الأستاذ الشيخ هادي آل راضي

بحث الأصول

42/10/18

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع : التّجرِّي/ المقام الثالث في إستحقاق العقاب على التَّجرَي/أدلة إستحقاق العقاب/ الدليل الثاني والملاحظة عليه

كان الكلام في الدليل الأول على إستحقاق المتجري للعقاب ، وكان يركز على أن المصادفة للواقع ليست دخيلة في الإستحقاق ، فإذا لم تكن دخيلة فيه فيثبت الإستحقاق في المتجري كما يثبت في العاصي ، إذا لا فرق بينهما إلا أنّ العاصي أصاب قطعه الواقع والمتجري لم يصب قطعه الواقع ، لكن الإصابة ليس دخيلة في إستحقاق العاصي للعقاب، فيكون الموجب الموجود في العاصي موجوداً أيضاً في المتجري وهو كونه بصدد العصيان والمخالفة والتمرد ونحو ذلك ، هذا هو الدليل الأول .

والملاحظة التي أبديناها عليه هي لا داعي لإنكار دخل المصادفة في الإستحقاق لكن المقصود منها ليس المقصود منها ما يتصوره المستدل وهو ثبوت الإصابة في نفس الأمر والواقع ، وإنما المقصود منها هو الإصابة بنظر القاطع نفسه ، فإذا كان الشخص قاطعاً بالإصابة فهذا كاف في إستحقاق العقاب ، والمقصود من ذلك هو أنّ تمام موضوع الإستحقاق هو العلم المصيب للواقع بنظر القاطع ، ومن الواضح أنّ كل عالم يرى أنَّ قطعه مصيب للواقع سواء صادف قطعه الواقع في نفس الأمر أم لا ، فمادام قاطعاً بأنَّ هذا خمر وحرام فهو قاطع بأنَّ قطعه مصيب للواقع لأنه لا يحتمل الخلاف في قطعه ، هذا هو موضوع الإستحقاق وهو موجود في المتجري فيثبت الإستحقاق فيه ، فبدلاً من إنكار دخل الإصابة في الإستحقاق العقلي للعقاب لنعترف بدخولها في موضوع الإستحقاق العقلي بهذا المعنى لا بالمعنى المطروح في الدليل وهو الإصابة في نفس الأمر والواقع .

وفي الدليل المتقدم كلام بالوجهين المذكورين أما الأول الذي ذكره أنه يؤدي الى عدم فعلية الحكم العقلي لأنّ الإصابة غير محرزة ، فعلى تقدير أن يُراد الإصابة الواقعية فله وجه فإنها غير محرزة عادة إلا نادراً.

وأما الوجه الثاني وهو أنه يستحيل أن تكون الإصابة دخيلة في موضوع الإستحقاق لأنها غير إختيارية فهو ناظرٌ أيضاً الى الإصابة الواقعية ، وهناك كلام في إمكان إناطة الإستحقاق بالأمر غير الإختياري ، أو أنَّ معناه وجود مانع من الإستحقاق في باب التجري وهو عدم الإصابة ، لا إناطة الإستحقاق بالإصابة وهي أمر غير إختياري .

وعلى كل حال نحن تخلصنا من كل هذه الإشكالات بالتصوير المتقدم وهو أنَّ الإصابة دخيلة لكنها الإصابة بنظر القاطع نفسه ، أي أنَّ موضوع الإستحقاق هو العلم بإصابة الواقع ، وهو موجود في باب التجري ، فالإستحقاق ثابت في المتجري كما هو ثابت في العاصي .

والدليل يُساعد على هذا أيضاً ، فما ندركه بقولنا هو أنَّ الدخيل في إستحقاق العقاب هو كون العبد في مقام عصيان المولى والتمرد عليه وإنتهاك حق الطاعة والخروج عن مراسم العبودية ، وهذا لا تكون إصابة الواقعية دخيلة فيه ، فسواء كان قطعه مصيباً للواقع ونفس الأمر كالعاصي أو لم يكن كذلك كالمتجري.

