الأستاذ الشيخ هادي آل راضي

بحث الأصول

42/10/20

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع : التّجرِّي/ أدلة إستحقاق المتجري العقاب/ الدليل الثالث والملاحظة عليه / تنبيهات التجري

كان الكلام في الدليل الثالث والأخير على إستحقاق المتجري للعقاب ذكرنا الدليل في الدرس السابق وذكرنا الملاحظة عليه وتتلخص في أنَّ أخذ المصادفة في موضوع الحكم العقلي بالإستحقاق يمكن أن تتصور على نحوين :

التصور الأول : أنَّ نفترض الإصابة هي العلة أو المقتضي للإستحقاق .

التصور الثاني : أن الإصابة تمثل عدم المانع فقط ، بمعنى أنَّ المقتضي أو العلة لإستحقاق للعقاب شيء والإصابة عدم مانع فقط ، هذا المقتضي للإستحقاق إذا إقترن بعدم المانع وهو الإصابة فيؤثر أثره ولذا يثبت الإستحقاق في حق العاصي ، فيستحق العقاب لكونه في مقام العناد والتمرد والخروج عن حق الطاعة والعزم على المعصية ، هذا هو مقتضي الإستحقاق ، فيعاقب على عزمه على المعصية .

وفي باب التجري يقال أيضاً بأن مقتضي إستحقاق العقاب هو العزم على المعصية والجرأة على المولى والخروج عن حق الطاعة ، ولكنه في باب التجري يقترن بالمانع وهو عدم الإصابة _ أي بالخطأ _ فلا يؤثر المقتضي أثره وهو الإستحقاق فلا يكون المتجري مستحقاً للعقاب ، وهذا النحو من تصور دخل الإصابة في هذا الحكم العقلي ليس فيه محذور.

فإناطة إستحقاق العقاب بالإصابة على تتصور على نحوين وفي التصور الأول _ علية الإصابة للإستحقاق _ يرد الإشكال والدليل يكون تاماً ، فإن الإصابة غير موجودة في باب التجري فيختص الإستحقاق بالعاصي ، وهذا لا يمكن الإلتزام به لأنَّ معناه إناطة إستحقاق العقاب بأمرٍ غير إختياري وهو الإصابة وهذا غير معقول فحينئذٍ فلابد أن نلتزم بأنَّ الإصابة ليست هي العلة للإستحقاق وأنَّ العلة شيء آخر ، وهذا الشيء الآخر كما هو موجود في العاصي موجود أيضاً في المتجري فيستحق المتجري العقاب ، وبعبارة أخرى هذا الدليل مبني على التصور الأول ، ويكون تاماً.

وأما بناءً على التصور الثاني وهو أنَّ الإصابة تمثل عدم المانع ، أي أنَّ الخطأ مانع ، وحينئذٍ يمكن أن نفرق بين العاصي والمتجري من دون أن يلزم محذور عقلي ، وذلك بأن نقول أنَّ العاصي يستحق العقاب لأنه عزم على المعصية وتمرد على المولى ، وهذه العلة أو المتقضي إقترن في باب العصيان بعدم المانع أي إقترن بإصابة القطع للواقع ، لأنَّ عدم الإصابة مانع فإذا إقترن بالإصابة يعني إقترن بعدم المانع.

وبعبارة أوضح الخطأ هو المانع من تأثير المقتضي في الإستحقاق ، وفي باب العصيان لا يوجد خطأ وهذا يعني أن المقتضي للإستحقاق إقترن بعدم الخطأ _ أي بعد المانع _ فيؤثر المقتضي أثره وهو إستحقاق العقاب ، فيكون العاصي مستحقاً للعقاب ، ولا محذور فيه لأنَّ ثبوت إستحقاق العقاب في العاصي لأمرٍ إختياري وهو العزم على المعصية والتمرد على المولى ، نعم الإصابة التي تُمثل عدم المانع أمرٌ غير إختياري لكن لا إشكال في أن يكون عدم المانع أمراً غير إختياري كما في حالة العجز فلو عجز المكلف عن إمتثال التكليف فخالف عاجزاً أو مريضاً فلا يستحق العقاب لأنَّ العجز يُمثل المانع من إستحقاق العقاب ، لكنه لو كان صحيحاً _ أي إرتفع المانع _ وخالف في إشكال في إستحقاقه العقاب لأنَّ الإستحقاق يكون معلولاً للأمر الإختياري وهو إقدامه على هذا الفعل المقترن بعدم العجز أي المقترن بعدم المانع ، والعجز أمر غير إختياري.

إذن لا مشكلة في أن يكون المانع أمراً غير إختياري فإذا إنتفى هذا الأمر في باب العصيان فيؤثر المقتضي أثره ، ويثبت الإستحقاق في باب العصيان ، فلا ضير في أن نقول بإستحقاق العاصي العقاب ونُعلِّله بأمرٍ إختياري له وهو العزم على المعصية.

