الأستاذ الشيخ هادي آل راضي

بحث الأصول

42/10/10

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع : التّجري / المقام الثاني في قبح الفعل الـمُتجرَّى به عقلاً / وجوه عدم القُبح

كان الكلام في مباحث التَّجرّي ، ذكرنا في بداية البحث عن التجري أن الكلام يقع في ثلاث مقامات :

المقام الأول في حرمة التَّجرّي شرعاً ، أي حرمة الفعل الـمُتَجَرَّى به شرعاً .

المقام الثاني في قبحه عقلاً ، أي قبح الفعل الـمُتَجَرَّى به وأنه هل يحكم العقل بقبحه أو لا يحكم بذلك .

المقام الثالث في إستحقاق العقاب على التَّجرّي.

هذه مقامات ثلاثة رئيسية لابد من الكلام عنها في بحث التَّجرّي ، و إنتهينا من المقام الأول حيث ذكرنا أدلة عديدة يُتدل بها على حرمة الفعل المتَجَرَّى به و كانت أربعة وكان آخرها الإستدلال بالأخبار .

أما المقام الثاني وهو في قبح الفعل الـمُتَجَرَّى به فهو ما إنتهينا إليه فعلاً ، والبحث كان في أن القبح العقلي هل يختص بالعصيان أو يعم التَّجرّي ، بمعنى هل يختص القبح العقلي بمخالفة الواقع أو يعم مخالفة القطع بالتكليف غير المصيب للواقع؟

ذكرنا الوجوه التي أستدلَّ بها على قبح الفعل الـمُتَجَرَّى به ، حيث قال جماعة أنَّ الفعل الـمُتَجَرَّى به إن لم يكن حراماً شرعاً فهو قبيح عقلاً ، وكانت هذه الوجوه ثلاثة آخرها كان عبارة عن ما يُستفاد من كلمات المحقق الخراساني في الكفاية وفي حاشيته على الرسائل ، وحاصله دعوى أنَّ القطع من العناوين المحِّسنَة والمقبِّحة بمعنى أنَّ القطع بحسن فعل أو قبحه يوجب حسن الفعل أو قبحه وإن كان الفعل في نفسه ليس حَسناً أو قبيحاً ، فالقطع نظير عنوان الأمانة و الخيانة والصدق والكذب وأمثالها التي هي من العناوين المحسنة والمقبحة ، بمعنى أنَّ عنوان الأمانة إذا إنطبق على الفعل يوجب صيرورة هذا الفعل حسناً ، كما أنَّ عنوان الخيانة إذا إنطبق على الفعل يوجب صيرورة هذا الفعل قبيحاً لأنَّ عنوان الأمانة أمرٌ حَسن فإذا إنطبق على الفعل يوجب صيرورة الفعل حَسناً كما أنَّ عنوان الخيانة عنوان قبيح فإذا إنطبق على الفعل يوجب صيرورة الفعل قبيحاً ، ويدعى أنَّ القطع من هذا القبيل فإذا إنطبق على فعل يوجب صيرورة الفعل قبيحاً أو حسناً بإختلاف الموارد وهذه الوجوه بما فيها الوجه الأخير تقدمت مناقشتها ولا نُعيد .

ثم ذكرنا الوجوه المعاكسة التي يستدل بها على عدم قبح الفعل الـمُتَجَرَّى به ، وذكرنا الوجه الأول منها وهو ما ذكره المحقق الخراساني في مقام مناقشة الوجه الذي أستدل به على قبح الفعل الـمُتَجَرَّى به ويصلح أن يكون وجهاً مستقلاً يُستدل به على عدم قبح الفعل الـمُتَجَرَّى به .

وحاصل دعوى المحقق الخراساني هو أنَّ إتصاف الفعل بالحسن و القبح إنما يكون بتوسط العناوين الإختيارية وهي العناوين المسبوقة بالإرادة والقصد ، وهذا العنوان هو الذي يوجب إتصاف الفعل بالحسن والقبح عندما ينطبق عليه ، فإتصافُ الفعل بالحسن أو القبح مشروط بإنطباق العنوان الإختياري الحَسن أو القبيح عليه ، وأما العناوين غير الإختيارية التي لا تكون مسبوقة بالقصد والإرادة إذا إنطبقت على الفعل فلا توجب إتصاف الفعل بالحسن والقبح .

فضرب اليتيم مثلاً إذا قصد الضارب به الإيذاء فيكون الفعل الصادر منه قبيحاً لإنطباق عنوان قبيح مسبوق بالإرادة والقصد لأنه ضربه بقصد الإيذاء فيكون هذا العنوان الإختياري موجباً لصيرورة الفعل قبيحاً فيتصف ضرب اليتيم حينئذِ بالقبح فيكون قبيحاً ، وأما إذا فرضنا أنه ضرب اليتيم لا بقصد إيذاءه كما إذا ضربه بقصد إمتحان عصاه فالإيذاء وإن تحقق وإنطبق على هذا الفعل لكن حيث أنه لم يُسبَق بالقصد والإرادة فلا يكون موجباً لقبح الفعل .

