42/10/16
الموضوع : التّجري / المقام الثالث في إستحقاق العقاب على التَّجرَي /
ذكرنا في الدرس السابق مسألة إحتمال تعدد إستحقاق العقاب في المعصية الحقيقية بمعنى أنّ العاصي يختلف عن المتجري في أنّ ما يستحق من العقاب يكون أشد مما يستحقه المتَجرِّي المعبر عنه بتعدد إستحقاق العقاب ، فهناك مقدار من العقاب يستحقه كل ٌمنهما بشكل متساوي بإعتبار التَّمرد على المولى والجرأة عليه ، وهناك شيء آخر يستحقه العاصي دون المتَجرِّي على مخالفة التكليف الواقعي ، وبتعبير آخر لأنه فوَّت على المولى أغراضه الواقعية الحقيقية التي هي الهدف من جعل التكاليف ، بينما المتَجرِّي لم يفوت عليه أغراضه .
قلنا بأنّ الإلتزام بتعدد إستحقاق العقاب في المعصية الحقيقية بمعنى أنَّ العاصي بنظر العقل يستحق عقاباً أشد مما يستحقه المتَجرِّي ، أو بعبارة أخرى أنَّ المولى إذا عاقب العاصي بعقاب أشد مما يُعاقب به المتَجرِّي فالعقل لا يستنكر هذا ويراه في محله .
وذكرنا أنه يمكن الاستشهاد على ذلك بالوجدان ، فإن الوجدان يرى أنَّ العاصي غير المتَجرِّي ، وأنّ هناك شيء في العصيان غير موجود في التجري ، ولعل المنبه على هذا الوجدان هو أنَّ العقلاء لا يرون قبحاً في تشديد العقاب على العاصي دون المتجري ، هذا أولاً.
وذكرنا ثانياً أنَّ في المعصية الحقيقية جهتان توجبان إستحقاق العقاب ، الجهة الأولى هي التَّمرد والجرأة على المولى ، والجهة الثانية هي تفويت أغراض المولى اللزومية التي هي الملاك في جعل هذه الأحكام ، فالشارع عندما يُحرم شرب الخمر له غرض وهدف من وراء هذا التحريم ، وفي المعصية الحقيقية فوَّت العاصي على المولى هذا الغرض لأنه شرب الخمر ، و هذا غير موجود في ابا التجري لأنه لم يشرب الخمر ، فلم تَفُت على المولى أغراضه اللزومية وإن كان المتجري متمرداً وجريئاً على المولى إلا أنه لم يُفوت على المولى أغراضه ، فتبقى أغراض المولى محفوظة في باب التَجري لكنها غير محفوظة في باب العصيان ، فتعدد جهة إستحقاق العقاب في المعصية الحقيقية يكون منبهاً على مسألة تعدد إستحقاق العقاب للعاصي دون المتجري .
لا نريد بهذا الكلام أن نقول أن حق الطاعة غير ثابت في باب التجري بلحاظ الحفاظ على الأغراض الواقعية اللزومية ، الشارع له حق الطاعة على الجميع في تحقيق أغراضه اللزومية ، يُريد من الجميع أن يتركوا شرب الخمر ، والمتجري كالعاصي كل منهما يطلب منه الحفاظ على الأغراض اللزومية من التكاليف الواقعية ، والمتجري أيضاً كالعاصي كلٌ منهما أقدم على الفعل بتَخيُل أنه مخالفة للمولى وبالتالي يُفوت على المولى أغراضه ، إلا أنَّ الفرق بينهما هو أنّ المتجري لم يُفوِّت على المولى أغراضه اللزومية لأنه لم يشرب الخمر ولو لأمرٍ خارج عن إختياره _ وهذه مسألة أخرى _ فتبقى أغراض المولى اللزومية محفوظة في باب التجري لكنها غير محفوظة في باب العصيان ، وهذا الفارق هو الذي يوجب تشديد العقاب على العاصي دون المتجري.
