42/10/11
الموضوع : التّجري / المقام الثاني في قبح الفعل الـمُتجرَّى به عقلاً / وجوه عدم القُبح / نتيجة المقام الثاني
إنتهى الكلام الى الوجه الثاني من الوجوه المستدل بها على عدم قبح الفعل المتَجرَّى به ، وهذا الوجه مبني على التَنَزُل وتسليم أنَّ إختيارية العنوان المنطبق على الفعل يكون موجباً لصيرورة الفعل حسناً أو قبيحاً وليست مشروطة بالقصد والإرادة لكنها مشروطة بالإلتفات على الأقل حتى يكون إنطباقه على الفعل موجباً لحُسن الفعل أو قبحه ، وإلا فمع عدم الإلتفات إليه لا وجه للحكم بقبح الفعل عقلاً كما مثلنا بالذي يحفر البئر في داره ولا يلتفت الى ترتب الإضرار بجاره على فعله ، فالعقل لا يحكم بقبح هذا العمل ، قد يترتب عليه الضمان هذا شيء آخر لكن العقل لا يحكم بقبحه وإستحقاق فاعله الذم واللوم ، إذن لابد من الإلتزام بأن إختيارية العنوان مشروطة بالإلتفات إذا لم نلتزم بأنه مشروط بالقصد والإرادة .
وفي محل الكلام المتجرِّي لا يلتفت الى القطع بالخمرية ، لأنَّ عنوان القطع بالخمرية ملحوظ من قِبل المتَجرّي بالنظر الآلي ،والقطع مجرد طريق للمقطوع لأنَّ غرضه وما يُريده هو المقطوع _ وهو شرب الخمر _ فلذا لا ينظر الى القطع بالنظر الإستقلالي وإنما ينظر إليه بالنظر الآلي ، وحينئذٍ يقال إن المتجرّي لا يلتفت الى عنوان شرب مقطوع الخمرية وإنما يلتفت الى عنوان شرب الخمر ، فعنوان شرب مقطوع الخمرية لا هو مقصود للمُتجري ولا هو ملتفت إليه حين العمل ، فإذا كان كذلك فأي سبب للحكم بقبح الفعل المُتجرَّى به ، والعناوين المحسنة والمقبحة لابد أن تكون مسبوقة بالقصد والإرادة أو على الأقل يُلتفت إليها حين العمل ، فإذا لم يتحقق شيء منهما فلا وجه للحكم بقبح الفعل المُتجرَّى به ، فيكون هذا وجهاً لعدم قبح الفعل المُتجرَّى به .
وهناك جواب نقضي على هذا الوجه ذكره المحقق النائيني إرتأينا عدم ذكره حذراً من الإطالة .
والجواب الصحيح هو أن هناك ملاحظتان على هذا الوجه :
الملاحظة الأولى : كأنّ صاحب الوجه يفترض أنَّ الإلتفات الى الشيء محصور بالنظر الإستقلالي وأنّ المُتَجرَّى إذا نظر الى الفعل بالنظر الآلي فلا يكون ملتفتاً إليه ، ولكن هذا غير واضح فإن الأمور الإرتكازية الموجودة في الذهن ملتفت إليها إجمالاً لا تفصيلاً ، و المقصود بالإلتفات الذي هو شرطٌ في إختيارية العنوان هو الإلتفات لو إجمالاً و إرتكازاً ، وعليه تكون الملاحظة على هذا الوجه هي أن العنوان وإن لم يكن ملتفت إليه تفصيلاً وبالنظر الإستقلالي لأنَّ غرضه الخمر الواقعي لكن هذا لا يُنافي أن يكون العنوان ملتفت إليه إجمالاً و إرتكازاً ، فإن المرتكز لديه أنه يشرب مقطوع الخمر لأنَّ القطع بالشيء من الأمور الحضورية التي تحضر في الذهن بنفسها فتكون أموراً إرتكازية ثابتة في النفس ويكون ملتفتاً إليها إجمالاً و إرتكازاً ، ولا يبعد أن يقال أنّ هذا النوع من الإلتفات يكفي في إختيارية العنوان ولا دليل واضح على إشتراط الإلتفات التفصيلي الإستقلالي في إختيارية العنوان بحيث نستبعد الإلتفات الآلي والإجمالي والإرتكازي بحيث لا يحقق إختيارية العنوان ، بل ذهب جماعة من المحققين في إختيارية العنوان الى كفاية الإلتفات الإجمالي المتحقق عند المتَجرَّى ولو كان ينظر الى القطع بالخمرية بالنظر الآلي ويعتبره طريقاً إجمالاً لا تفصيلاً .
