الأستاذ الشيخ هادي آل راضي

بحث الأصول

42/08/16

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع : التّجري / المقام الأول في أدلة الحرمة / وجوه الجمع بين الأخبار المتعارضة

ذكرنا أنَّ الدليل الرابع على حرمة الفعل الـمُتَجرَّى به هو الأخبار الدالة على أنَّ قَصد المعصية يترتب عليه العقاب أو إستحقاق العقاب على إختلاف ألسنتها ، وذكرنا أنَّ هناك معارض لها وهو ما ينفي العقاب أو إستحقاق العقاب على مجرد القصد ، ويُصار الى كيفية الجمع بين هاتين الطائفتين المتعارضتين ، وذكرنا بعض وجوه الجمع وإنتهينا الى ما ذكره السيد الخوئي قده ، وحاصله أن تُحمل الطائفة المثبتة على مَن قَصدَ وبقي على قصده حتى عجز عن الفعل لا بإختياره ، وتُحمل الطائفة النافية على من إرتدعَ من قِبل نفسه ، وإستدل عليه بأنَّ النبوي المشهور يصلح أن يكون شاهداً على ذلك بالتقريب الذي ذكرناه .

وذكرنا بعض الملاحظات على هذا الجمع ، وكان آخرها أنَّ هذا الذي ذكره وإستدلَّ به على الجمع الثاني يمكن أن يُستدل به على الجمع الأول وبنفس البيان الذي ذكره ، بأن يُقال أنَّ الحديث النبوي نصٌ في مورده هو الإشتغال ببعض المقدمات ، فنُخصص به الأخبار النافية لأنه يقول أنَّ قصد الحرام مع الإشتغال ببعض المقدمات فيه عقابٌ وفي النار ونسبته الى الأدلة النافية نسبة الخاص الى العام فيُخصصها ، وإذا خصَصَ الأدلة النافية فهذا يعني أنَّا أخرجنا منها صورة القصد المقترن بفعل بعض المقدمات فتبقى مختصة بالقصد المجرد عن فعل بعض المقدمات ، فإذا إختَصَّ بهذا فيكون حينئذٍ أخص مطلقاً من الطائفة المثبتة التي تُثبت العقاب على القصد ، فتختص الطائفة المثبتة بالقصد المقترن بفعل بعض المقدمات ، وهذا ينتج التفصيل الأول بين القصد المجرد عن فعل بعض المقدمات وتحمل عليه الأدلة النافية وبين القصد المقترن ببعض المقدمات وتحمل عليه الأدلة المثبتة ، فيمكن أن يُستدل بنفس البيان المعتمد على كبرى إنقلاب النسبة على صحة الجمع الأول كما إستدل به على صحة الجمع الثاني .

وحينئذٍ يرد عليه نفس الجواب الذي أوردناه على صحة الجمع الثاني ، وحاصله أنَّ الظاهر من النبوي الشريف هو إثبات الحرمة على محاولة القتل ، وقلنا أنَّ محاولة القتل غير قصد القتل ، محاولة القتل هي القصد المقترن بشهر السيف والهجوم على الآخر ونحو ذلك ، وهذا أجنبي عن محل كلامنا وهو قصد الحرام ، وإذا فرضنا أنه أصرَّ على أنَّ المراد من ( أرادَ ) مجرد القصد فحينئذٍ نقول _ إذا أريد الإستدلال على الجمع الأول _ لا وجه لإختصاص الحديث الشريف بما إذا فعل بعض المقدمات لأنَّ القصد أعم من ذلك ولا وجه لإختصاصه بما إذا فعل بعض المقدمات إلا كونه موردَ الرواية ، فإذا كان كذلك فنقول ليس هذا هو مورد الرواية فقط فموردها أيضاً ما إذا إقترن قصد القتل بفعل الحرام وهو تجريد السيف والهجوم على الطرف المقابل ومحاولة قتله وهذا كله حرام وخصوصية في مورد الرواية فلماذا لا تُؤخذ بنظر الإعتبار عند الجمع بين الطائفتين المتقدمتين ؟!

هذا ما يرتبط بما ذكره السيد الخوئي قدس الله نفسه .

والسيد الشهيد ذكرَ وجهاً آخر للجمع بين الطائفتين وحاصله أن تُحمل الطائفة الأولى المثبتة على إثبات إستحقاق العقاب على قصد الحرام ، وتُحمل الطائفة النافية على نفي فعلية العقاب _ لا إستحقاق العقاب حتى تكون معارضة _ وحينئذٍ يرتفع التعارض بينهما ، فالأولى تقول أنه يستحق العقاب والثانية تقول هذا لا يُعاقب تفضلاً من المولى سبحانه وتعالى ، ولا منافاة بينهما .

