطريقية في باب الأمارات ، فلا تجري القاعدة في مورد قيام الحجة ، والأمارة حجة ، فيرتفع موضوع القاعدة حقيقة ، فينحل الإشكال.
وفي الجواب الثاني المبني على تسليم أن البيان في القاعدة يُراد به العلم الوجداني خاصة فيرد الإشكال لأنَّ عدم العلم الوجداني محفوظ في مورد قيام الأمارات لأنها لا تورث العلم الوجداني ، وإذا كان موضوع القاعدة محفوظاً وقع التنافي بين القاعدة وبين تنجيز التكليف بقيام الإمارة عليه ، فالقاعدة تؤمن من ناحية التكليف لعدم العلم الوجداني وقيام الأمارة مقام القطع الطريقي يُثبت المنجزية للتكليف ، ولكن إذا وسعنا من موضوع القاعدة وقلنا أن موضوعها ليس هو عدم العلم الوجداني فقط وإنما عدم العلم الوجداني والتعبدي فيرتفع الإشكال ، وتوسعة الموضوع تكون عن طريق الحكومة بأن يقال أن دليل إعتبار الأمارة يوجد فرداً تعبدياً من العلم فيكون حكمه حكم العلم الحقيقي بالتكليف فكما لا تجري القاعدة مع العلم الحقيقي فكذلك لا تجري مع العلم التعبدي بالتكليف أيضاً ، فينحل الإشكال ولا مشكلة ثبوتية في الإلتزام بمنجزية الأمارة للتكليف الذي قامت عليه ، وهذا يعني أنها تقوم مقام القطع الطريقي في المنجزية.
وهذا الجواب الثاني مبني على تسليم أن موضوع القاعدة هو عدم العلم الوجداني أولاً ، ومبني على إستفادة جعل الطريقية من دليل لإعتبار الأمارة ثانياً ، وأما إذا قلنا أنَّ موضوع القاعدة ليس هو عدم العلم الوجداني بل لم يذكر العلم في القاعدة وإنما ذكر البيان ، وأنَّ موضوعها هو عدم البيان وفسرنا البيان بالحجة كما في الجواب الأول فينحل الإشكال بالورود ولا نصل الى الجواب الثاني.
كما أنَّ الجواب الثاني يختص بالأمارات ولا يأتي في الأصول حتى لو كانت تنزيلية ، لأنَّ الأصول ليس فيها طريقية فإنَّ دليل إعتبار الأصول لا يستفاد منه جعل الطريقية بلا إشكال ، وإنما دعوى الطريقية تختص بالأمارات ، فهذا الوجه يدفع الإشكال في مورد قيام الأمارة مقام القطع الطريقي.
وإعترض السيد الشهيد قده على هذا الوجه بأنَّ الحكومة إنما نتصورها بلحاظ أحكام مشِّرع واحد بأن يأتي الدليل الثاني ويتصرف في موضوع الدليل الأول إما بالتوسعة كــ (الطواف بالبيت صلاة) أو بالتضييق كما إذا جاء الدليل الثاني وأخرج فرداً من موضوع الدليل الأول ، فهذا الفرد علم حقيقة ولكن الدليل الحاكم ينفي كونه علماً فهذه حكومة مضيقة ، فعلى كِلا التقديرين تكون الحكومة في أحكام مشرع واحد ، فيقول مثلاً : (الفقاع خمرٌ إستصغره الناس) فيوسع من موضوع الحرمة ، والتوسعة أو التضييق تُفهم من دليل آخر للمشرع نفسه ، لكن الكلام في إمكان تصور الحكومة بالنسبة الى أحكام مشرعَين مختلفَين ، هل يمكن أن يتصرف دليل من المشرع الثاني في موضوع حكم ورد عن المشرع الأول ؟! هذا لا معنى له .
والمعقول هو أن يتصرف المشرع في موضوع حكمه ، والحكومة التي ذُكرت في الجواب الثاني هي من قبيل المشرعَين المختلفَين حيث يُدعى أنَّ دليل إعتبار الأمارة الوارد من الشارع المقدس حاكم على موضوع حكم العقل بإيجاد فرد من أفراد العلم تعبداً ، وهذا غير متصور.
وبعبارة أخرى أنَّ العقل عندما يحكم بشيء يُحدد موضوع حكمه وليس من حق مشرع آخر التصرف في موضوع حكمه كما هو المدعى في الجواب الثاني ، هذا لا معنى له ، ولا يمكن تصورها بالنسبة الى أحكام مشرعَين متعددين ، هذا الجواب الذي ذكره السيد الأستاذ قده عن الجواب الثاني عن الإشكال الثبوتي.
ومن هنا يتبين أنَّ الجواب الثاني غير تام.
الجواب الثالث ما نُسب الى المحقق العراقي ، ولم أعثر عليه في تقريرات بحثه ، وخلاصته هو أنَّ القاعدة العقلية تختص بما إذا لم نعلم بأنَّ المولى على تقدير ثبوت الحكم المشكوك لا يرضى بتفويته في ظرف الشك لأجل إهتمامه به ، فالأحكام الشرعية على قسمين :
أحكام نعلم أنَّ الشارع لا يرضى بتفويتها على تقدير ثبوتها حتى في ظرف الشك لاهتمامه بها وبملاكاتها الواقعية ، كما يدعى ذلك في الدماء والفروج والأموال ، حيث التزموا بالإحتياط في هذه الموارد فلا تجري البراءة في هذه الأحكام ، فحتى لو لم نعلم بالتكليف لكنا نعلم أنَّ هذا التكليف على تقدير ثبوته مهم عند الشارع جداً ولا يرضى بتفويته ، فعند الشك في هذا التكليف لا تجري قاعدة قبح العقاب بلا بيان ويجري الإحتياط فيها.
وأحكام لا نعلم باهتمام الشارع بها بحيث لا يرضى بتفويتها على تقدير ثبوتها ، بل يرضى بتفويتها في ظرف الشك بها ، وهي سائر الأحكام الأخرى ، وقاعدة قبح العقاب بلا بيان تجري في القسم من الأحكام فقط ، وما نفهمه من أدلة إعتبار الأمارة كــصَدِّق العادل و (لا عذر لأحد من موالينا في التشكيك فيما يرويه عنّا ثقاتنا) ، وحتى (أخوك دينك فإحتط لدينك) هو إهتمام الشارع بالإحكام التي تؤدي إليها هذه الأمارات فيكون الحكم الذي دلت عليه الأمارة من الأحكام التي نعلم باهتمام الشارع به وأنه لا يرضى بتفويته على تقدير ثبوته واقعاً حتى في ظرف الشك ، فإذا علمنا بذلك فلا تجري قاعدة قبح العقاب بلا بيان ، وتكون هذه الأحكام كأحكام الدماء والفروج والأموال ، ومع عدم جريان القاعدة فيها يرتفع الإشكال الثبوتي ، ولا مانع ثبوتاً من الإلتزام بمنجزية الأمارة للتكليف الذي قامت عليه ، أي قيامها مقام القطع الطريقي في المنجزية.