أما المتجري فلا يستحق العقاب فإن المقتضي للإستحقاق وإن كان موجوداً بالنسبة إليه وهو العزم على المعصية والتمرد على المولى كما في العاصي ، لكن هذا المقتضي إقترن بالمانع وهو الخطأ _ عدم الإصابة - فلا يثبت الإستحقاق ، ولا محذور فيه لأنّ الإستحقاق لم يُعلل بأمر غير إختياري حتى يقال بالإستحالة وإنما عُلل الإستحقاق بأمر إختياري وهو العزم على المعصية ولا مشكلة في الإلتزام بهذا ، فلا يتم هذا الدليل ، بمعنى إمكان التفرقة بين المتجري وبين العاصي في إستحقاق العقاب وهذا التفريق ليس فيه محذور ، كما يتخيل في الدليل وهو أنه يلزم منه أمر غير معقول وهو إناطة الإستحقاق بأمر غير إختياري ، أي أن عقاب العاصي لأنَّ قطعه صادف الواقع ، والصحيح أنَّ عقابه لأنه عزم على المعصية ، وهو وإن كان موجوداً في باب التجري إلا أنه هناك إقترن بالمانع وفي العصيان يقترن بعدم المانع .

ففي باب العصيان _ بناءً على التصور الثاني وهو التصور الصحيح _ نعاقب العاصي على أمرٍ إختياري له وهو العزم على المعصية ، وفي باب التجري لا نعاقب المتجري لأنه أخطأ في قطعه وهو أمر غير إختياري ، وعدم العقاب على أمر غير إختياري لا محذور فيه ، المحذور في العقاب على أمر غير إختياري ، هذا محال وظلم ، وأما أن لا نعاقب شخصاً لأمر غير إختياري فلا مشكلة فيه كالمجنون والعاجز فإنه لا يُعاقب لجنونه ولعجزه وهو أمر غير إختياري له .

فعلى التصور الثاني العقاب يكون على أمر إختياري في العاصي وهو العزم على المعصية ، وأما المتجري فلا يعاقب وإن كان المقتضي موجود فيه لأنه أخطأ الواقع وعدم العقاب على أمر غير إختياري ليس فيه محذور.

هذا هو الجواب عن هذا الدليل .

الى هنا يتم الكلام عن التَجري ، وقد تبيّن من خلال البحث أمور :

الأول : أنَّ التجري قبيحٌ بنظر العقل ، وأنه يستتبع إستحقاق العقاب للدليل الأول بعد تعديله وهو الدليل المعتمد لإستحقاق المتجري للعقاب.

الثاني : أن ما نقول من قُبح التجري بنظر العقل وأنه يستتبع إستحقاق العقاب لا يلازم قبح الفعل الخارجي ، ولذا نحن نلتزم بعدم قبح الفعل الخارجي الـمُتجرَّى به ، ونلتزم بالقبح في باب التجري بإعتبار العزم على المعصية ، ونلتزم أيضاً بإستحقاق المتجري للعقاب لكن ليس على الفعل الذي تجرَّى به وإنما على العزم على المعصية.

الثالث : أنَّ هذا لا يُلازم حرمة الفعل الـمُتجرَّى به ، فالفعل الـمُتجرَّى به لا هو حرام شرعاً ولا هو قبيح عقلاً.

الرابع : أنَّ هناك ملاكين لإستحقاق العقاب ، أحدهما هو تفويت غرض المولى الملزم الثابت في موارد الأحكام الإلزامية ، والآخر عدم إحترام المولى وعدم القيام بشؤون الطاعة التي يحكم بها العقل ، والملاك الأول ينشأ من أنَّ للمولى حق تحصيل أغراضه اللزومية التي هي الهدف من وراء تكاليفه فإذا فوَّت العبد على المولى غرضه إستحق العقاب ، والملاك الثاني ينشأ من إحترام المولى ورعاية شؤونه بإعتباره الخالق و الرازق والمنعم ، مضافاً الى أنه أهلٌ للطاعة وأهل للعبودية ونحو ذلك.

هذان الملاكان للإستحقاق متحققان في العصيان ، فالعاصي خرق حق الطاعة في مسألة إحترام المولى وخرق حق الطاعة في أنه فوَّت على المولى أغراضه ، وأما في التَّجري فلا يوجد إلا خرق لحق الطاعة من جهة واحدة لأنه لم يُفوِّت على المولى أغراضه ، ولذلك قلنا أنه لا مشكلة في الإلتزام بتعدد إستحقاق العقاب في باب العصيان دون التجري لكن بمعنى أن العقاب يشتد لوجود ملاكين للإستحقاق.

هذا هو تمام الكلام في باب التجري .