الملاحظة الثانية : يظهر من الدليل أن الذي يمنع من أن يكون هذا العنوان _ شرب مقطوع الخمرية _ ملتفتاً إليه هو دعوى أنَّ القطع في المقام قطعٌ طريقي لأنّ الغرض متعلق بالمقطوع لا بالقطع فالمتَجرّي لا يلحظ القطع إلا باللحاظ الآلي ، هذا هو المانع من كون القطع بالخمرية أمراً ملتفتاً إليه ، الملاحظة تقول : في نفس التّجرّي من الممكن أن نستبدل القطع بشرب الخمر بالقطع بحرمة شرب الخمر ، وهذا موجود في المتجري فإنه إذا قطع بأنّ هذا خمر فهو يقطع بحرمة شربه قهراً ، وليكن القطع بحرمة شرب الخمر هو العنوان الذي بإنطباقه على الفعل يوجب قبحه ولا نجعل العنوان هو القطع بأنَّ هذا خمر ، وعنوان القطع بحرمة شرب هذا الذي قطع المتجري بخمريته لا مانع من أن يكون المتجري ملتفتاً الى هذا العنوان ، و المانع المذكور في عنوان القطع بخمرية هذا غير موجود في عنوان القطع بحرمة شرب هذا ، لأنَّ المانع هو أن مقصود المتجري الأساسي هو المقطوع أي شرب الخمر و القطع بالخمرية يؤخذ طريقاً فينظر الى القطع بالخمرية بالنظر الآلي لا بالنظر الإستقلالي وهو عند المعترض لا يحقق الإلتفات ، و أما القطع بحرمة هذا فلم يؤخذ طريقاً ، فالمتجري يقطع بخمرية هذا وغرضه شرب الخمر ولا مانع من الإلتفات تفصيلاً الى حرمة شرب هذا ، فلو فرض عدم الإلتفات التفصيلي القطع بخمرية هذا لكون القطع طريقاً صرفاً لكن القطع بأنَّ هذا حرام شربه لا مانع من أن يكون المتجري ملتفتاً إليه وناظراً إليه بالنظر الإستقلالي ، وهذا العنوان _ أي شرب مقطوع الحرمة _ هو الذي يكون منطبقاً على الفعل مع إلتفاته الى قطعه بالحرمة تفصيلاً ، ولحاظُ هذا القطع لحاظٌ إستقلالي ، فلا مشكلة وينتفي ما ذكر في هذا الوجه ، هذا هو الجواب على الوجه الثاني .
و من هنا يتبين أنَّ الوجه الثاني لإثبات عدم قبح الفعل المتَجرَّى به غير تام أيضاً .
الوجه الثالث : هو دعوى لزوم إجتماع الضدين من الإلتزام بقبح الفعل المتَجرَّى به ، وذلك فيما إذا فرضنا أنّ هذا الفعل صادفَ وجود مصلحة مهمة للمولى ، و يمثل له بما إذا كان يحرم على العبد إنقاذ عدو المولى فتَجرَّى وأنقذه ثم تبيَّن أنه إبن المولى وليس عدوه ، فهذا الفعل يكون محبوباً للمولى وفيه مصلحة بلا إشكال ، وهذا يعني أنَّ الفعل يكون محبوباً من جهة ومبغوضاً من جهة أخرى _ إذا قلنا بقبح الفعل المتَجرَّى به _ ويكون حسنا من جهة وقبيحاً من جهة أخرى فيلزم الجمع بين الضدين فلابد من القول بعدم قبح الفعل المتَجرَّى به حتى لا يرد هذا الإشكال .
وجوابه واضح وهو أنَّ هناك خلط بين باب المصالح و المفاسد وهي ملاكات الأحكام وبين الحُسن والقبح العقليين وهو باب آخر غير باب المصالح والمفاسد والحب والبغض ، و كل منهما له ملاكاته الخاصة ولا ينبغي الخلط بينهما ، ولا ملازمة بين وجود مصلحة في شيء وكونه محبوباً وبين الحكم بقبحه بإعتبار إطباق عنوان قبيح عليه ، فقد يكون الشيء فيه مفسدة لكنه يكون حسناً لإنطباق عنوان حسن عليه فالكذب أحياناً يكون حسناً وإن كان فيه مفسدة لإنطباق عنوان حَسنِ عليه كإصلاح ذات البين ونحوه ، وفي المثال المذكور الفعل فيه مصلحة للمولى لكنه لا ينافي أن يكون قبيحاً إذا إنطبق عليه عنوان التَّجرَي ، ولم حينئذٍ يتجمع الضدان .
وإنما يجتمع الضدان إذا قلنا أن هذا الفعل الواحد حسنٌ و قبيح ، فيه مصلحة ومفسدة ، محبوبٌ ومبغوضٌ في آن واحد ، أما أن نقول أنّ هذا الفعل فيه مصلحة ويحكم العقل بقبحه فلا جمع بين الضدين لإختلاف الملاكين كما في المقام فالفعل فيه مصلحة ولكنه قبيح عقلاً لإنطباق عنوان التجري والتمرد على المولى عليه ، وقد يكون الشيء فيه مفسدة لكن ينطبق عليه عنوان حسن فيكون موجباً لحكم العقل بحسنه كالكذب لإصلاح ذات البين ، فكأنه وقع خلط بين بابين مستقلين هما باب المصالح والمفاسد التي هي مبادئ الأحكام وبين باب الحسن والقبح العقليين .
