42/11/02
الموضوع : قيام الأمارات والأصول مقام القطع/قيام الأمارات مقام القطع الطريقي المحض/البحث الثبوتي.
كان الكلام في قيام الأمارات والأصول مقام القطع ، والمقصود قيامها مقام القطع بنفس دليل إعتبارها ، وبعبارة أوضح إنَّ دليل إعتبار الأمارة هل يُستفاد منه أنها تقوم مقام القطع أو لا يستفاد ذلك ؟
والكلام يقع تارة في قيام الأمارات مقام القطع الطريقي المحض وأخرى في قيام الأمارات مقام القطع الموضوعي الطريقي ، وثالثة في قيام الأمارات مقام القطع الموضوعي الصفتي ، فالكلام يقع في ثلاث مقامات.
المقام الأول : في قيام الأمارات مقام القطع الطريقي المحض ، ثم نذكر بعد ذلك قيام الأصول العملية مقام القطع الطريقي المحض ، والكلام فعلاً في قيام الأمارات مقام القطع الطريقي المحض والمقصود منه هو قيامها مقامه في التنجيز والتعذير فكما أنَّ القطع الطريقي المحض يكون منجزاً لما تعلق به بمعنى دخول متعلق القطع في عهدة المكلف ويستحق العقاب على مخالفته وإن لم يكن له ثبوت في الواقع _ ليشمل العصيان والتجري _ فكذلك الأمارة إذا قامت على التكليف تنجزه وتدخله في عهدة المكلف بحيث يكون مستحقاً للعقاب على المعصية في صورة المصادفة للواقع ومستحقاً للعقاب على التجري في صورة مخالفة الأمارة للواقع ، فهل يُستفاد من دليل إعتبارها هذا المعنى أو لا ؟
الظاهر أنه لا إشكال عندهم في قيام الأمارات مقام القطع الطريقي المحض في التنجيز والتعذير ، فإذا قامت الأمارة على تكليفٍ تكون منجزةً له وإن لم يكن ثابتاً في الواقع ، كما أنها إذا قامت على نفي تكليف تكون معذرة عنه حتى لو كان ثابتاً في الواقع ، فلا يستحق المكلف العقاب وإن كان التكليف ثابتاً في الواقع ، وهذا المقدار لا إشكال فيه بالنسبة الى الأمارة فتكون منجزة ومعذرة كما أنَّ القطع منجزٌ ومعذر ، هذا هو معنى قيام الأمارة مقام القطع الطريقي في التنجيز والتعذير ، والظاهر أنَّ هذا أمرٌ متفق عليه مهما قلنا في تفسير دليل إعتبار الأمارة ، فهل معناه جعل الحجية للأمارة بمعنى أنَّ الحجية إما مجعولة إبتداءً أو بجعل منشأ إنتزاعها وهو الأمر بالعمل بالأمارة ، فإذا أمر الشارع بإتباع الأمارة والعمل على طبقها فهو أمر تكليفي يُنتزع منه الحجية ، أو قلنا أن دليل إعتبار الأمارة يُستفاد منه تنزليها منزلة العلم ، أو تنزيل مؤداها منزلة الواقع ، أو تنزيل مؤدى الأمارة المظنون منزلة المعلوم ، أو قلنا بأنَّ المستفاد من دليل إعتبار الأمارة جعل الحكم المماثل مطلقاً أو في صورة الإصابة ، على الخلاف ، فعلى كل هذه المسالك والالتزامات في تفسير دليل إعتبار الأمارة هذا المقدار ثابت عند الجميع وهو أن الأمارة بدليل إعتبارها تكون منجزة للتكليف إذا تعلَّقت به وتكون معذرة إذا قامت على نفي التكليف أو على الإباحة أو الترخيص ، هذا لا خلاف فيه.
بل يمكن أن نقول أنَّ التنجيز والتعذير للأمارة هو القدر المتيقن من دليل إعتبارها ، إذا لا معنى لدليل لإعتبارها وحجيتها ولزوم العمل بها إلا أن تكون منجزة ومعذرة ، فمن هنا نستطيع القول أنّ التنجيز والتعذير يثبت للأمارة بدليل إعتبارها بل هو القدر المتيقن من دليل إعتبار على جميع المسالك المختلفة في تفسير معنى الإعتبار والحجية المجعولة في دليل إعتبار الأمارة.