    1. تنبيهات التجري

ذكرَ علماؤنا رضوان الله عليهم تنبيهات في ختام بحث التجري ، وفي الدورة السابقة تعرضنا لجملة منها وسنقتصر على تنبيهين من هذه التنبيهات في هذه الدورة :

التنبيه الأول : يرتبط بما ذكره صاحب الفصول فإنه بعد أن سَلَّم قبح التجري وإستحقاق العقاب عليه ذكرَ أنَّ قبح التجري لا يكون ذاتياً وإنما يختلف بالوجوه والإعتبارات ، وعندهم أنّ القبح تارة يكون ذاتياً في الشيء وأخرى لا يكون ذاتياً في الشيء في حد نفسه لكنه قد يكون قبيحاً إذا تعنون بعنوان قبيح ، ويكون حسناً إذا تعنون بعنوان حسن ، وهذا ما يعبرون عنه بأنه يختلف بإختلاف الوجوه والإعتبارات.

وصاحب الفصول يقول أن قبح التجري من هذا القبيل فليس قبحه ذاتياً وإنما يختلف بإختلاف الوجوه والإعتبارات ، وعلى هذا الأساس يقول سوف يحصل الكسر والإنكسار بين قبح التجري وبين الجهات الواقعية ، فقد تكون المصلحة الواقعية الموجودة في الفعل الـمُتجرَّى به رافعة لقبحه ، وقد يكون قبح الفعل الـمُتجرَّى به أقوى من المصلحة الواقعية فيُقدم القبح على المصلحة الواقعية ويلتزم بأنه قبيح ، وقد يشتد القبح في الفعل الـمُتجرَّى به كما إذا كان في حد نفسه مكروهاً ، وقد يتعدد قبحه كما إذا صادف الحرام الواقعي ، وقد لا يكون لقبح الفعل الـمُتجرَّى به مزاحم كما إذا صادف المباح الواقعي ، ومن هنا إلتزم صاحب الفصول بتعدد القبح وتعدد العقاب فيما إذا صادف الحرام الواقعي لوجود ملاكين للقبح ملاك التجري وملاك المعصية الواقعية ، وهذا نفس ما عبَّرنا عنه بملاك تفويت الأغراض اللزومية على المولى الذي لا يكون إلا بالمعصية .

ويقول يتداخل العقابان ويكون قبح التجري حينئذٍ أشد وأكثر مما إذا كان الفعل الـمُتجرَّى به مكروهاً ، وهذا العقاب الأخف _ إذا كان الفعل مكروهاً _ يكون أشد فيما لو كان الفعل مباحاً في الواقع إذ لا توجد جهة واقعية تزاحم هذا القبح وتوجب إشتداده.

أما إذ كان الفعل المتجرى به واجباً في الواقع فيقع التزاحم بين ملاك الوجوب الواقعي وبين ملاك التجري وقد يتساويان فلا قُبح ، وقد يكون أحدهما أقوى فيُقدم ، هذا خلاصة ما كلامه .

ويلاحظ عليه :

أولاً : دعوى أنّ قبح التجري ليس ذاتياً وأنه يختلف بإختلاف الوجوه والإعتبارات غير واضحة ، وهذا أول الكلام ، هذا يعني أنَّ التجري كأي فعل آخر ليس فيه ملاك للقبح إطلاقاً وإنما إذا تعنون بعنوان قبيح كان قبيحاً وإذا تعنون بعنوان حَسن كان حسناً ، كالقيام والعقود مثلاً ليس فيها قبح ذاتي ولكن إذا كان القيام تكريماً للظالم أو إهانة لمؤمن كان قبيحاً وإذا تعنون بعنوان حسن كان حسناً ، لكن قبح التَّجري ليس من هذا القبيل حتى نقول أنَّ قبحه ليس ذاتياً ، والسر فيه أن التَّجري في واقعه ظلم وتعدي على المولى وسلب لذي الحق حقه ، ولا شك في أنَّ قبح الظلم ذاتي ، ولا يُتصور ظلم ليس قبيحاً ، والفعل التابع للوجوه والإعتبارات يمكن تصوره ليس قبيحاً ، وأما التجري في واقعه ظلم فلا يكون إلا قبيحاً ، وهذا نظير المعصية والطاعة فالمعصية قبيحة وقبحها ذاتي والطاعة حسنة وحسنها ذاتي ، لأنَّ المعصية ظلم والطاعة عدل ووضع للشيء في موضوعه ، فهناك فرق بين التّجري الذي هو ظلم في واقعه فيكون القبح فيه ذاتياً وبين عناوين أخرى كالصدق والكذب مما ليس حسنه ولا قبحه ذاتياً له وإنما إذا تعنون بعنوان حَسن كان حسناً وإذا تعنون بعنوان قبيح كان قبيحاً ، وذلك لأن الصدق والكذب لا يرجعان الى العدل والظلم ، وأما التجري فيرجع الى الظلم ، والكذب ليس فيه ظلم لأحد ولذا نقول أنَّ القبح فيه ليس ذاتياً.