الأستاذ الشيخ هادي آل راضي

بحث الأصول

42/10/24

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع : التّجرِّي/ تنبيهات التجري /التنبيه الثاني

كان الكلام في التنبيه الثاني وهو في بيان الثمرة من بحث التجري حيث ذكرَ المحقق العراقي أنَّ الثمرة تظهر فيما لو فُرض قيام الأمارة المعتبرة على حرمة عبادة من العبادات ، كحرمة صلاة الحائض مثلاً أو حرمة صوم يوم العيد ، وحيث أنَّ الدليل على الحرمة أمارة فإحتمال الخلاف _ وهو عدم الحرمة _ يكون موجوداً ، فلو فرضنا أنَّ المكلف جاء بتلك العبادة لذلك الإحتمال فصلَّت الحائض وصامَ المكلف برجاء المطلوبية فالكلام في صحة هذه العبادة أو عدم صحتها.

ويقول أنَّ صحة العبادة أو عدم صحتها تبتني على ما نختاره في مسألة التجري ، فإذا قلنا بقبح الفعل المتجرَّى به عقلاً وأنه ذاتي فيكون الفعل مُبعداً وليس صالحاً للمُقربية ، وكيف يمكن التقرب بما هو ظلم للمولى ومُبعِّد عنه ، فالفعل في حد نفسه غير صالح للمقربية ، وفرق كبير بين الصلاة الصالحة للتقرب والإعتداء على الناس مثلاً الذي ليس فيه صلاحية التقرب ، فلابد من الحكم ببطلان العبادة .

أما إذا قلنا بعدم قبح الفعل المتجرَّى به ، سواءً قلنا بمقالة الشيخ من وجود سوء السريرة وخبث الباطن فقط أو قلنا بمقالة المحقق الخراساني من وجود القبح لكن في العزم على المعصية وليس في الفعل ، فعلى كلا التقديرين الفعل ليس قبيحاً ويكون صالحاً للتقرب وليس فيه ما يمنع من التقرب به ، فهو صوم وصلاة في ذاته ولا قبح فيه فيقع الفعل صحيحاً ويحكم بصحته.

نعم هذا لا يمكن فيما لو قطع بالحرمة لأنَّه لا يحتمل المطلوبية حتى يأتي بالفعل برجاء المطلوبية في فرض القطع ، هذا ما ذكره .

وكأنَّ المحقق العراقي في هذا الكلام يفترض أنَّ عبادية العبادة ووقوع الفعل صحيحاً يكفي فيه كون الفعل صالحاً للمقربية ، فكل فعلٍ صالح للمقربية يمكن أن يقع عبادة ويكون صحيحاً إذا جاء به المكلف لإحتمال مطلوبيته ، وكل فعل ليس صالحاً للتقرب هذا يقع باطلاً وإن جاء به المكلف لإحتمال المطلوبية ، فكأنَّ الميزان في وقوع العبادة صحيحة أو عدم وقوعها كذلك هو صلاحية الفعل للتقرب ، وفي محل الكلام الفعل وإن كان عبادة _ وهو الصوم أو الصلاة _ لكن حيث يحكم بقبح الفعل المتجرَّى به _ بحسب المبنى الأول _ فلا يكون صحيحاً ويقع باطلاً ، بخلاف ما إذا لم نحكم بقبحه فيكون صالحاً للتقرب ويقع صحيحاً ، فكأنَّ صحة العبادة لا توقف على شيء آخر غير صلاحية الفعل للتقرب.

ولكن الصحيح أنَّ المعتبر في العبادة ليس صلاحية الفعل للتقرب فقط ، لا إشكال في أنَّ الإنفاق ومساعدة المحتاجين أمور صالحة للتقرب ، والسلام على المؤمن صالح للتقرب لكن لا يكفي ذلك في وقوعه عبادة وإنما يحتاج الى ضم شيء آخر وهو أن يأتي المكلف بالفعل بداعي إلهي وتقرباً إليه وأن يقصد هذا المعنى ، فينفق قربة الى الله في مقابل أن يُنفق لا بداعٍ إلهي ولا تقرُّباً إليه ، فتارة يصلي المكلف بداعِ إلهي ويكون دافعه الى الصلاة أوامر المولى فيكون الداعي إلهياً ، وأخرى يصلي لتقوية عضلات بدنه ، فالصلاة في نفسها صالحة للتقرب لكن الفعل لا يقع عبادة لأنه لم يصدر من المكلف بداعٍ إلهي طاعة وتقرباً الى المولى تعالى ، فمثل هذا الفعل لا يقع عبادة ولا صحيحاً .