وعليه فالدليل ينبغي أن يكون بهذا الشكل حتى يكون تاماً بأن يقال أنّ الإصابة الواقعية وفي نفس الأمر ليست دخيلة في إستحقاق العقاب لأنه مرتبط بحق الطاعة واحترام المولى ولزوم رعاية شؤونه ، وهذه كلها لا دخل للمعصية الحقيقية فيها بل الدخيل هو كون العبد في مقام التمرد على المولى ، فإذا عَدَّلنا الدليل بهذا الشكل وقلنا أنَّ الدخيل هو العلم بإصابة الواقع في نظر القاطع ، فحينئذٍ يكون هذا الدليل تاماً لإثبات إستحقاق المتجري للعقاب ، هذا هو الدليل الأول.

الدليل الثاني : وهو ما قيل من أنَّ القبح الفاعلي هو ملاك الإستحقاق لا القبح الفعلي ، ومن الواضح أنَّ القبح الفاعلي موجود في التجري كما هو موجود في العصيان ، فيثبت إستحقاق العقاب في المتجري كما يثبت في العاصي ، نعم لو كان ملاك الإستحقاق القبح الفعلي فهو غير موجود في باب التجري.

وأما الدليل على أنَّ ملاك الإستحقاق هو القبح الفاعلي لا القبح الفعلي فيستدل عليه بأنَّ القبح الفعلي لو كان هو ملاك الإستحقاق فيلزم أن يثبت الإستحقاق في موارد الجهل ، والحال أنه لا يوجد إستحقاق العقاب قطعاً ، والمقصود بموارد الجهل ما لو إعتقد المكلف أنَّ هذا ماء وشربه فتبيّن أنه خمر ، فشَرِبَ الخمر جهلاً ، فالقبح الفعلي هنا موجود لأنه شرب الخمر لكن القبح الفاعلي غير موجود لإعتقاده أنّ هذا ماء ، فلو كان ملاك الإستحقاق هو القبح الفعلي لكان اللازم أن نلتزم بإستحقاق هذا الجاهل للعقاب لوجود القبح الفعلي فيما فعله بينما لا يمكن الإلتزام بإستحقاق الجاهل للعقاب ، وهذا يعني أن الملاك الإستحقاق ليس هو القبح الفعلي وأنَّ الملاك فيه القبح الفاعلي وحيث أنَّ الجاهل لا يوجد فيه قبح فاعلي فلا يستحق العقاب ، هذا هو الدليل الثاني.

يمكن أن يقال أن هذا الدليل الثاني هو من نتائج ولوازم الدليل الأول بحسب التعديل الذي ذكرناه ، وذلك بإعتبار ما قلناه من أنّ تمام موضوع الحكم العقلي بإستحقاق العقاب هو العلم بإصابة الواقع من دون أن تكون الإصابة الواقعية دخيلة فيه ، بمعنى أنَّ من يقطع بالإصابة وأنَّ هذا حرام فيثبت فيه إستحقاق العقاب سواءً كان قطعه مصيب للواقع أو غير مصيب للواقع ، وهذا معناه أنّ إستحقاق العقاب لا يدور مدار كون الشيء حراماً في الواقع أي لا يدور مدار القبح الفعلي وأنّ ما شربه خمراً وحراماً في الواقع ، ولذا قلنا بعدم إختصاصه بالعاصي وشموله للمتجري الخالي من القبح الفعلي لأنه شرب ماءً ، ومعناه ذلك أن ملاك الإستحقاق ليس هو القبح الفعلي ولو كان ملاكه ذلك لإختصَّ بالعاصي ، فهذا الدليل من لوازم الدليل الأول.

والموقف من هذا الدليل يتحدد من خلال بيان ما هو المراد من القبح الفعلي والقبح الفاعلي ،

وهنا إحتمالات :

الإحتمال الأول : أنّ المراد من القبح الفعلي هو القبح الثابت في الفعل بقطع النظر عن إضافته الى الفاعل ، ويقابله القبح الفاعلي وهو القبح الموجود في الفعل بإعتبار صدوره من فاعل ، فكأنّ القبح في الفعل على نحوين :

تارة قبحٌ في الفعل في حد نفسه وبقطع النظر عن إضافته الى فاعل ، وأخرى قبح في الفعل بإعتبار صدوره من فاعل عالم بأنَّ هذا حرام وقاطع بالخمرية ، فهذا الفعل يكون قبيحاً ويسمى القبح الفاعلي.

