الأستاذ الشيخ هادي آل راضي

بحث الأصول

42/10/12

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع : التّجري / المقام الثالث في إستحقاق العقاب على التَّجرَي /

قلنا في الدرس السابق بأنّ غاية ما يثبت بالوجوه التي يُستدل بها على قبح الفعل المُتَجرَّى به هو أنَّ المتجرّي متمردٌ على مولاه وخارجٌ عن مراسم العبودية ومخالفٌ لحق الطاعة ، لكن هذا لا يستلزم أن يكون الفعل المُتَجرَّى به قبيحاً لإمكان أن يكون القبح موجوداً في مرتبة سابقة على الفعل وهو ما أشرنا إليه من العزم والتصميم على فعل المعصية باعتقاده ، فالقبح موجود هنا في مرتبة سابقة ، وهذا العنوان القبيح هو التَّمرد على المولى والتَّجري عليه يصدق على العزم على المعصية ولا يصدق على الفعل الخارجي الذي جاء به المكلف خارجاً وهو شرب ماء كما في المثال ، لكن عزمه على المعصية وتصميمه على فعلها يعتبر تمرداً على المولى وخروج عن حق الطاعة ، ولا تنطبق هذه العناوين على نفس الفعل الخارجي ، ومن هنا نقول أنَّ الوجوه التي ذكرت لا تستلزم بالضرورة قبح الفعل المُتَجرَّى به ، مثلاً كان أحد الوجوه التي ذُكرت هو ما ذكره السيد الخوئي قده هو أنّ قبح الأفعال وحسنها إنما هو بإعتبار إنطباق عنوان العدل أو الظلم عليها ، وإلا فكل الأفعال والعناوين الحُسن والقبح ليس ذاتياً فيها كما تقدم وإنما يختلف بإختلاف الوجوه والإعتبارات ، والعنوانان الوحيدان اللذان يكون الحسن والقبح فيهما ذاتياً ولا يتوقف على إنطباق عنوان آخر عليها هما العدل والظلم فالحسن والقبح فيهما ذاتي ، وكل ما عداهما الحُسنُ والقبح فيهما ليس ذاتياً وإنما إذا إنطبق عليه عنوان حسنٍ يكون حسناً وإذا إنطبق عليه عنوان الظلم يكون قبيحاً ، وبناء على هذا يقال في مقام الإستدلال على قبح الفعل المُتَجرَّى به أنه لا فرق بنظر العقل في قبح الإتيان بما يقطع المكلف بكونه خمراً مثلاً أو يقطع بكونه حراماً ، لا فرق في قبحه بين أن يكون هذا القطع مصيباً للواقع كما في صورة العصيان الحقيقي وبين أن يكون القطع مخطئاً للواقع كما هو المتحقق في محل الكلام ، فكل منهما ظلم للمولى ولا فرق بينهما ففي كل منها العبد ظالم للمولى وسالب لحقه وخارجٌ عن مراسيم العبودية ، فإذا شرب ما يقطع بحرمته كان متمرداً على المولى ويصدق عليه عنوان الظلم والتمرد وسلب ذي الحق حقه ، فإن من حق المولى على العبد أن يطيعه في ما يقطع بكونه حراماً ، في صدق الظلم على الفعل لا يُفرّق بين أن يكون القطع مصيباً كما في العصيان أو يكون غير مصيب كما في التَّجري لأنَّ العبد في كلتا الحالتين ظالم للمولى لأنّ حق المولى على العبد أن يُطيعه فيما يقطع بحرمته على الأقل _ إذا لم نقل أنَّ من حقه أن يطيعه في يحتمل من تكاليفه _ فيكون سلباً لحق المولى وظلماً له بلا فرق بين أن يكون القطع مصيباً أو غير مصيب للواقع ، هذا أحد الوجوه الذي استدل بها على قبح الفعل المُتَجرَّى به.

والذي نقوله هو أنَّ هذا لا يُنتج بالضرورة قبح الفعل المُتَجرَّى به _ وإن كان صحيحاً في نفسه _ وإنما ينتج أن المتَّجري فعل ما هو قبيح وتَمردَ على المولى وصدر منه الظلم في حق المولى ولكنه لا يعني أنَّ هذا الظلم صادق على الفعل المُتَجرَّى به لما قلناه من إمكان صدق عنوان الظلم و التمرد والتَّجري على العزم على المعصية وهي مرحلة سابقة على الفعل المُتَجرَّى به ، فنفس العزم على المعصية قبيح وظلم ولا مُلزم للقول بأن الفعل المُتَجرَّى به قبيح.