والظاهر أن الذي يوجب الإستيحاش من الإلتزام بتعدد العقاب في باب المعصية الحقيقية دون التجري هو دعوى أنَّ هذا خلاف ظواهر الأدلة فإنها تدل على إستحقاق عقاب واحد على المعصية ، فكأن الالتزام بتعدد العقاب على خلاف ظواهر الأدلة ، لكن يمكن دفعه بأنَّ العقاب الواحد الذي يُذكر في الأدلة لعله هو العقاب الشديد الذي نقوله ، وهذا لا ينافي أن نلتزم بأنَّ المتجري لا يستحق هذا العقاب الشديد ، والأدلة وإن لم تتعرض الى تعدد العقاب وأنَّ هناك تشديد في العقاب بالنسبة الى العاصي لكنه ليس من شأن الأدلة أن تتعرض الى ذلك ، فإنَّ دورها هو بيان ترتب هذا العقاب على المعصية وهذا العقاب المذكور يمكن تفسيره بأنه العقاب المُشدد بالنسبة الى العاصي ، وأنَّ هذا العقاب المُشدد ليس موجوداً بالنسبة الى المتجري ، فما نقوله ليس على خلاف ظواهر الأدلة ولا موجب لإستبعاده مع مساعدة الوجدان عليه كما تقدم .
هذا ما يرتبط بأصل الإشكال على تعدد إستحقاق العقاب.
نرجع الى أصل الموضوع وهو ما هو الدليل على إستحقاق المتجري للعقاب ؟
أدلة إستحقاق المتجري للعقاب :
الدليل الأول : ما قيل من أنَّ الحكم العقلي بإستحقاق العقاب ، أو بوجوب الطاعة وحرمة المعصية ، هذا الحكم العقلي تمام موضوعه هو إرتكاب ما يُعلم مخالفته للتكليف الواقعي ، ومن الواضح أنَّ هذا الموضوع موجود في باب العصيان وفي باب التجري ، فكلٌ منهما يعلم بأنَّ ما يقدم عليه مخالف للتكليف الشرعي ، ليس موضوع الحكم العقلي بإستحقاق العقاب هو إرتكاب ما يكون مخالفاً واقعاً ، فإذا قلنا بذلك فيختص الإستحقاق بالعاصي ، وأما إذا كان موضوع حكم العقل بالإستحقاق هو إرتكاب ما يُعلم بأنه مخالف للشارع فهو موجود في باب العصيان وفي باب التجري ، فيثبت في باب التجري إستحقاق العقاب .
وهذا الدليل يحتاج الى تتميم فقد يقال أنه مصادرة ، فلماذا يُستبعد أن يكون ثبوت التكليف في الواقع له دخل في إستحقاق العقاب ؟
بعبارة أخرى لماذا لا تكون المصادفة للواقع دخيلة في هذا الحكم العقلي بأن يكون الحكم ثابتاً في حال المصادفة للواقع أما في حالة عدم المصادفة للواقع فلا يكون الحكم العقلي ثابتاً ؟
بنينا على هذا فيثبت إستحقاق العقاب على العاصي دون المتجري ، وهذا الدليل يُريد إثبات تعميم إستحقاق العقاب لكلٍ منهما ، فكأنه يدعي أنّ المصادفة للواقع ليس لها دخل في هذا الحكم العقلي وتمام الموضوع هو العلم بالمخالفة سواءً كانت هناك مخالفة في الواقع كما في حال العصيان أو لم تكن كما في حالة التجري.
وعلى صاحب هذا الدليل عيه إثبات أن المصادفة للواقع ليست دخيلة في إثبات هذا الحكم العقلي ، ومن هنا ذُكِر وجهان لإثبات أنَّ المصادفة ليست دخيلة في الحكم العقلي لإستحقاق العقاب :
الوجه الأول : هو أن يقال لو كانت المصادفة دخيلة في الحكم العقلي بالإستحقاق للزم أن لا يكون الحكم العقلي المذكور فعلياً في أي حالة من الحالات ، حتى في باب العصيان ، لإحتمال أن يكون هذا القطع لهذا القاطع غير مطابق للواقع ، وهذا الإحتمال _ بنظرنا لا بنظر نفس القاطع _ موجود دائماً ، كيف نعلم أنَّ قطعه يكون مصادفاً للواقع ؟ فإذا كان الحكم العقلي منوطاً بمصادفة الواقع فلا يكون هذا الحكم فعلياً لوجود إحتمال عدم مصادفة الواقع دائماً ، و كثيرٌ من التكاليف لا قطع بثبوتها في الواقع وإنما نعلم بأنَّ الدليل دلَّ عليها ، ومع عدم العلم بثبوتها في الواقع وهذا يؤدي الى أن لا يكون الحكم العقلي بالإستحقاق فعلياً .
والحاصل أنَّ دخل مصادفة الواقع في الحكم العقلي المذكور يستلزم عدم فعلية هذا الحكم لعدم إحراز هذه المصادفة لإحتمال أنَّ ما قطع به غير مصادف للواقع وبالتالي لا يكون الحكم بإستحقاق العقاب فعلياً.
