الأستاذ الشيخ هادي آل راضي

بحث الأصول

42/10/23

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع : التّجرِّي/ تنبيهات التجري /الملاحظة على التنبه الأول

كان الكلام في تنبيهات التجري وكان التنبيه الأول يرتبط بما ذكره صاحب الفصول قده ، فأنه يُسلِّم قبح التجري ويُسلم إستحقاق المتجري للعقاب ، وذكر أنَّ القبح في التجري ليس ذاتياً وإنما يختلف بإختلاف الوجوه والإعتبارات ، ومن هنا قد يكون هذا القبح منافياً للجهات الواقعية ولذلك يقع الكسر والإنكسار بين هذا القبح الثابت في التجري وبين الجهات الواقعية ، كما تقدم بيانه في الدرس السابق.

وذكرنا الملاحظة الأولى عليه وكانت راجعة الى إنكار كون القبح في باب التجري بالوجوه والإعتبارات ، ودعوى أنَّ القبح في التجري ذاتي لأنه في واقعه وحقيقته ظلم وتجاوز على حق المولى ، ومن الواضح أنَّ قبح الظلم ذاتي وليس بالوجوه والإعتبارات ، ولا يُعقل أن يكون هناك ظلم وليس قبيحاً .

الملاحظة الثانية : لو تنزلنا وسلَّمنا أنَّ قبح الظلم بالوجوه والإعتبارات لكن الجهة التي تكون موجبة لتَغيُّر هذا القبح والتأثير عليه لابد أن تكون مُلتفتاً إليها من قِبل المتجري نفسه حتى تكون صالحة للتأثير على قبح التجري بأن ترفعه أو تُقلله ، ولابد أن تكون إختيارية ومقصودة للمكلف حتى تكون رافعة لقبح التجري ، وهذا من قبيل الكذب فإنه إنما يرتفع قبحه إذا كانت هناك جهة واقعية كإنجاء مؤمن توجب رفع القبح ، ولكن بشرط أن تكون مقصودة للمكلف وملتفت إليها ، فحينئذٍ تكون مؤثرة في هذا القبح ، وفي المقام نقول أنَّ قبح التجري إنما تؤثر فيه الجهات الواقعية عندما يكون المتجري ملتفتاً إليها ، فلو صادف الفعل الوجوب في الواقع فهذا الوجوب لا يمكن أن يؤثر في قبح التجري لأنَّ المتجري لا يلتفت إليه ولا إلى ملاكاته أصلاً ، بل هو غافل عنها ، ومع الغفلة عنها كيف تكون مؤثرة في قبح التجري ، ولهذا نقول في باب الكذب أنَّ قبحه يبقى ثابتاً في حال الغفلة عن ترتب إنجاء المؤمن عليه ، وإن ترتب عليه فعلاً ما دام هذا الكاذب غير قاصدٍ ولا ملتفت إليه ، وهذا بناءً على التنزل عن أنَّ القبح في التجري ذاتي وليس بالوجوه والإعتبارات ، ولم نُسلًّمه.

الملاحظة الثالثة : ما تقدمت الإشارة إليه بأنَّ هناك خلط بين باب المصالح والمفاسد وبين باب الحُسن والقبح العقليين ، فالمصالح والمفاسد هي ملاكات الأحكام الواقعية ، وهناك باب آخر هو باب الحسن والقبح العقليين ، وهذان أمران مستقلان لا تنافي بينهما أصلاً ، فلا داعي لفرض مسألة الكسر والإنكسار التي يقول بها صاحب الفصول ، لأنها تبتني على وجود تنافي بين الجهة الواقعية وقبح التجري كما إذا كانت الجهة الواقعية هي الوجوب ، فإذا كان الفعل واجباً في الواقع فهذا يُنافي كونه قبيحاً من جهة التجري فيحصل الكسر والإنكسار بينهما بحسب الأقوى ، فإن كانت الجهة الواقعية أقوى إرتفع القبح وإن كان القبح أقوى إرتفعت الجهة الواقعية ، لكن هذا كله مبني على تخيُل وجود منافاة بين الجهة الواقعية وبين قبح التجري ، بينما لا توجد في الواقع منافاة بينهما ، لأنَّ الجهة الواقعية مرتبطة بالمصالح والمفاسد وهي أمور ثابتة بقطع النظر عن إلتفات المكلف إليها وعلمه بها أو عدم إلتفاته ، فشرب الخمر فيه مفسدة مطلقة عَلِمَ بها المكلف أو لم يعلم ، ولا منافاة بين هذه الأمور الواقعية وبين الحسن والقبح ، بمعنى أنه لا مشكلة بنظر العقل بأن يكون الفعل فيه مفسدة واقعية لكن يحكم بحُسنه فيما إذا صَدرَ من المكلف على وجه حَسن ، كما إذا فرضنا جهل المكلف بحرمة شيء ووجود مفسدة فيه وأتى به المكلف بقصد قُربي فإنه يُحكم بحُسنه مع أنَّ فيه مفسدة ، والعكس بالعكس فقد يكون الفعل فيه مصلحة واقعية لكن يُحكم بقبحه لأنَّ جهة صدوره توجب قبحه كما في محل الكلام ، فإذا كان المكلف معتقداً أنَّ هذا حرام وفيه مفسدة ولكنه في الواقع كان فيه مصلحة فجاءَ به مُتجرياً على المولى فيُحكم بقبحه من جهة التجري وفي نفس الوقت هناك مصلحة ملزمة واقعية ولا منافاة بين الأمرين ، ولذا نقول وقع الخلط بين الأمرين.