فإذا أردنا تطبيق ذلك في محل الكلام والإستدلال به على عدم قبح الفعل الـمُتَجَرَّى به فيقول صاحب الكفاية :

أنَّ العنوان الوحيد في محل الكلام _ التَّجرّي _ الذي قد يُتَخيل أنه ينطبق على الفعل الصادر من المتجري و يوجب قبحه هو عنوان شرب مقطوع الخمرية لأنَّ العناوين الموجودة في المقام ثلاثة :

عنوان شرب الخمر ، وعنوان شرب الماء ، وعنوان شرب مقطوع الخمرية ، أما عنوان شرب الخمر فالمفروض في باب التَّجرّي عدم تحققه لأنَّ المفروض فيه شرب الماء ، وأما عنوان شرب الماء فلا يوجب القُبح في حد نفسه حتى إذا كان مسبوقاً بالإرادة والقصد ، فيبقى عنوان شرب مقطوع الخمرية وهو مُتحقق بلا إشكال لأنه شرب ما يقطع بكونه خمراً بلا إشكال ، وهذا العنوان ينطبق على الفعل ، لكن يقول صاحب الكفاية حيث أنَّ هذا العنوان غير مقصود للمُتَجري لأنه قاصد لشرب الخمر الواقعي وعادة يكون غافلاً عن عنوان شرب مقطوع الخمرية فلا يقصده ، فإذا كان هذا العنوان وهو العنوان الوحيد الذي يُتخيل كون إنطباقه على الفعل الـمُتَجَرَّى به موجباً لقبح الفعل الـمُتَجَرَّى به ليس مسبوقاً بالإرادة والقصد أي ليس إختيارياً إذن لا يكون مُوجِباً لقبح الفعل ، وهو كما لو ضرب اليتيم لا بقصد الإيذاء فهو لا يوجب إتصاف الفعل بالقبح ، وفي المقام عنوان شرب مقطوع الخمرية حيث أنه ليس مقصوداً للمُتَجري وليس مسبوقاً بالإرادة والقصد فلا يكون إختيارياً وبالتالي لا يوجب إتصاف الفعل بالقبح ، هذا هو الوجه الأول.

وذكرنا مناقشة هذا الوجه وخلاصتها :

الظاهر أنه لا يُشترط في كون العنوان مُحَسِّن أو مُقبح أي موجباً لصيرورة الفعل المنطبق عليه حسناً أو قبيحاً ما ذكره صاحب الكفاية من أنه لابد أن يكون هذا العنان مسبوقاً بالإرادة والقصد ، بل يكفي في كون العنوان محسناً أو مقبحاً بحيث إذا إنطبق على الفعل يوجب صيرورة الفعل حسناً أو قبيحاً مجرد الإلتفات وعدم الغفلة عن إنطباق هذا العنوان على الفعل وإن لم يقصده ، فالظاهر أنَّ هذا المقدار يكفي في إختيارية العنوان وبالتالي في كون إنطباقه على الفعل موجباً لصيرورة الفعل حسناً أو قبيحاً وإن لم يكن قاصداً ومريداً له .

ففي مثال ضرب اليتيم الظاهر أن َّقُبح الفعل لا يتوقف على أن يكون عنوان الإيذاء مقصوداً للضارب و لا يتوقف الإيذاء على أن يكون مسبوقاً بالقصد والإرادة ، بل يكفي في صيرورة الفعل قبيحاً أن يلتفت الضارب الى ترتب الإيذاء على فعله ، فإذا ألتفت الى ذلك فهذا يكفي في قبح الفعل الصادر منه ، فلو فرض أنه يقصد إمتحان عصاه ولا يقصد الإيذاء لكنه ملتفت الى أنَّ هذا الفعل الصادر منه ينطبق عليه عنوان الإيذاء و يترتب عليه إيذاء اليتيم، والمفروض أنَّ الإيذاء عنوان قبيح وإنطباقه على الفعل إنطباق قهري فهذا يكفي في صيرورة الفعل قبيحاً وإن لم يكن مقصوداً ومسبوقاً بالإرادة .