الوجه الثاني : إن المصادفة لا يمكن أن تكون دخيلة في الحكم العقلي لأنها ليست أمراً إختيارياً فلا يمكن أن يكون الحكم العقلي بالإستحقاق منوطاً بها ، ودخل أمر غير إختياري في الحكم العقلي محال ، فيثبت أن المصادفة للواقع ليست دخيلة في هذا الحكم العقلي .
هذان دليلان يُذكران لإثبات أنَّ المصادفة للواقع ليست دخيلة في الحكم العقلي ، فإذا لم تكن المصادفة دخيلة في الحكم العقلي فكما يثبت هذا الحكم للعاصي يثبت للمتجري ، وهذا هو الدليل الأول ، وحاصله : أن تمام الموضوع هو العلم بالمخالفة لا المخالفة الواقعية ، وهو موجود في المتجري والعاصي .
هناك جوابان عن هذا الدليل :
الجواب الأول : ما قيل من أنَّ هذا الدليل أخص من المدعى لأنه يُثبت إستحقاق العقاب في موارد العلم بالمخالفة سواء كانت هناك مخالفة في الواقع أو لم تكن هناك مخالفة للواقع ، لكن الكلام في التجري لا يختص بالعلم ويثبت حتى بالأمارات بل الأصول العملية كما تقدم ، فلو قامت الأمارة المعتبرة على حرمة شيء فشربه ثم تبيّن في الواقع أنه ليس حراماً فيدخل في باب التجري ، وفي الأصول العملية لو كانت تقتضي حرمة شيء كإستصحاب الخمرية هذا ، فتجرَّى فشربه فيدخل في باب التجري والحال أنه في باب الأمارات والأصول العملية لا يوجد علم بالمخالفة فإذا كان إستحقاق العقاب تمام موضوعه هو العلم بالمخالفة فهذا يختص بخصوص ما إذا قطع بالخمرية وبحرمة هذا الشيء فيثبت فيه إستحقاق العقاب ، أما إذا قامت الأمارة فلا يوجد علم بالمخالفة ، فيلزم من ذلك إختصاص إستحقاق العقاب ببعض محل الكلام وهو ما إذا كان المكلف قاطعاً بخمرية الشيء وحرمة الشيء وتبيَّن الخلاف فيستحق العقاب لأن موضوع إستحقاق العقاب هو العلم بالمخالفة وهو موجود وفي مورد قيام الأمارة لا علم بالمخالفة فينبغي أن لا يستحق العقاب ، ومن هنا كان الجواب الأول هو أنَّ هذا الدليل أخص من المدعى .
وهذا الجواب دفعه واضح وهو أنَّ المقصود في المقام ليس هو العلم بما هو علم وإنما المقصود العلم بإعتباره مُنجزاً على المكلف ، وبعبارة أخرى أن موضوع الحكم العقلي بإستحقاق العقاب هو مطلق المُنجِّز لا العلم بما هو علم ، والعلم ليس له خصوصية في قِبال سائر المنجزات في محل الكلام في كونه موضعاً للحكم العقلي ، ولا فرق بنظر العقل بين صورة العلم بأن هذا خمر وبين صورة قيام الأمارة المعتبرة التي أمر الشرع بإعتبارها ونهى عن مخالفتها على أنّ هذا خمر ، فكل مخالفة لما هو منجز يكون موجباً لإستحقاق العقاب ، فهذا الجواب ليس تاماً .
الجواب الثاني : سلمنا أنَّ العلم بالمخالفة هو تمام الموضوع للحكم العقلي لكن في باب التَجري لا يوجد علم وإنما هناك جهلٌ مركب ، ولا معنى لإسراء الأحكام المُعلقة على العلم الى غير العلم كالجهل المركب في محل الكلام ، فإن المتجري يعتقد بأنّ هذا خمر وهو في الواقع ليس بخمر ، فهو يجهل بأنّ هذا ليس خمراً ويجهل بأنه جاهل فيكون جاهلاً مركباً ، فالموجود في التجري ليس هو العلم وإنما الجهل المركب فإذا كان موضوع الحكم العقلي بالإستحقاق هو العلم فلا معنى لإسراء هذا الحكم الى غير العلم ، وهذا العلم موجود في باب العصيان وغير موجود في باب الجهل المركب و الحاصل في التجري هو الجهل المركب وليس العلم فلا موجب للإستحقاق ، هذا هو الجواب الثاني وهو العمدة في المقام .