الملاحظة الرابعة : وذكر أيضاَ أنَّ لازم ذلك هو تعدد إستحقاق العقاب في حالة إجتماع التجري مع المفسدة الواقعية كما في باب العصيان ، وكأن هذا يكون موجباً لتعدد إستحقاق العقاب ، إستحقاق من جهة التجري وإستحقاق آخر من جهة المعصية الحقيقية وإرتكاب الحرام الواقعي ، وهذا ما عبَّرنا عنه سابقاً بتفويت الأغراض اللزومية للمولى ، وأنَّ المولى كما له حق الطاعة في إحترامه وفي رعاية شؤونه فله أيضاً حق الطاعة في تحصيل أغراضه اللزومية وعدم تفويتها ، وفي باب العصيان هاتان الجهتان موجودتان فهناك خرق لحق الطاعة وهناك خرق لحق المولى لتحصيل أغراضه اللزومية فتتعدد جهات إستحقاق العقاب فيتعدد إستحقاق العقاب ، وهذان العقابان اللذان يستحقهما العاصي هل يتداخلان أو لا ؟

قد يقال يتداخلان وليس هناك إلا عقاب واحد ، ويُستدل على ذلك بأنه لا يوجد في مورد المعصية إلا عقاب واحد وليس هناك عقاب على التجري وعقاب على العصيان ، بل الإرتكاز العقلائي قائم على عدم تعدد العقاب ، وكذلك إذا أطاع المكلف فيُثيبه ثواباً واحداً ولا يُثيبه على الإنقياد وعلى الإطاعة الحقيقية ، فقد يقال إنَّ هذا مؤشر على تداخل العقابين بعد فرض تعدد الجهات الموجبة لتعدد الإستحقاق ، وهذا معناه أنَّ التجري إنما يكون ملاكاً مستقلاً لإستحقاق العقاب عندما لا يُصادف الحرام الواقعي كما أشرنا إليه سابقاً وأما حيث يُصادف الحرام الواقعي في باب المعصية فيَندك هذا التجري في المعصية الحقيقية ولا يكون له أي أثر ويكون الأثر والتأثير للمعصية الحقيقية ، نعم إذا إنفرد التجري عن المعصية الحقيقية فعندئذ يكون ملاكاً مستقلاً لإستحقاق العقاب.

وهذا الكلام _ أي التداخل _ ليس له وجه ومرجعه الى إنكار أن يكون التجري ملاكاً لإستحقاق العقاب ، ونحن أنكرنا التداخل وقلنا بأشدية العقاب ، بمعنى أنَّ العاصي يستحق عقاباً أشد مما يستحقه المتجري ، وهذه الزيادة في العقاب تأتي من وجود ملاك آخر لإستحقاق العقاب ، وإستشهدنا على ذلك بأنَّ العقلاء لا يلومون المولى إذا عاقب العاصي بعقاب أشد من عقاب المتجري ، بل لعله لو عاقب العاصي بعقاب مساوي لعقاب المتجري لقالوا هذا ليس في محله ، وهذه إرتكازات عقلائية يمكن أن يُستأنس بها لما نقوله من أنه لا موجب للتداخل وإلغاء تأثير التجري في إستحقاق العقاب فيما لو صادف المعصية الحقيقية ، وهذا يعني أننا نلتزم بتعدد العقاب ولكن بمعنى أنَّ العاصي يستحق عقاباً أشد مما يستحقه المتجري ، هذا تمام الكلام في التنبيه الأول.

التنبيه الثاني : ونتعرض فيه لما تعرض له المحقق العراقي في تقريرات بحثه ، فقد ذكر ثمرة لبحث التجري ، وخلاصتها :

تارة نقول بقبح الفعل المتجرَّى به ، وأخرى نقول بعدم قبحه ، فإذا قلنا بقبحه وأنَّ القبح فيه ذاتي لا بالوجوه والإعتبارات فحينئذٍ يكون هذا الفعل مُبعِّداً بمعنى أنه ليس صالحاً للقترب به ، وفَرَضَ الثمرة في فرع فقهي مهم جداً ومحل الابتلاء وهو فيما إذا قامت الحجة على حرمة عبادة ما كما لو قامت الأمارة على أنَّ غداً يوم عيد ، وفرضنا أنَّ المكلف صامَه برجاء أن لا يكون عيداً وأنَّ صومه واجباً _ وهذا يتأتّى من المكلف في مورد قيام الأمارة على كونه عيداً بخلاف ما لو قطع بأنه يوم عيد ، ثم إنكشف بد ذلك أنَّ هذا اليوم ليس عيداً وإنما هو مما يجب صومه _ فيقع الكلام في أنَّ هذه العبادة هل تصح من هذا المكلف أو لا تصح منه ؟

وهذا الفرع داخل في باب التجري فقد قلنا لا فرق بين درجات إحراز المخالفة ، فلا فرق بين القطع بخمرية شيء وقيام الأمارة على خمريته.

يقول : إن قلنا بقبح الفعل المتجرَّى به وأنَّ قبحه ذاتي فلا يمكن تصحيح هذا الصوم ، وإن جاء به برجاء مطلوبيته ، بإعتباره أمراً قبيحاً لا يمكن التَّقرُّب به ولا يكون صالحاً لذلك كأي حرام واقعي ، فيحكم ببطلانه وعدم صحته .

وإن قلنا بعدم قبح الفعل المتجرَّى به فيمكن القول بصحة العمل وصلاحيته للمُقربيّة ، سواءً قلنا بما يقوله الشيخ وهو عدم وجود قبح في الفعل وأن الموجود هو سوء السريرة فقط أو قلنا بما يقوله صاحب الكفاية من أنَّ القبح يكون في العزم على المعصية ولا يسري إلى الفعل ، فعلى كلا التقديرين لا مانع من تصحيح العمل.