وأخرى يكون القبح ثابتاً للفعل في حد نفسه ، بقطع النظر إضافته الى فاعل .

وبقول أوضح تارة يكون شرب الخمر قبيح بالقبح الفعلي ، أي فعل الحرام الواقعي قبيح في حد نفسه وفيه مفسدة بقطع النظر عن صدوره من فاعل ، وأخرى لا يكون الفعل في حد نفسه قبيحاً وليس فيه ملاكات القبح كشرب الماء ، ولكن بإعتبار صدوره من هذا المعتقد بأنه خمر يكون قبيحاً ، هذا يسمى بالقبح الفاعلي والأول يسمى بالقبح الفعلي ، هذا التفسير الأول للقبح الفعلي والفاعلي .

ويلاحظ عليه :

أولاً إنَّ هذا التفسير يتوقف على الإلتزام بما تقدم الحديث عنه وهو قبح القعل المتجرى به حتى يقال أن الفعل المتجرى به قبحه تارة يكون ثابتاً له في حد نفسه وأخرى يكون ثابتاً بإعتبار صدوره من فاعل ، وهذا ما تقدم بحثه سابقاً وقلنا أنَّ الفعل المتجرى به ليس فيه قبحٌ عقلي ، ولا معنى للقول بأنّ القبح الفاعلي بهذا المعنى _ قبح الفعل بلحاظ إضافته الى الفاعل _ موجود في الباب التجري ، وبعبارة أخرى إنَّ صدور هذا الفعل الذي ليس فيه قبح ذاتي من هذا الشخص القاطع بأنه خمر لا يوجب أن يكون الفعل قبيحاً عقلاً كما لم يكن حراماً شرعاً كما تقدم بحثه ، فلا وجه لأن نقول أنَّ القبح الفاعلي بهذا المعنى موجود في باب التجري ومن ثَمَّ يثبت الإستحقاق في باب التجري ، لأنه مبني على ما تقدم ولا نُسلمه.

وخلاصة الملاحظة الأولى أن الفعل لا يتصف بالقبح العقلي حتى بإعتبار صدوره من فاعل معين كما لا يتصف بالحرمة الشرعية.

وثانياً إن القبح الفعلي بهذا المعنى _ أي كون الفعل قبيحاً في حد نفسه وبقطع النظر عن إضافته الى فاعل معين _ غير متصور إلا إذا أرجعناه الى باب المصالح والمفاسد بأن يكون المقصود بالقبح الفعلي هو وجود مفسدة في الفعل ، المفسدة موضوعها ذات الفعل بقطع النظر عن إضافته الى فاعل ، فإذا فسَّرناه بهذا التفسير فالقبح الفعلي يكون تاماً.

وبعبارة أخرى القبح الفعلي غير متصور إلا إذا أرجعناه الى باب المصالح والمفاسد ، فقبح الفعل يعني ما كان فيه مفسدة ، وإلا فالقبح _ بمعنى ما يستحق فاعله الذم _ لا يتصور في الفعل إلا إذا أضيف الى فاعل ، المتصور أنَّ هذا الفعل فيه مفسدة بقطع النظر عن إضافته الى فاعل لأنَّ موضوع المفسدة هو ذات الفعل بقطع النظر عن الإضافة ، أما القبح فلا يُتصور إلا بإضافته الى فاعل ، لأنَّ معنى القبح العقلي كما مر هو ما يُذم فاعله والحسن ما يمدح فاعله ، الأمر القبيح ما ينبغي تركه والأمر الحسن هو ما ينبغي فعله ، فالقبح الذي يثبت في الفعل ملحوظ فيه إضافته الى فاعل وجهة الصدور من فاعل ولم نَقصُر النظر على ذات الفعل في حد نفسه.

نعم إذا أرجعناه الى باب المصلحة والمفسدة فيصح ما ذُكر ، لكن الصحيح أنَّ القبح دائماً يكون بلحاظ الصدور ولا يتصور ثبوته في الفعل في حد نفسه إلا بلحاظ المفسدة والمصلحة الموجودة فيه ، وبناءً عليه لابد من تعديل الدليل بالنحو الآتي في الدرس القادم.