هذه هي الوجوه التي إستدل بها على عدم قبح الفعل المتَجرَّى به وتبيّن أنها غير ناهضة لإثبات هذا المدعى .
قد يقال بأنه يمكن من مناقشة الوجوه الثلاثة الأخيرة التي أستدل بها على عدم القبح أنَّ الصحيح هو الإلتزام بقبح الفعل المتَجرَّى به ، وذلك لأنا ذكرنا في المناقشات أنّ الإلتفات المعتبر في العنوان حتى يصير من العناوين المحسنة والمقبحة يكفي فيه الإلتفات الإرتكازي الإجمالي ولا يتوقف على الإلتفات التفصيلي ، فيمكن التمسك به لإثبات قبح الفعل المتَجرَّى به ، فيقال نحن آمنا أنه لا يعتبر في إختيارية العنوان القصد والإرادة كما يقول صاحب الكفاية و اكتفينا بالإلتفات ، وذكرنا في مناقشة بعض الوجوه السابقة أنه يكفي في الإلتقات الإلتفات الإرتكازي الإجمالي وهذا متحقق في محل الكلام ، فإذا اكتفينا بذلك في إختيارية العنوان فهذا كافٍ في الحكم بقبح الفعل المتجرى به .
أو يقال في مناقشة الوجوه السابقة ذكرتم أنه من الممكن إبدال عنوان شرب مقطوع الخمرية بشرب مقطوع الحرمة ، وهو موجود في المتجري ولا مانع من أن يكون المتجري ملتفتاً اليه تفصيلاً ولاحظه باللحاظ الإستقلالي ، فإذا إلتفت إليه يكون هذا العنوان من العناوين المقبحة ، وبالتالي يكون إنطباقه على الفعل موجباً لقبح الفعل المتَجرَّى به ، وبذلك يثبت قبح الفعل المتَجرَّى به .
ولعله الى هذا يرجع ما ذكره السيد الخوئي ، وكذلك ما ذكره السيد الشهيد ولا نُطيل بذكره .
لكن الصحيح هو أنّ كل ما يقال لإثبات قبح الفعل المتَجرَّى به لا يُثبت المقصود ، لأنّ المقصود هو إثبات أنّ الفعل الذي صدر من المتجري يحكم العقل بقبحه ، والوجوه المتقدمة غاية ما يثبت بها هو أنّ المتجري تمرّد على المولى وخرج عن مراسيم العبودية له وخالف حق الطاعة وسلب المولى حقه وهذا كله لا يستلزم أن يكون الفعل الصادر منه قبيحاً فأنه في الواقع شرب ماءً لا أكثر ، لا يمكن بهذه الوجوه إثبات أن الفعل الصادر من المتجري قبيح لإمكان إفتراض وجود القبح في مرتبة سابقة على العمل وهو الذي يُعبر عنه في كلماتهم بالعزم على المعصية ، وهو فعلٌ نفسي موجود قبل العمل ، وهو غير الفعل الخارجي الذي صدرَ من المتجري ، وهذا العزم هو الذي يكون قبيحاً لا الفعل الخارجي الذي تحقق من المتجري خارجاً ، وقلنا بأنّ المطلوب إثباته في المقام هو الثاني لا قبح العزم على المعصية الذي قد يكون هو المراد بإصطلاح القبح الفاعلي في كلمات المحقق النائيني وغيره ، وفرق بين العزم على المعصية وبين الفعل الخارجي ، ونريد إثبات قبح الفعل الخارجي ، كما في المقام الأول الذي بحثنا فيه أن هذا الفعل الخارجي حرام أو ليس بحرام ، وفي المقام الثاني نبحث أن الفعل الصادر من المتجري قبيح عقلاً أو لا ، هذه الوجوه السابقة لا يثبتُ بها إلا أنّ المتجري صدرَ منه أمر قبيح ، تمرَّد على المولى ، خرج عن مراسيم العبودية إلا أنه لا يعني أن الفعل يكون قبيحاً ، فالفعل الجوانحي هو القبيح وهو قبح فاعلي موجود قبل الفعل الخارجي ، وبالتالي لا يمكن إثبات ان الفعل الصادر من المتجري قبيح ، وهذا هو قول صاحب الكفاية فهو يعترف بقبح التجري وأنَّ المتجري يستحق العقوبة ، لكن القبيح ليس هو الفعل ولا موجب للحكم بقبحه وإنَّ القبيح هو عنوان العزم على المعصية ، قصد المعصية ، البناء على التمرد على المولى ونحو ذلك وأما نفس الفعل الخارجي فلا يكون فيه قبح .
والوجوه التي ذُكرت لا تنهض لإثبات قبح الفعل المُتجرَّى به إنصافاً ، لا تنهض لإثبات هذا القبح وإنما تنهض لإثبات أنَّ المتجري فعلَ قبيحاً وأنَّ القبح موجود في باب التجري بلا إشكال ، لكن القبح هل هو في الفعل أو في مرتبة قبل الفعل هذا لا يثبت بهذه الوجوه.