وفي محل الكلام مجرد كون الفعل صالحاً للتقرب مع عدم كون الفعل قبيحاً هذا وحده لا يكفي للحكم بصحة العبادة ، بل لابد من صدور الفعل بداعٍ إلهي كالتقرب إليه أو إمتثال أمره سبحانه ، وبناءً على هذا كيف يُحكم في محل الكلام بصحة هذه العبادة ولو على القول بعدم قبح الفعل المتجرَّى به ، فهل يمكن للمكلف أن يأتي بالفعل في المثال بداعي إلهي وأن يقصد التقرب به أو لا؟

إذا أثبتنا أنَّ هذا المكلف يمكن أن يصوم يوم العيد بداعي إلهي متقرباً الى المولى ، أو أنّ الحائض تصلي متقربة الى الله فحينئذٍ يكون كلام المحقق العراقي تاماً ويحكم بصحة هذه الصلاة لتوفر كِلا الشرطين في عبادية العبادة صلاحية الفعل للتقرب وكون المكلف جاء به بداعٍ إلهي متقرباً الى المولى ، لكن الكلام في إمكان التقرب به الى المولى وأن يأتي به بداعٍ إلهي ، وذلك بإعتبار أنَّ المفروض في المسألة قيام الأمارة المعتبرة على حرمة هذا الفعل ، ومع قيام الأمارة التي يجب على المكلف إتباعها والتعبد بها كيف يمكن أن يتقرب بهذا الفعل الذي حرمه الشارع نفسه ؟ فهل يمكن التقرب بهذا الفعل ؟

المدعى أنه لا يمكن ذلك ومن هنا يُحكم ببطلان العبادة حتى إذا جاء بالفعل لإحتمال كونه مطلوباً ، لأنه لا يمكنه أن يتقرب به إلى المولى سبحانه وتعالى ، هذه هي المناقشة التي تُذكر في قبال ما ذكره المحقق العراقي.

وفي مقابل ذلك يُطرح إحتمال إمكان التقرب بهذا الفعل ، بل إمكان التقرب فُرض في أصل المسألة إذ فرضنا أنّ المكلف يأتي بالعمل لإحتمال المطلوبية وهذا في نفسه داعٍ إلهي ووجه من وجوه التقرب ، والنقاش يكون في إمكان تحققه بأن يقال إنّ من قامت عنده الأمارة على حرمة فعلٍ لا يمكنه أن يأتي به لإحتمال المطلوبية ويتقرب به الى الله لأنه حرام ومُبعد ، والجواب في قبال هذا هو أنه يتقرب به بإحتمال المطلوبية لا من جهة حرمته بحسب قيام الأمارة وإنما من جهة إحتمال المطلوبية الموجود فيه ، فإذا أمكن ذلك فحينئذٍ يمكن أن يحكم بصحة العبادة.

نعم إذا ناقشنا في ذلك ومنعنا من إمكان التقرب بالفعل الذي قامت الأمارة على حرمته فيشكل ذلك ولابد من الحكم ببطلان العبادة مطلقاً ، فلا تظهر الثمرة سواءً قلنا بقبح الفعل المتجرَّى به أو لم نقل بذلك ، فعلى كِلا القولين تقع العبادة باطلة ولا يحكم بصحتها.

هذا تمام الكلام في التنبيه الثاني وبه نختم الكلام عن بحث التجري.

أقسام القطع

للقطع تقسيمات متعددة :

التقسيم الأول : تقسيم القطع الى القطع الطريقي والقطع الموضوعي

المقصود بالقطع الطريقي هو ما يكون الحكم فيه ثابت بقطع النظر عنه ، فالقطع حينئذٍ يكون قطعاً طريقياً ، من دون فرقٍ بين أن يكون هذا القطع قطع بالحكم أو بموضوع الحكم ، فالقطع بالحكم من قبيل القطع بحرمة شرب الخمر والقطع بوجوب الصلاة والقطع بحرمة أكل لحم الأرنب وهكذا هذه قطوع طريقية لأنَّ حرمة شرب الخمر لا دخل للقطع بها فالحكم ثابت على موضوعه بقطع النظر عن القطع بالحرمة.

