4208/17/.d
الموضوع : التّجري / المقام الثاني في قبح الفعل الـمُتجرَّى به عقلاً/
ذكرنا في الدرس السابق أنَّ الروايات النافية للعقاب على قصد المعصية والحرام لا ظهور لها في نفي الإستحقاق ، بمعنى لا ظهور لها في نفي فعلية العذاب من باب عدم الإستحقاق ، وإنما لها ظهور في نفي فعلية العذاب من باب الإمتنان والتفضل ، والقرينة عليه وهو أنَّ مَساق هذه الروايات مَساق الإمتنان والتفضل على العباد ، فيرفع العذاب عنهم ، وهذا لا يكون لا مع فرض الإستحقاق ، وأما رفع العذاب من دون الإستحقاق لا يكون من باب التفضل والإمتنان ، وإنتهينا الى هذه النتيجة أنَّ الطائفة النافية ظاهرة في نفي فعلية العذاب مع الإستحقاق من باب التفضل والإمتنان.
وأما الطائفة الأولى المثبتة فقلنا إن كانت ظاهرة في إثبات الإستحقاق فقط فحينئذٍ لا تعارض بينها وبين الطائفة الثانية النافية ، وأما إذا كانت الطائفة المثبتة ظاهرة في إثبات فعلية العذاب على قصد الحرام فيتحقق التعارض مع الطائفة النافية لفعلية العذاب ، وأما إذا لم نستظهر شيئاً من الطائفة المثبتة وانتهينا الى إجمالها ، فلا مانع من العمل بالروايات النافية لعدم ثبوت المعارض لها ، لأنَّ معارضة الطائفة المثبتة لها مبني على إنها تنفي فعلية العذاب ، بينما نحتمل _ من جهة الإجمال _ أنها تنفي إستحقاق العذاب فقط ، فلا تكون منافية للطائفة الثانية ، وعليه لا نُحرز وجود المعارض للطائفة الثانية ، هذا الذي قلناه في الدرس السابق.
والآن نقول يبدو من بعض الروايات المثبتة أنَّ لها ظهور واضح في إثبات فعلية العذاب ، وقلنا أنها إذا كانت ظاهرة في إثبات فعلية العذاب فتكون معارضة للطائفة الثانية النافية لفعلية العذاب ، مثلاً :
في الباب 6 من أبواب مقدمة العبادات ح4 :( قال أبو عبدالله ( عليه السلام ) : إنّما خُلِّد أهل النار في النار ، لأنّ نيّاتهم كانت في الدنيا أن لو خُلّدوا فيها أن يعصوا الله أبداً ..) لها ظهور في فعلية العذاب بقوله : ( خُلِّدَ أهل النار في النار ).[1]
ومنها : ح1 من الباب 67 من أبواب جهاد العدو الذي يتضمن النبوي المشهور :
(..قال : قال رسول الله ( صلّى الله عليه وآله ) : إذا التقى المسلمان بسيفهما على غير سنة فالقاتل والمقتول في النار قيل : يا رسول الله هذا القاتل فما بال المقتول ؟ قال : لأنّه أراد قتلاً.) له ظهور أيضاً في فعلية العذاب لأنه يقول (القاتل والمقتول في النار ).[2]
وكذلك ما دلَّ على أنَّ (الراضي بفعل قوم شريك معهم ) الباب5 من أبواب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الأحاديث 4 ، 5 ، 12 ومفادها أنَّ الراضي بفعل قوم فهو شريك معهم ، ولابد أن يكون شريكٌ معهم في العذاب ، فالرضا بفعل قوم يترتب عليه فعلية العذاب ، فهذه الأحاديث ظاهرة في فعلية العذاب ، وبناءً عليه تكون معارضة للطائفة الثانية النافية لفعلية العذاب.
لكن الرواية الأولى _ وهي الحديث 4 من الباب 6 من أبواب مقدمة العبادات _ ضعيفة سنداً على الأقل بأحمد بن يونس فإنه مجهول ، فلذلك لا يمكن التعويل عليها لتأسيس شيء في محل الكلام .
وأما النبوي المشهور (القاتل والمقتول في النار) فقد تقدم أنه ليس العقاب المذكور فيه على مجرد القصد حتى يقال أنَّها دالة على فعلية العذاب على قصد المعصية فتكون معارضة للروايات النافية ، وإنما هي ظاهرة عرفاً في محاولة القتل بالهجوم وتجريد السيف ونحو ذلك ، وهذا في نفسه فعلٌ حرام ،فيعاقب المقتول لأنه فعل فعلاً حراماً واقعياً لا لأنه قصد المعصية فقط ، فيس لها ظهور على ترتب العقاب على قصد المعصية حتى يُستدل بها في محل الكلام ويقال أنها ظاهرة في فعلية العذاب ومن ثَم تكون معارضة لما دل على نفي العذاب على مجرد قصد المعصية.