نعم هناك كلام في أنَّ هذا البحث في واقعه بحث إثباتي بمعنى هل نستفيد من دليل إعتبار الأمارة قيامها مقام القطع الطريقي المحض في التنجيز والتعذير أو لا نستفيد ذلك ، وبطبيعة الحال لا بد أن يكون هذا البحث الإثباتي مسبوقاً ببحث ثبوتي في إمكان قيام الأمارة مقام القطع الطريقي المحض أو عدم إمكانه ، ولابد من الفراغ عن البحث الثبوتي أولاً والقول بإمكان قيامها مقام القطع الطريقي المحض ثم نأتي الى البحث الإثباتي.
ومن هنا لابد من طرح البحث الثبوتي عن إمكان قيام الأمارات مقام القطع الطريقي المحض في التنجيز والتعذير ، وهنا قد يُثار الإشكال ويقال بعدم الإمكان ، وذلك لأنَّ قيامها مقامه على خلاف قاعدةٍ عقليةٍ تسمى بقاعدة قبح العقاب بلا بيان ، فتكون دعوى قيام الأمارات مقام القطع مخالفة لحكم العقل بقبح العقاب بلا بيان ، وتوضيح ذلك:
أنّ كون الأمارة منجزة ومعذرة يعني أنها منجزة لمؤداها إذا قامت على التكليف ومعذرة إذا قامت على نفي التكليف والإباحة ، وينبغي الإلتفات الى أنَّ هذا الإشكال يختص بجانب التنجيز في الأمارة ولا يشمل جانب التعذير فيها ، والإشكال يقول :
لا يعقل أن تكون الأمارة القائمة على التكليف منجزة له بحيث تُدخل التكليف في عهدة المكلف ويكون مسؤولاً عن إمتثاله ومستحقاً للعقاب إذا خالفه ، لأنَّ هذا التنجيز على خلاف الحكم العقلي بقبح العقاب بلا بيان ، فإنَّ قاعدة قبح العقاب موضوعها عدم البيان بمعنى أنَّ التكليف الذي لا تَعلم به أنت مأمون من ناحيته ويقبح العقاب على شيء لم يتم عليه البيان ، وموضع هذه القاعدة _ وهو عدم البيان _ محفوظ في موارد الأمارات حتى وإن كانت معتبرة ، لأنها لا تعتبر بياناً على التكليف فيبقى الواقع مشكوكاً ، ويحتمل المكلف عدم ثبوت هذا التكليف في الواقع ، وهذا معنى أنَّ موضوع القاعدة محفوظ في مورد الأمارات ، وإذا كان كذلك فالعقل يحكم بقبح عقاب هذا المكلف على التكليف الذي قامت عليه الأمارة لأنه لم يتم عليه البيان ، فكيف تكون الأمارة منجزة للتكليف ومدخلة للتكليف في العهدة الذي يعني إستحقاق المكلف العقاب على فرض عدم الإمتثال ، والحال أنَّ القاعدة تنفي العقاب !
وهذا إشكال ثبوتي في إمكان أن تقوم الأمارة مقام القطع الطريقي المحض.
وبعبارة مختصرة إن قاعدة قبح العقاب بلا بيان تؤمن من ناحية التكليف الذي قامت عليه الأمارة بإعتبار أنه لم يتم عليه البيان ، فكيف يقال بتنجُّز هذا التكليف على المكلف بقيام الأمارة عليه ؟
ولهذا الإشكال أجوبة نستعرض بعضها :
منها جواب مبنائي يُجيب بإنكار أصل هذه القاعدة ، كما يبني عليه مسلك حق الطاعة إذ ينكر وجود التأمين العقلي في مورد عدم البيان ، وإذا أنكرنا قاعدة قبح العقاب بلا بيان فحينئذٍ يرتفع الإشكال الثبوتي ، بمعنى أنَّ الإلتزام بكون الأمارة منجزة للتكليف لا ينافي الحكم العقلي بالتأمين إذ لا وجود لهذا الحكم أصلاً ، بل إصحاب مسلك حق الطاعة يقولون بأنّ العقل يحكم بالتنجيز مع إحتمال التكليف ، فالحكم العقلي عندهم موافق تماماً لكون الأمارة منجزة للتكليف ، لأنّ هذا المبنى يقول أن مجرد إحتمال التكليف يُنجزه عليك ولو لم تقم الأمارة عليه ، فإحتمال التكليف كالعلم بالتكليف ينجز التكليف على المكلف ، وهذا يؤيد الإلتزام بأنَّ الأمارة منجزة للتكليف ، هذا جواب مبنائي ، فالذي يُنكر قاعدة قبح العقاب بلا بيان فهذا الإشكال عنده مرتفع ، وأما المشهور الذي يؤمن بالقاعدة فيواجه هذا الإشكال الثبوتي ولابد من حله.