والقطع بالموضوع من قبيل القطع بخمرية هذا المائع ، فليس للقطع دخل في الحكم ، فلا القطع بالحكم دخيل في الحكم ولا القطع بالموضوع دخيل فيه لأنَّ الحرمة ثابتة للموضوع سواءً قطع بالخمرية أو لم يقطع بها ، ودور القطع هنا الكشف عن الواقع فقط وإحراز هذه الحرمة.

والقطع الموضوعي بعكسه وهو ما كان دخيلاً في الحكم _ موضوعاً أو جزء موضوع الحكم _ فالحكم مترتب على القطع بحيث لا يكون الحكم ثابتاً من دون القطع ، والقطوع الموضوعية نادرة في الأدلة وعلى سبيل الفرض إذا قطعتَ بخمرية مائع فيحرم عليك شربه ، فهذه الحرمة موضوعها القطع ، فإذا لم يتحقق القطع بالخمر فلا توجد حرمة الشرب ، فهذا قطع موضوعي لأنه دخيل في موضوع الحكم.

وقد يكون القطع الموضوعي في الحكم لا في الموضوع كما إذا أخذ القطع بحكم في موضوع حكمٍ آخر يماثله أو يخالفه ، فالمماثل من قبيل إذا قطعتَ بوجوب الصلاة وجب عليك التصدق ، فالقطع بوجوب الصلاة أُخِذ في موضوع الحكم بوجوب التصدق ، والمخالف من قبيل إذا قطعتَ بوجوب الصلاة حرم عليك السفر.

وللقطع الموضوعي تقسيمان معروفان :

التقسيم الأول تقسيم القطع الموضوعي _ الدخيل في الحكم _ الى قطع موضوعي طريقي وقطع موضوعي صفتي ، هذا ما ذكره الشيخ في الرسائل ، وهذا التقسيم يمكم أن يكون له تفسيران :

التفسير الأول أنَّ المراد بالقطع الموضوعي الصفتي هو أخذُ القطع في موضوع الحكم ولكن بما هو صفة خاصة تساوق الجزم واليقين وعدم التردد والوضوح في قِبال سائر الصفات النفسية كالظن والتشكيك والتردد ، بمعنى قطع النظر عن جهة كاشفيته عن الواقع فلا يؤخذ في الحكم بلحاظ كاشفيته عن الواقع ، بل تلغى هذه الجهة ويؤخذ بما هو صفة الجزم وعدم التردد ، كما لو قيل إذا قطعتَ بحياة ولدك فتصدق كل يوم ، بمعنى حصول الجزم لديك ، وهذا في قبال القطع الموضوعي الطريقي أي أخذهُ بما هو كاشف ، فهو موضوعي لأخذه في موضوع حكم وطريقي لأخذه بما هو كاشف عن الواقع.

التفسير الثاني : أن يقال لا يوجد إلغاء لجهة لكشف في كِلا القسمين _ القطع الموضوعي الصفتي والموضوعي الطريقي _ بل هذه الجهة محفوظة ، وإنما الفرق بينهما في أنه هل يُعتبر مع الكاشفية خصوصية أخرى في القطع أو لا ؟

فهذا القطع الذي أُخذ في موضوع الحكم الشرعي هل لوحظ وجود خصوصية أخرى _ وهي كونه موجباً للجزم وعدم التردد والشك _ في موضوع الحكم الشرعي ، أم لم تلاحظ ؟ فإن لُحظت فيكون هذا القطع الموضوعي صفتي وإن لم تُلحظ وقُصر النظر على جهة الكشف فهذا القطع الموضوعي طريقي ، فالفرق بينهما بعد أخذه في موضوع الحكم يكمن في لحاظ خصوصية بالإضافة الى جهة الكشف أو عدم لحاظها ، إن لُحظت الخصوصية فهو قطع موضوعي صفتي ، وإن لم تلحظ الخصوصية فهو قطع موضوعي الطريقي.

فهناك فرق بين التفسيرين التفسير الأول يقول أن القطع الموضوع الصفتي يُلغي جهة الكشف ، والتفسير الثاني لا يُلغي جهة الكشف وإنما يضم إليها خصوصية في القطع وتكون ملحوظة عند أخذه في موضوع الحكم الشرعي ، هذان تفسيران للقطع الموضوعي الصفتي والقطع الموضوعي الطريقي.