وأما أخبار الدالة على أنَّ (الراضي بفعل قوم شريك معهم) فلا دلالة فيها أيضاً على فعلية العقاب على مجرد القصد لأنَّ لرواية في مقام الحديث عن الرضا بفعل قوم ، أي الرضا بصدور ذنب من الآخرين ولا علاقة لها بقصد المعصية الذي هو محل الكلام ، وهذا من قبيل قوله تعالى :
﴿ إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ ﴾[3] ، إذا فَسَّرناها بأن العذاب الأليم في الدنيا و الآخرة ليس على إشاعة الفاحشة في الخارج وإنما هو على مجرد حب إشاعتها ، لكن ما يثبت بها هو ترتب العقاب على حب إشاعة الفاحشة ، وهذا غير ترتب العذاب على مجرد قصد المعصية.
والذي نُريد قوله هو أنَّ الرضا بفعل قوم من قبيل إشاعة الفاحشة ، والحديث الشريف الراضي بفعل قوم شريك معهم من هذا القبيل فليس فيه دلالة على ترتب العذاب والعقاب على قصد المعصية.
ومن هنا يظهر أنَّ الأخبار المثبتة إما أن نقول هي ظاهرة في إثبات الإستحقاق فيرتفع التعارض بينها وبين الأخبار النافية ، وإما أن نقول _ على الأقل _ ليس لها ظهور في فعلية العذاب على مجرد القصد ، وإذا لم يكن لها ظهور في ذلك فلا مانع من العمل بالروايات النافية ، ويُلتزم بأنَّ قصد المعصية فيه إستحقاق العذاب مع نفي الفعلية فلا يعاقب من باب التفضل والإمتنان كما تقدم .
الى هنا تم الكلام عن المقام الأول ، وقلنا أن الكلام في ثلاث مقامات : الأول في حرمة الفعل الـمُتَجرَّى به شرعاً ، وهذا ما أكملنا الحديث عنه ، وتبين أنه لم يثبت دليل واضح على أنَّ الفعل الـمُتَجرَّى به حرام شرعاً .
المقام الثاني : في قبح الفعل الـمُتَجرَّى به عقلاًهل القبح العقلي مختص بصورة العصيان أي مخالفة القطع المطابق للواقع ، كما إذا شرب مائعاً معتقداً أنه خمر وكان خمراً في الواقع فشَربِ الخمر فهنا يكون فعله قبيحاً ، أو يعم صورة التجري يعني مخالفة القطع غير المطابق للواقع ، بحيث يكون الفعل الذي تتحقق به هذه المخالفة _ كشرب الماء _ قبيح عقلاً أيضاً ؟
يظهر من الشيخ في الرسائل إنكار القبح ، والموجود فقط هو سوء السريرة وخبث الباطن ، وما صَدَرَ من المكلف ليس حراماً شرعاً ولا قبيح عقلاً ، نعم هذا الفعل الصادر يكشف سوء السريرة وخبث الباطن وأنَّ هذا العبد في مقام التمرد على مولاه ، لأنه إعتقد أنَّ هذا خمرٌ وشربه ، فالموجود هو سوء السريرة المعبر عنه بالقبح الفاعلي لا القبح الفعلي .
وذكر الشيخ الأنصاري أنَّ القبح في التَجرَّي إنما هو لكشف الفعل الذي تَجرَّى به عن خبث الفاعل لكونه عازماً على العصيان ولا يكشف عن أنَّ الفعل مبغوض للمولى ولا يكشف عن كون الفعل قبيحاً عقلاً ، ثم ذكر أنَّ إستحقاق المذمة على ما كشف عنه الفعل من سوء السريرة وخبث الباطن لا يوجب إستحقاق المذمة على نفس الفعل ولا ملازمة بينهما ، ومن الواضح إنَّ الحكم العقلي بإستحقاق الذم إنما يُلازم إستحقاق العذاب شرعاً إذا تعلق بالفعل لا بالفاعل.
وخلاصته : يبقى الفعل على ما هو عليه في الواقع ولا يلحقه القبح من جهة القطع بحرمته ، ولهذا لا يمكن إثبات الحرمة الشرعية إستناداً الى الملازمة لعدم تحقق صغرى الملازمة _ وهي حكم العقل بقبح الفعل المتجرى به _ .