والدليل على هذا الحمل هو أن يُقال إنَّ الطائفة النافية نصٌ في نفي الفعلية وظاهرة في نفي الإستحقاق ، والطائفة المثبتة هي نصٌ في إثبات الإستحقاق وظاهرة في إثبات الفعلية فحينئذٍ نرفع اليد عن ظاهر كلٍ منهما بنص الآخر وينتج هذا الجمع ، فالطائفة المثبتة هي نصٌ في إثبات الإستحقاق وظاهرة في الفعلية لأنها تقول من قصد الحرام يُعاقب مثلاً ، والطائفة النافية بعكسها هي نصٌ في نفي الفعلية وظاهرة في نفي الإستحقاق ، فنُلغي ظاهر الطائفة الأولى في الفعلية بنص الطائفة الثانية بنفي فعلية العذاب ، كما أنَّ الطائفة النافية الظاهرة في نفي الإستحقاق نرفع اليد عن ظهورها بنص الطائفة الأولى في إستحقاق العذاب ، فنفع اليد عن ظاهر كلٍ منهما بنص الأخرى ، والنتيجة أنَّ الطائفة المثبتة تُحمل على إثبات الإستحقاق دون الفعلية والطائفة النافية تُحمل على نفي الفعلية فيرتفع التعارض بينهما ، وهذا جمعٌ بين الطائفتين وعليه شاهد وهو الظهور والنصوصية المذكورة ، هذا ما وردَ في كلمات السيد الشهيد قدس الله نفسه.

والذي يمكن أن يُقال لا يَبعُد دعوى أنَّ الطائفة النافية ليس لها ظهور في نفي الإستحقاق فإنها لا تُريد نفي الفعلية بإعتبار عدم الإستحقاق حتى يقول هي نصٌ في نفي الفعلية وظاهرة في نفي الإستحقاق ، بل ظاهرها هو نفي الفعلية من باب التفضل والمنة ، ومن الواضح أنَّ نفي الفعلية من باب الإمتنان لا يعني نفي الإستحقاق فيبقى مستحقاً للعذاب ولكنَّ الشارع تفضلاً منه لا يُعاقبه ، فإنَّ التفضل يلازم إستحقاق العقاب وإلا لما كان نفي العذاب تفضلاً وإمتناناً ، فالذي يُدعَى أنَّ هذه الأخبار النافية للعذاب على القصد ليس لها ظهور في نفي الإستحقاق بل لها ظهور في نفي الفعلية من باب التفضل والإمتنان الملازم لإستحقاق العقاب .

هذه الدعوى هل لها شاهد ؟

إذا رجعنا الى هذه الأخبار المذكورة في الباب السادس من أبواب مقدمات العبادات منها :

ح6 .. ( قال : إنّ الله تبارك وتعالى جعل لآدم في ذرّيته أنّ من همّ بحسنة فلم يعملها كُتبت له حسنة ) هذا واضح في التفضل منه سبحانه وتعالى ( ومن همّ بحسنة وعملها كُتبت له عشراً ) محل الشاهد هنا (ومن همّ بسيِّئة لم تكتب عليه ، ومن همّ بها وعملها كُتبت عليه سيِّئة.) [1] ، يأتي التعليق عليه.

ح7 ..( قال : إنّ المؤمن ليَهُمّ بالحسنة ولا يعمل بها فتكتب له حسنة ، وإن هو عملها كُتبت له عشر حسنات ) محل الشاهد ( وإنّ المؤمن ليهمّ بالسيّئة أن يعملها فلا يعملها فلا تكتب عليه ) [2]

ح8 ..( إنّ الله تعالى قال لآدم ( عليه السلام ) : يا آدم ، جعلت لك أن من هَمَّ من ذريّتك بسيّئة لم تكتب عليه ، فإن عملها كُتبت عليه سيئة .. الخ )[3]

ح10 ..( قال : إذا همّ العبد بالسيّئة لم تكتب عليه ، وإذا همّ بحسنة كُتبت له( [4]

ح20 ..( قال : من همّ بحسنة فلم يعملها كُتبت له حسنة ، فإن عملها كتبت له عشراً ، ويضاعف الله لمن يشاء إلى سبعمائة ، ومن همّ بسيئة فلم يعملها لم تكتب عليه حتى يعملها .. الخ ) [5]

لا يُستفاد من هذه الأخبار نفي الإستحقاق ولا ظهور لها في ذلك ، لا يُستفاد منها أكثر من نفي الفعلية فقط فإنَّ مفادها أنَّ من هم بسيئة لا تُكتب عليه ، بل يُقال أنَّ هذه الروايات واردة مورد الإمتنان على العبيد كما يُفهم من ألسنتها و طَرز بيانها ، وهذا ما يمكن جعله قرينة على ثبوت الإستحقاق لا على نفيه لما قلناه من أنه لولا الإستحقاق لما كان نفي العذاب من باب الإمتنان والتفضل.

