الأستاذ الشيخ هادي آل راضي

بحث الأصول

42/08/20

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع: التّجري / المقام الثاني في قبح الفعل الـمُتجرَّى به عقلاً / وجوه عدم القُبح

قلنا أنَّ هناك وجوه ذكرت لقبح الفعل الـمُتَجرَّى به عقلاً ذكرنا إثنين منها مع الجواب عنهما .

الوجه الثالث : أن يُدعى أنَّ القطع من العناوين الـمُحسِّنة والـمُقبِّحَة التي توجب حُسن الفعل أو قبحه عندما تطرأ عليه ، من قبيل الأمانة والخيانة والصدق والكذب ، فالفعل الخارجي إذا إنطبق عليه عنوان الخيانة يكون قبيحاً وعندما ينطبق عليه عنوان الأمانة يكون حسناً ، والفعل من دون إنطباق عنوان الخيانة ليس قبيحاً ومن دون إنطباق عنوان الأمانة ليس حسناً وإنما يكون الفعل حسناً أو قبيحاً إذا إنطبق عليه أحد العنوانين .

وهذه العناوين تُسمى بالعناوين الـمُحَسِّنة والـمُقبِّحَة ، فيدعى في هذا الوجه بأنَّ القطع من هذه العناوين ، وبناءً عليه قالوا إذا قطعَ الإنسان بحُسنِ فعلٍ يكون ذلك الفعل حَسناً وإذا قطع بقبح فعل يكون قبيحاً لأنَه قطع بحسنه أو قطع بقبحه ، فإذا قطع انسان بقبح فعلٍ لإعتقاده أنه معصية كما هو الحال الكلام فالمتَجرِّي يعتقد أنَّ ما يشربه هو خمر فهو يعتقد بقبح هذا الفعل ، وهذا القطع يسري الى الفعل ويوجب سراية القبح الى نفس الفعل كالعناوين الـمُحسِّنة والـمُقبِّحَة كالأمانة والخيانة وأمثالها ، وبهذا يثبت أن الفعل الـمُتَجرَّى به قبيح.

وأنكر صاحب الكفاية هذا الدليل لأنه يرى أنَّ القطع ليس من العناوين الـمُحسِّنة والـمُقبِّحَة ، وحاول الإستدلال على ذلك بلزوم بعض المحاذير على هذا القول.

والمحقق النائيني أنكر هذا الدليل أيضاً وقال أنَّ القطع لا دخل له بالحسن والقبح وإدعى أنَّ هذا أمر وجداني.

وإستدل صاحب الكفاية على إنكاره لكون القطع من العناوين الـمُحسِّنة والـمُقبِّحَة بما حاصله :

أنَّ العناوين الـمُحسِّنة والـمُقبِّحَة لابد أن تكون من العناوين الإختيارية ، والعنوان الذي يُتصور كونه منشأً للقبح في محل الكلام هو عنوان (شرب مقطوع الخمرية) وهذا العنوان ليس مقصوداً للمُتجَرِّي وإنما يقصد الفعل بعنوانه الأولي أي يقصد الفعل بعنوان أنه شرب خمرٍ ولا يقصده بعنوان أنه مقطوع الخمرية _ وإن كان يقطع بخمريته _ ، وعلى هذا الأساس يكون شرب مقطوع الخمرية ليس إختيارياً لأنه ليس مقصوداً للمُتجَرِّي ، وعليه لا يكون شرب مقطوع الخمرية من العناوين الـمُقبِّحة لأن هذه العناوين لابد أن تكون إختيارية وإختياريتها متقومة بقصدها وإرادتها فإذا لم تكن مرادة لا تكون إختيارية وإذا لم تكن إختيارية لا تكون من العناوين المقبحة ، بل عنوان (شرب مقطوع الخمرية) ليس ملتفتاً إليه من قبل المتجري وإن كان هو قاطع بذلك.

وعلى أي حال الذي يظهر من كلام صاحب الكفاية فيها وفي حاشيته على الرسائل ومن غيره أيضاَ الإستدلال على عدم قبح الفعل الـمُتَجرَّى به بعدة وجوه :

الوجه الأول : إنَّ إتصاف الفعل بالحسن والقبح إنما يكون بتوسط العناوين الإختيارية التي تكون مسبوقة بالإرادة والقصد والشوق ، وأما العناوين غير الإختيارية _ التي لا تكون مسبوقة بالإرادة والقصد _ فهي وإن إنطبقت على الفعل لكنها لا توجب إتصاف الفعل بالحسن والقبح ، وإنما الذي يوجب ذلك هي خصوص العناوين الإختيارية المسبوقة بالقصد والإرادة والشوق.