ووجه آخر قد يُستدل به على قبح الفعل المُتَجرَّى به مبني على مسلك حق الطاعة ذكره السيد الشهيد قده وحاصله :

أنَّ حكم العقل بالحسن والقبح يرجع الى حق الطاعة الثابت للمولى على عبده ، فلابد من تحديد مركز حق الطاعة لمعرفة إنّ هذا الحق ثابت في حالة التَّجري أو غير ثابت فيها ، مع الفراغ من ثبوت هذا الحق في حالة العصيان بلا إشكال ، فللمولى حق طاعة على العبد في ترك ما يقطع بكونه حراماً مع كونه حراماً في الواقع وهو العصيان ، والكلام ثبوت حق الطاعة للمولى على العبد في ترك ما يقطع بحرمته مع عدم كونه حراماً في الواقع وهو التَّجري أو ليس له حق الطاعة في هذه الحالة ، ثم يطرح إحتمالات ثلاثة ويناقشها ثم يُثبت واحداً منها :

الإحتمال الأول : أن مركز حق الطاعة هو التكاليف الواقعية للمولى ، وبناء على هذا لا يشمل حق الطاعة موارد التَّجري لعدم وجود التكليف الواقعي فيها ، ومع عدم ثبوت حق الطاعة لا يكون المتَّجري متمرداً ولا ظالماً ، فحق الطاعة يختص بصورة العصيان ولا يشمل صورة التَّجري .

لكن هذا الإحتمال ساقط بلا إشكال لأنّ لازمه ثبوت حق الطاعة في التكاليف الواقعية المجهولة للمكلف ، وهذا مما لا يمكن القول به .

وبعبارة أخرى أنّ التكليف الواقعي يثبت فيه حق الطاعة حتى مع عدم تَنجُّزه على المكلف وعدم وصوله إليه ، بل حتى مع قطع العبد بعدمه وكان ثابتاً في الواقع يكون للمولى حق الطاعة فيه ويستحق العبد العقاب على مخالفته ! وهذا معناه أن يمكن أن يكون مركز حق الطاعة هو التكاليف الواقعي للمولى .

الإحتمال الثاني : أن يكون مركز حق الطاعة هو وصول التكليف وتنجزه وعلم العبد به ، فللمولى حق الطاعة على عبده فيما وصل إليه من تكاليفه ، فالوصول والتنجُّز والعلم بالتكليف يكون مركزاً لحق الطاعة ، فإذا خالف العبد التكليف الواصل إليه يصدق الظلم والتمرد أما إذا لم يصل إليه التكليف فحتى إذا كان ثابتاً في الواقع فلا يثبت فيه حق الطاعة .

وعلى هذا الإحتمال يدخل التَّجري في حق الطاعة ، ومركز حق الطاعة كما يشمل العصيان يشمل التجري لأنّ التنجز والوصول ثابت في الحالتين ، وفي التجري المكلف قاطع بالتكليف ، فالحرمة واصلة ومنجَّزة بالقطع غاية الأمر أنها غير ثابتة في الواقع ، وتكون مخالفة هذا الحق تمرداً وظلماً وسلباً لحق المولى ، فيصدق عنوان الظلم .

الإحتمال الثالث : أنَّ مركز حق الطاعة يتألف من كل منهما أي من إحراز التكليف مع فرض ثبوته في الواقع ، فلا الإحراز من دون ثبوت التكليف يكفي لثبوت حق الطاعة ولا ثبوت التكليف واقعاً مع عدم إحرازه يكفي لثبوت حق الطاعة ، بل التكليف لا يدخل في حق الطاعة إلا إذا أحرزه العبد أولاً وكان ثابتاً في الواقع ثانياً ، بناءً على هذا أيضاً سوف يخرج التَّجري عن مركز حق الطاعة ويختص حق الطاعة بالعصيان ، لأنّ فيه يتحقق إحراز التكليف مع ثبوته في والوقع ، وأما في التَّجري فهو وإن أحرز التكليف إلا أنه ليس ثابتاً في الواقع فلا يثبت فيه حق الطاعة وبالتالي لا يصدق الظلم وسلب حق المولى على الفعل المتجرَّى به .