هذا الذي ذكرناه في الدروس السابقة وطبقناه في محل الكلام بأن فرضنا أن المتَجرّي كان ملتفتاً الى عنوان شرب مقطوع الخمرية و ملتفت الى إنطباقه على الفعل فالظاهر أنَّ هذا يكون كافياً في إتصاف الفعل بالقبح وإن لم يكن قاصداً ومريداً لهذا العنوان ، ولا يتوقف إنطباق هذا العنوان على الفعل على أن يكون مسبوقاً بالإرادة والقصد ، و يكفي إلتفاته الى إنطباق العنوان على الفعل الصادر منه في إتصاف الفعل بالقبح ، نعم إذا لم يكن ملتفتاً الى ذلك كما يُدعى في محل الكلام _ كما سيأتي _ فلا إشكال في أن لا يكون موجِباً لقبح الفعل الـمُتَجَرَّى به لأنه إذا لم نقل بإشتراط القصد والإرادة في كون العنوان محسن ومُقبح فقطعاً نشترط الإلتفات وعدم الغفلة .

وبعبارة أخرى وفي مثال آخر لو فرضنا أنه حفر بئراً في أرضه فتارة نفترض أن كان قاصداً الإضرار بجاره فهذا يكون موجِباً لقبح الفعل الصادر منه لأنّ هذا العنوان مسبوق بالإرادة والقصد فيكون إنطباقه على الفعل موجِباً لصيرورة الفعل قبيحاً.

وأخرى نفترض عدم قصد الإضرار بجاره لكنه كان ملتفتاً الى ترتب الإضرار على فعله ومع ذلك حفر البئر فهنا يكون موجباً لقبح الفعل الصادر منه ولو مع عدم قصد الإضرار .

وثالثة نفترض عدم قصد الإضرار بالجار ولا الإلتفات الى ترتب الإضرار على هذا الفعل كما إذا إعتقد نفع الجار بذلك فحفر البئر في داره ، فهنا لا موجب لتوهم قبح الفعل الصادر منه إذ لا إرادة ولا قصد للإضرار ولا هو ملتفت الى ترتب الإضرار على عمله حتى يوجب قبح الفعل .

وفي محل الكلام الذي يدعى هو أنَّ المتَجري ليس فقط عدم قصد عنوان شرب مقطوع الخمرية وإنما هو غير ملتفت الى هذا العنوان لأنه يُريد شرب الخمر الواقعي ، فإذا لم يكن قاصداً لهذا العنوان ولا ملتفتاً الى إنطباق على الفعل الذي يصدر منه فحينئذٍ لا موجب لقبح الفعل الـمُتَجَرَّى به بإعتبار هذا العنوان .

لكن نقول في مقام مناقشة صاحب الكفاية إذا فرضنا إلتفات المتجري لهذا العنوان عند الفعل فإنطباق هذا العنوان يكفي في الحكم بقبح الفعل عقلاً ، لكن هذا على فرض إلتفات المتجري _ أما أنه يلتفت الى هذا العنوان أو لا يلتفت إيله فسنذكرها فيما يأتي _ ولكن على تقدير الإلتفات فهذا يكفي في صيرورة العنوان مُحَسِّناً أو مُقبحاً للفعل الذي ينطبق عليه ذلك العنوان .

هذا هو الوجه الأول الذي يُنتزع من كلمات المحقق الخراساني لإثبات عدم قبح الفعل الـمُتَجَرَّى به .

الوجه الثاني : ويتألف من مقدمتين :

المقدمة الأولى : أنَّ الإلتفات الى العنوان شرطٌ في إختيارية هذا العنوان ، وهذا ما آمنا به ، وأما المسبوقية بالقصد والإرادة فليس شرطاً في إختيارية العنوان وصيرورته موجباً لحسن الفعل وقبحه إذا إنطبقا عليه .

المقدمة الثانية أنَّ عنوان مقطوع الخمرية لا يُلتفت إليه غالباً بإعتبار أنَّ القطع ينظر الى هذا العنوان بالنظر الآلي لا بالنظر الإستقلالي فإنّ هَم القاطع الخمر الواقعي ، فعنوان القطع بالخمرية يُنظر إليه بالنظر الآلي ، فيكون مغفولاً عنه عادة ، فإذا إنتفى القصد والإرادة والإلتفات الى عنوان مقطوع الخمرية فلا يكون هذا العنوان إختيارياً ، فلا الملاك الذي ذكره صاحب الكفاية متوفر _ وهو المسبوقية بالقصد و الإرادة _ ولا الملاك الذي ذكرناه متوفر _ وهو الإلتفات إليه حين العمل _ فكيف يكون موجباً لصيرورة الفعل الذي ينطبق عليه قبيحاً ! وعليه فلا موجب للحكم بقبح الفعل الـمُتَجَرَّى به .

وهذا الوجه مبني على المباني الصحيحة التي نؤمن بها وهي أن إختيارية العنوان يكفي فيها الإلتفات الى العنوان حين العمل ، ويدعى في المقام عدم وجود هذا الإلتفات وبالتالي لا موجب للحكم بقبح الفعل الـمُتَجَرَّى به ، وسيأتي الكلام عن هذا الوجه إن شاء الله تعالى .