فالعنوان واحد لكنه تارة يكون إختيارياً وأخرى غير إختياري فإذا كان إختيارياً _ مسبوقاً بالإرادة والقصد _ وإنطبق على الفعل أوجب حُسن الفعل أو قبحه بحسب العنوان ، ونفس هذا العنوان إذا لم يكن مسبوقاً بالإرادة والقصد فإنطباقه على الفعل لا يوجب حُسن الفعل ولا قبحه ، ومن هنا ذكروا أنَّ ضرب اليتيم إذا إنطبق عليه عنوان الإيذاء المسبوق بالقصد والإرادة يكون الفعل قبيحاً لأنَّ العنوان حينئذٍ يكون إختيارياً فإذا إنطبق على الفعل كان الفعل قبيحاً ، أما إذا كان عنوان الإيذاء غير مسبوق بالقصد والإرادة كما إذا ضرب اليتيم بقصد امتحان عصاه فالإيذاء تحقق وإنطبق على هذا الفعل لكن حيث أنه غير مسبوق بالقصد والإرادة لا يكون من العناوين الـمُقبِّحَة فلا يوجب قُبح الفعل وإنما الذي يوجب ذلك هو العنوان الـمُقبِّح الإختياري أي المسبوق بالقصد والإرادة.

وبناءً على هذا يُقال في محل الكلام _ في باب التجري _ توجد عناوين :

عنوان شرب الخمر وعنوان شرب الماء وعنوان شرب مقطوع الخمرية ، أما عنوان شرب الخمر فغير متحققٌ بالفرض ، فإنَّ المفروض أنه لم يشرب الخمر ، وأما شرب الماء فليس قبيحاً في نفسه حتى إذا صدر عن إرادة ، فيبقى عنوان شرب مقطوع الخمرية ، هذا هو العنوان الوحيد الذي قد يُتخيل كونه موجباً لقبح الفعل ، لأنَّ القطع بخمرية المائع يعني القطع بقبح شربه فيكون هذا الشرب قبيحاً عقلاً وهو المطلوب.

لكن صاحب الكفاية يقول هذا العنوان ليس إختيارياً لأن المتجري تعلقت إرادته بشرب الخمر الواقعي وما يريده هو شرب الخمر ولم تتعلق إرادته بشرب مقطوع الخمرية بل قد يكون غافلاً عن هذا العنوان ، فعنوان شرب مقطوع الخمرية ليس إختيارياً فلا يكون من العناوين الـمُحسِّنة والـمُقبِّحَة ولا يوجب إتصاف الفعل بالقبح لأنه ليس إختيارياً ، وهذا كما لو ضرب اليتيم لا بقصد إيذاءه كما تقدم ، فلا موجب للإلتزام بقبح الفعل الـمُتَجرَّى به ، هذا ما طرحه صاحب الكفاية.

ومن هنا يتبين بأنَّ هذا الوجه لابد أن يكون بلحاظ العنوان لا بلحاظ الفعل ، فالنزاع في إختيارية العنوان التي لابد منها حتى يكون الفعل الذي ينطبق عليه العنوان قبيحاً أو حسناً ، فالنزاع هو هل يُعتبر في إختيارية العنوان _ حتى يكون مُحسِّناً ومُقبحاً _ أن يكون مسبوقاً بالإرادة أو لا يُعتبر ذلك .

بعبارة أخرى: هل يعتبر في العناوين الـمُحسِّنة والـمُقبِّحَة أن تكون إختيارية بمعنى أن تكون مسبوقة بالقصد والإرادة أو يكفي في إختيارية هذا العنوان عدم الغفلة عنه وإن لم تتعلق به الإرادة ؟

صاحب الكفاية يقول لابد من إفتراض أن يكون العنوان مسبوقاً بالقصد والإرادة ، فإختيارية العنوان منوطة بالإرادة وترتفع بإرتفاع الإرادة ، والرأي الأخر يقول ليس منوطاً بالإرادة ، فحتى لو لم يكن مريداً وقاصداً لهذا العنوان فيكفي في إختيارية هذا العنوان أن لا يكون الفاعل غافلاً عنه حين الإتيان به ، ففي الفعل الخارجي كضرب اليتيم ، متى يكون الفعل قبيحاً ؟

يكون قبيحاً إذا إنطبق عليه عنوان الإيذاء أو عنوان آخر قبيح كالإهانة ولكن الكلام هل يُعتبر إرادة هذه العنوان والشوق إليه وقصده أو لا يٌعتبر ذلك ، فإذا فرضنا أنَّ شخصاً لم تتعلق إرادته بالإيذاء والإهانة عندما صدر منه الفعل كما أو أراد إمتحان عصاه ولكنه كان ملتفتاً الى الإيذاء وعالماً بأنه سينطبق على الفعل _ بأن يكون عالماُ بأنَّ هذا الضرب سيؤذي اليتيم _ إلا أنه لم يكن قاصداً للإيذاء فهل يكون هذا موجباً لقبح الفعل و لا يكون كذلك ، في الحقيقة النزاع في هذا ، لا في أصل إعتبار الإرادة في إختيارية العنوان ، والظاهر أنَّ هذا مُسلَّم لكن الإرادة المعتبرة بأي حدود هي ؟

صاحب الكفاية يقول لابد أن يكون هناك قصد وشوق وإرادة للعنوان عند صدور الفعل حتى يكون العنوان مُقبحاً ، والرأي الآخر يقول يكفي عدم الغفلة عن هذا العنوان وأن يُلتفت إليه وإن لم يقصده ، فهذا يكفي في إختيارية العنوان وبالتالي كونه موجباً لقُبح الفعل أو حسنه .