وهناك كلام في القبح الفاعلي فقد إلتزم الشيخ الأنصاري بثبوته وأنكر الفعلي ، وإلتزم المحقق النائيني أيضاً بالقبح الفاعلي ، فهل ما يريده المحقق النائيني هو نفس ما يرده الشيخ أو لا ؟
الكلام فعلاً يقع في القبح الفعلي للتجري ، هل يكون قبيحاً عقلاً أو لا ؟
فالكلام إذن في القبح الفعلي ، وإنكار الشيخ للقبح الفعلي ، والأدلة التي ساقها في الكفاية على إنكار القبح الفعلي ، والأدلة التي يُستدل بها على إثبات القبح الفعلي نتكلم على جميع هذه الأمور .
نأخذ كلام السيد الخوئي لأنه ذكر الوجوه التي يُستدل بها على قبح الفعل المتجرى به وناقشها ، أما الوجوه فهي :
الوجه الأول : دعوى القطع بأنَّ إنطباق عنوان ذي مصلحة أو مفسدة على شيء يوجب طروء المصلحة أو المفسدة على ذلك الشيء ، فيكون ذلك الشيء ذا مصلحة أو ذا مفسدة فيكون حسناً أو قبيحاً ، فالمصلحة الموجودة في العنوان تسري الى الفعل بعد إنطباق العنوان عليه فيصبح الفعل ذا مصلحة أو ذا مفسدة فإذا كان ذا مصلحة كان حسناً وإذا كان ذا مفسدة كان قبيحاً ، ويُدعى في المقام أنَّ الفعل الـمُتَجرَّى به ينطبق عليه عنوان ذي مفسدة وهو عنوان التَجرِّي والتمرد على المولى ، والفعل وإن كان خالياً من المفسدة ولكن إنطباق عنوان التَجرِّي عليه يوجب صيرورة الفعل ذا مفسدة فيكون قبيحاً عقلاً وهذا هو المطلوب ، هذا هو الدليل الأول .
وأجاب عنه السيد الخوئي بأنَّ القطع في حقيقته هو ليس إلا الإنكشاف والإراءة للواقع ، وهذا الإنكشاف _ لأنه قطع طريقي _ لا يكون له أثر في تبدل الواقع لا في سلب الأثار التكوينية ولا في تبدلها الى خلافها ، في المقام المصالح المفاسد آثار تكوينية للوقع إذن لا تتبدل بمجرد تعلق القطع بها وإنطباق عنوان على هذا الواقع ، ولا معنى لأن يكون قطع المكلف بأنَّ هذا خمر يوجب تبدل الواقع عما هو عليه ، فالواقع الذي هو ليس قبيحاً بتعلق القطع به يُصبح قبيحاً ! فالذي يشرب السم قاطعاُ بأنه ماء يتضرر بلا إشكال ولا ينفعه قطعه ولا يمنع من ترتب الآثار التكوينية على الفعل ، ولو قطع أنه سم وكان ماءً في الواقع فقطعه لا يؤثر شيئاً في الواقع ، فآثار الواقع لا تنتفي ولا تتبدل الى خلافه ، والسر فيه ما ذكرنا وهو أنَّ القطع لا يسلب آثار الواقع ولا يُبدلها الى خلافها .
وفي محل الكلام نقول كذلك فقطع المكلف بأنَّ هذا خمر لا يُغير الواقع ، لا يسلب عنه آثاره التكوينية ولا يُبدله الى خلافها ، فهو في الواقع شرب ماءً فتبقى آثاره التكوينية موجودة ولا يصبح مسكراً لمجرد قطعه بأنه خمر ، فما معنى أن نقول بأنَّ العنوان ذو المصلحة أو المفسدة إذا تعلق بالفعل فالفعل يُصبح ذا مصلحة وذا مفسدة؟
الوجه الثاني : أنَّ التَجرَّي يكون كاشفاً عن سوء سريرة العبد بلا إشكال، وأنه في مقام التمرد والطغيان على المولى وهذا يوجب قبح الفعل الـمُتَجرَّى به ، وكأنَّ القبح الفاعلي يسري الى الفعل فيصبح الفعل قبيحاً ، وهو المطلوب.
وجوابه: بإنكار ذلك فإنَّ قبح المنكشف لا يوجب قبح الكاشف ، فالفعل الكاشف عن سوء السريرة لا يعني قبح الفعل نفسه ، وكذا حُسن المنكشف لا يوجب حسن الكاشف.