وهناك أجوبة بنائية عن هذا الإشكال ، منها :
أنَّ هذا الإشكال مبني على أنَّ موضوع القاعدة هو عدم علم فالبيان الذي أخذ عدمه في هذه القاعدة بمعنى العلم خاصة ، فيقال أنَّ موضوع القاعدة محفوظ في مورد الأمارات لأن الأمارة وإن كانت معتبرة لكنها ليست علماً ويبقى إحتمال الخلاف فيها موجوداً ، فنستطيع القول أنَّ موضوع القاعدة وهو عدم العلم محفوظ فيها ، وفي مورد الأمارة لا يوجد علم فيقبح العقاب ، وهو معنى التأمين ، وهو منافي لمنجزية الأمارة للتكليف ، فيقع التنافي ويرد الإشكال الثبوتي ، أما إذا فسّرنا العلم الذي أخذ عدمه في موضوع القاعدة بما يساوق الحجة أي أنَّ البيان لا يُراد به العلم وإنما يُراد به الحجة ، فقبح العقاب بلا بيان تعني قبح العقاب بلا حجة ، فمع عدم وجود الحجة على التكليف يقبح العقاب ، نعم أظهر أفراد الحجة هو العلم ولكن لا تختص الحجة به ، فالأمارة المعتبرة حجة أيضاً والأصل العملي حجة كذلك ، فإذا كان موضوع القاعدة هو عدم وجود حجة على التكليف فحينئذٍ لا تجري القاعدة في مورد الأمارات ولا تُثبت التأمين لأنَّ الأمارة حجة على التكليف ، فموضوع القاعدة _ وهو عدم الحجة _ غير محفوظ ، وفي مورد الأمارات الحجة موجودة ، وبهذا يُدفع الإشكال ، وهذا مبني على تفسير البيان في القاعدة وأنه لا يراد به العلم وإما يراد به مطلق الحجة.
وبعبارة أخرى : إنَّ دليل إعتبار الأمارة يكون وارداً على القاعدة العقلية أي رافعاً لموضوعها حقيقة ، لأنَّ موضوع القاعدة هو اللاحجة ودليل إعتبار الأمارة يجعل الأمارة حجة حقيقة ، فهو يرفع موضوع القاعدة حقيقة ، فيكون دليل إعتبار الأمارة وارداً على قاعدة قبح العقاب بلا بيان.
وهذا الذي ذُكر يقرب بهذا التقريب :
إنّ قاعدة قبح العقاب بلا بيان قاعدة عقلية ولا يرى العقل فرقاً في قبح العقاب بين العلم بما هو علم وبين الحجة ، فالمكلف إنما يصح عقابه إذا قامت عنده الحجة على التكليف الشرعي وليس إذا قام عنده العلم على التكليف ، ويقبح عقابه إذا لم تقم عنده الحجة على التكليف وليس إذا لم يعلم بالتكليف فقط ، فالمدعى أن َّالعقل لا يحكم بقبح العقاب مع قيام الحجة على التكليف ، وهذا يكون دليلاً على أنَّ البيان الذي أخذَ عدمه في القاعدة يُراد به مطلق الحجة ، فمع عدم الحجة يقبح العقاب ومن الواضح أنَّ موضوع القاعدة لا يكون محفوظاً في مورد قيام الأمارة على التكليف لأنها حجة على التكليف ، والعقاب يكون مع الحجة ، والتنجيز حينئذٍ لا يواجه أي مشكلة ثبوتية.
وجواب آخر عن الإشكال الثبوتي يختلف عن السابق في أنَّ الجواب السابق يُنكر كون البيان بمعنى العلم وإنما هو بمعنى الحجة ، وهذا الجواب مبني على تسليم أنّ البيان بمعنى العلم وأنَّ موضوع القاعدة هو عدم العلم ، ولكن بالرغم من هذا يقول أنَّ موضوع القاعدة غير محفوظ في مورد قيام الأمارة على التكليف فلا يكون الإلتزام بمنجزية الأمارة للتكليف مخالفاً للحكم العقلي ، وسيأتي توضيحه إن شاء الله تعالى.