ويقول قده أنَّ الصحيح هو الإحتمال الثاني بمعنى إنّ مركز حق الطاعة هو في إحراز التكليف فقط ، فإذا أحرز العبد التكليف وقطع به ثبتَ حق الطاعة سواءً كان التكليف ثابتاً في الواقع أو لم يكن ثابتاً فيه .

والسر فيه هو أنَّ حق الطاعة الثابت للمولى بحسب ما يدركه العقل منشأه إحترام المولى وتقديره بإعتباره خالقاً ومنعماً ونحو ذلك ، فكل ما يكون مخالفاً لهذا الإحترام يعتبر سالباً لحق الطاعة ، ولا إشكال في أن المكلف سواءً كان عاصياً أو متجرياً لا يقوم بمراسم الإحترام ، ولا يُفرّق في عدم الإحترام بين العصيان وبين التَّجري ، ثم يرتب على ذلك أنَّ حق الطاعة كما هو ثابت في حالة العصيان هو ثابتٌ في حالة التَّجري ، فإذا ثبتَ حق الطاعة في التَّجري نقول قد يُستدل به على قبح الفعل المُتَجرَّى به بأن يقال إنّ سلب حق الطاعة يصدق على الفعل في حالة العصيان وعلى الفعل في حالة التَّجري فيكون ظلماً فيكون قبيحاً ، فيثبت قبح الفعل المتجرى به .

وهنا أيضاً نقول أنه لا يُنتج بالضرورة قبح الفعل الصادر من المكلف لنفس النكتة المتقدمة وهي إمكان أن يكون القبح موجوداً في مرتبة سابقة على الفعل وهي مرحلة العزم التي هي فعل نفساني جوانحي ، فالعزم على ما يعتقده القاطع معصية هو القبيح ، تصميمه على مخالفة المولى وجريه عليه هو القبيح ، فالقبح موجود في مرحلة سابقة على الفعل وأما نفس الفعل فليس قبيحاً ، فالعزم والتصميم على المعصية ومخالفة المولى والتمرد عليه هو القبيح وهو الذي يكشف عن عدم إحترام المولى ويكون سلباً لحقه فيكون قبيحاً فلا ينتج هذا الوجه بالضرورة قبح الفعل المتجرى به

بل يمكن أن يقال في بعض الأحيان أنّ حق الطاعة الثابت للمولى الذي ملاكه إستحقاق الإحترام والرعاية والتقدير ، هذا الحق نرى أنه يُنتهك بمجرد كون العبد في مقام الجري الخارجي على عدم إحترام المولى وعزمه على معصيته حتى إذا لم يصدر منه فعل في الخارج ، ويمثل لذلك بما إذا اراد قتل مولاه وخرج شاهراً سيفه عليه غاية الأمر أنه منعه رجل من ذلك ، فهنا يقال أنَّ هذا العبد إنتهك حرمة المولى ولم يحترم المولى وإن لم يصدر منه فعل في الخارج وهذا يكشف عن صحة ما ذكرناه من أنَّ عناوين التمرد وسلب حق الطاعة والظلم لا تصدق بالضرورة على الفعل المُتَجرَّى به ، بل يمكن أن تصدق على العزم والتصميم على المعصية في مرحلة سابقة على الفعل .

الى هنا ينتهي الكلام عن المقام الثاني ، وقلنا أن البحث في التَّجري يقع في مقامات ، الأول في حرمة الفعل المُتَجرَّى به ، الثاني في قبح الفعل المُتَجرَّى به ، وقد تبيّن من هذين المقامين عدم ثبوت الحرمة بشكل واضح بل عدم الحرمة ثابت بشكل واضح ، ولا قبح الفعل المُتَجرَّى به ثابت بشكل واضح .

المقام الثالث : في إستحقاق المتجري للعقاب

ذهب الشيخ الأنصاري قده الى عدم الإستحقاق ، نعم يستحق الذم واللوم بإعتبار أنَّ الفعل الصادر منه يكشف عن سوء السريرة وخبث الباطن فيستحق الذم على هذه الصفة النفسية ، لكن لا يوجد هنا عقاب لأنَّ إستحقاق العقاب يكون على الفعل فإذا كان الفعل قبيحاً يستحق العبد العقاب ، وأما إذا لم يكن الفعل قبيحاً غاية الأمر أنه كشف عن صفة باطنية قبيحة لدى العبد فهو لا يستحق العقاب لأنّ الفعل ليس قبيحاً ، نعم في حالة العصيان القبح موجود فيستحق العبد العقاب ، هذا ما ذكره الشيخ الأنصاري قده.