وعليه تكون هذه الروايات النافية _ والله العالم _ نصٌ في نفي الفعلية مع ثبوت الإستحقاق بقرينة ورودها مورد الإمتنان وهو يستلزم الإستحقاق.

وأما الروايات المثبتة إذا كانت ظاهرة في إثبات الإستحقاق فقط فحينئذٍ يرتفع التعارض بين الطائفتين لأنَّ الطائفة المثبتة تُثبت الإستحقاق والطائفة النافية تثبته أيضاً بناءً على ما ذكرناه من أنها تنفي الفعلية تفضلاً وإمتناناً ، ولا حاجة للجمع حينئذٍ ، فنلتزم بإستحقاق العقاب على قصد المعصية ونية الشر لكن من دون فعلية العذاب ، وهذا هو الحمل الذي ذكره السيد الشهيد لأنه حمل الطائفة الأولى على إستحقاق العقاب والطائفة الثانية على نفي الفعلية ، لكن بالطريقة التي ذكرها .

وأما إذا فرضنا أنَّ الطائفة المثبتة كانت ظاهرة في إثبات فعلية العقاب _ لا الإستحقاق فقط _ فتكون معارضة مع الطائفة النافية ، وحينئذٍ لا ينفع ما ذكرناه في الطائفة النافية من أنها ظاهرة في إثبات الإستحقاق وأنَّ نفي الفعلية من باب الإمتنان ، لكنها بالتالي تنفي فعلية العذاب ، والطائفة الأولى تُثبت العذاب فيقع التعارض بينهما.

وأما إذا فرضنا أنَّ الطائفة المثبتة لا ظهور فيها في أحد الأمرين لا ظهور في إثبات الإستحقاق فقط _ حتى لا تكون معارضة للطائفة النافية _ ولا فيها ظهور في إثبات الفعلية ، بل هي مجملة ، فحينئذٍ لا نُحرز كونها معارضة لروايات الطائفة النافية ، لأن كونها معارضة لها مبني على أن تكون الطائفة المثبتة ظاهرة في إثبات الفعلية فتعارض الطائفة النافية التي هي نصٌ في نفي الفعلية .

وعليه لا نُحرز وجود معارض للطائفة النافية فأي معنى لرفع اليد عنها ؟!

فلا مانع من العمل بروايات الطائفة النافية التي قلنا أنها ظاهرة في نفي الفعلية وإثبات الإستحقاق ، وكون الطائفة المثبتة نصٌ في إثبات الإستحقاق يؤيده ، وهو كما ذكر السيد الشهيد أنها نصٌ في إثبات الإستحقاق وظاهرة في إثبات الفعلية ، ونحن إفترضنا أنها مجملة ولا ظهور لها في إثبات الفعلية وإن كانت نصٌ في إثبات الإستحقاق ، وعليه لا تُنافي الطائفة النافية لأنها تُثبت الإستحقاق أيضاً ، والتعارض يكون بينهما في أنَّ الطائفة الثانية تنفي الفعلية فإذا أثبتت الطائفة الأولى الفعلية وقع التعارض بينهما ولكنا قلنا أنها مجملة من هذه الجهة ، فلا نُحرز وجود معارض للطائفة الثانية ، وحينئذٍ لا مانع من العمل بالطائفة الثانية النافية التي مفادها أنَّ من قصدَ المعصية وهم بالشر يستحق العذاب لكنه لا يُعذب من باب الإمتنان والتفضل عملاً بالطائفة الثانية فقط.

 


[1] وسائل الشيعة، الشيخ الحر العاملي، ج1، ص51، أبواب مقدمة العبادات، باب6، ح6، ط آل البيت.
[2] وسائل الشيعة، الشيخ الحر العاملي، ج1، ص51، أبواب مقدمة العبادات، باب6، ح7، ط آل البيت.
[3] وسائل الشيعة، الشيخ الحر العاملي، ج1، ص51، أبواب مقدمة العبادات، باب6، ح8، ط آل البيت.
[4] وسائل الشيعة، الشيخ الحر العاملي، ج1، ص52، أبواب مقدمة العبادات، باب6، ح10، ط آل البيت.
[5] وسائل الشيعة، الشيخ الحر العاملي، ج1، ص55، أبواب مقدمة العبادات، باب6، ح20، ط آل البيت.