مقتضى كلام صاحب الكفاية هو أنه لا يكون الفعل قبيحاً فيما إذا لم يكن مسبوقاً بالقصد والإرادة والشوق ، لأنَّ إختيارية العنوان عنده متقومة بالقصد والإرادة ، ومع عدمها لا يكون من العناوين الـمُقبِّحَة وبالتالي لا يكون الفعل قبيحاً.

والرأي الآخر يقول يكفي في قبح الفعل هذا الإنطباق القهري لذلك العنوان على الفعل وإن لم يكن مقصوداً مع فرض الإلتفات وعدم الغفلة عن هذا العنوان ، فعندما ضرب اليتيم هو ملتفت الى أنَّ هذا الضرب سيؤذيه وأنه سينطبق عليه عنوان الإيذاء ولكنه لم يكن قاصداً لإيذاءه وإنما كان قاصداً إمتحان العصا ، فهنا إنطباق هذا العنوان على الفعل يوجب صيرورته قبيحاً ، فهذا الضرب يكون فعلاً قبيحاً لإنطباق عنوان الإيذاء عليه والإيذاء عنوان قبيح ، ويكفي في كون العنوان مُقبحاً هو الإلتفات إليه ، وإن لم يكن مريداً وقاصداً له ، مثلاً :

نسبة شيء الى الشارع مع عدم العلم بصدوره منه يكون تشريعاً محرماً وقبيحاً ، والظاهر أنه يحكم بهذه النسبة حتى مع عدم إرادة وقصد التشريع .

لو حفر بالوعة في ملكه ، قالوا إذا أوجبت الإضرار بالجار يكون هذا إعتداءً على الجار ويكون قبيحاً ، حتى إذا فرضنا أنه لم يقصد بحفرها الإعتداء على الجار _ كما هو كذلك عادة _ ، لكنه بالنتيجة أوجب إضراراً بالجار فصدقَ عنوان الإعتداء عليه وأوجب قبح الفعل وإن لم يكن هذا العنوان مسبوقاً بالقصد والإرادة ، هذا هو النزاع وهو لُبُ المطلب.

والظاهر أنَّ الثاني هو الأقرب والأصح ولا داعي لأن يقال أنَّ إختيارية الفعل متقومة بالإرادة ، نحن بالوجدان نجد أنَّ الإنطباق القهري للعنوان على الفعل يوجب قبح الفعل ولو من دون فرض قصد العنوان المقبح لكن بشرط الإلتفات وعدم الغفلة وإلا مع عدمهما لا يكون الفعل قبيحاً ، فلو فرض أنَّ الحافر لم يكن ملتفتاً الى الإضرار بالجار بل كان معتقداً عدم الإضرار وإتفق الإضرار فالعمل الصادر منه ليس قبيحاً لأنه لا يوجد حتى الإلتفات الى هذا العنوان المقبح ، وأما إذا كان ملتفتاً إليه وقام به الظاهر أنه يكفي في إتصاف الفعل بكونه قبيحاً وإن لم قاصداً لذلك العنوان.

قد يُعترض على صاحب الكفاية بأنَّ المتجري وإن تعلقت إرادته بشرب الخمر الواقعي لا بشرب مقطوع الخمرية لكن هذه الإرادة تسري الى شرب مقطوع الخمرية على أساس سراية الإرادة من أحد المتلازمين الى ملازمه ، وحيث أنَّ هناك ملازمة بين شرب الخمر وشرب مقطوع الخمرية فإرادة شرب الخمر توجب سراية الإرادة الى شرب مقطوع الخمرية ، فيكون شرب مقطوع الخمرية مسبوقاً بالإرادة ، فإذا كان كذلك كان إختيارياً ، وإذا كان كذلك كان إنطباقه على الفعل موجباً لقبح الفعل.

وجوابه : لا يوجد دليل واضح على هذه السراية _ أنَّ الإرادة التكوينية المتعلقة بأحد المتلازمين لابد أن تتعلق وتسري الى مُلازمه _ هذا أولاً.

ثانياً: وعلى تقدير صحة هذه السراية نقول لا ملازمة بين شرب الخمر وبين شرب مقطوع الخمرية حتى تقول إنَّ إرادة شرب الخمر توجب سراية الإرادة الى شرب مقطوع الخمرية ، بل هناك مباينة بينهما بدليل أنه في باب التجري شرب مقطوع الخمرية ولم يشرب الخمر.

وبعبارة أخرى: إنَّ متعلق الإرادة هو شرب الخمر ، وشرب الخمر أعم من شرب مقطوع الخمرية فقد يتحقق شرب الخمر بلا قطع بخمريته ، ومن الواضح أنَّ قصد الأعم وإرادته لا يستلزم قصد الأخص وإرادته ، فشرب الخمر _ وهو الأعم _ لا يستلزم إرادة شرب مقطوع الخمرية ، فهذا الإعتراض ليس وارداً على صاحب الكفاية.

هذا هو الوجه الأول الذي يُفهم من كلماتهم للإستدلال على عدم قبح الفعل الـمُتَجرَّى به .