42/08/14
الموضوع : التّجري / المقام الأول في أدلة الحرمة / وجوه الجمع بين الأخبار المتعارضة
كان الكلام في الدليل الرابع الذي اُستدل به على حرمة الفعل الـمُتَجرَّى به وهو الأخبار التي يُدعى دلاتها على حرمة قصد المعصية مع السعي أو بدونه ، وكلاهما متحقق في محل الكلام لأنَّ المتجري قاصد للمعصية وسعى نحوها بحسب الفرض ، قلنا أنَّ هناك ملاحظات يمكن أن تُذكر على الإستدلال بهذه الأخبار ، ذكرنا بعضها وإنتهينا الى الملاحظة الأخيرة وهي أنَّ هذه الأخبار معارضة بأخبار أخرى تَدلَ على نفي العقاب على مجرد القصد والنية ما يتلبس بالحرام خارجاً ، وهي روايات كثيرة ، وبعد إفتراض التعارض وقع الكلام في كيفية الجمع بين هاتين الطائفتين المتعارضتين _ بين ما يدل على إستحقاق العقاب على قصد المعصية وبين ما يدل على نفيه _ ، وهناك وجوه للجمع بينهما :
الوجه الأول : أن تحمل الطائفة الأولى _ الدالة على العقاب أو على إستحقاق العقاب _ على قصد المعصية مع الإشتغال ببعض المقدمات من دون الوصول الى الحرام ، وتحمل الطائفة الثانية _ النافية للعقاب _ على القصد المجرد عن التلبس ببعض مقدمات الحرام ، فيرتفع التعارض بينهما ويلتزم بأنَّ من قَصَدَ الحرام مع التلبس ببعض مقدماته ودون الوصول إليه يستحق العقاب أو يُعاقب ، وبين ما إذا قَصَدَ الحرام من دون أن يتلبس بمقدمات الحرام أصلاً فلا عقاب عليه.
الوجه الثاني : أن نحمل أخبار الطائفة الأولى على من قَصَدَ المعصية وبَقيَ على قصده مُصراً على الإتيان بالحرام لكنه عجزَ عنه بسببٍ خارج عن إختياره فيستحق العقاب أو يُعاقب ، وتحمل الطائفة الثانية على من قَصَدَ المعصية ولكنه إرتدع من قِبل نفسه ، فيقال أنَّ مجرد القصد لا عقاب عليه.
هذان جمعان ذكرهما الشيخ في الرسائل ، وقيل بأنهما تَبرعيان لا شاهدَ عليهما ، والسيد الخوئي قده إختار الجمع الثاني وإستدل عليه بأنَّ النبوي المشهور يصلح أن يكون شاهداً على الجمع الثاني ، بإعتبار أنَّه نَصٌ في مورده وهو عدم الإرتداع من قَبل نفسه وإنما عجزَ عن الإتيان بالحرام الذي قَصًده ، لأنَّ المقتول كان مُصراً على قتل صاحبه ولكنه عجزَ عن ذلك ، فمورد النبوي الشريف هو من بَقِيَ على قصد الحرام ولم يرتدع عنه ، وهو نصٌ فيه والمورد هو القَدر المتيقن منه ولا يُحتمل أن يشمل غيره ولا يشمله ، فإذا كان نصاً فيه وهو نصٌ في عقابه ، فحينئذٍ يقال هذا المورد لابد من إخراجه من الطائفة الثانية النافية للعقاب على قَصد المعصية لأنه قَصَدَ المعصية والنبوي الشريف نصٌ في العقاب ، فيخرج عن الطائفة الثانية _ للخصوصية التي فيه وهي أنه لم يرتدع من قِبل نفسه _ بالتخصيص لأنه أخص منها ، وإذا خرج عنها بالتخصيص تُصبح الطائفة الثانية أخص مطلقاً من الطائفة الأولى المثبتة للعقاب فتُخصصُها .
وهذا الكلام مبني على كبرى إنقلاب النسبة بأن يُقال أن هذا النبوي الشريف مورده قَصدُ المعصية مع عدم الإرتداع من قِبل نفسه وأن فيه العقاب فيكون مخصصاً للطائفة الثانية النافية للعقاب على قَصدِ المعصية مطلقاً ، فتختصُ الطائفة الثانية بقصد العقاب مع الإرتداع من قِبل نفسه ، فإذا إختصت بذلك فحينئذٍ تكون أخصُ مطلقاً من الطائفة الأولى المثبتة للعقاب فتخصصها ، أي نُخرج من الطائفة الأولى ما إذا قَصدَ المعصية وإرتدعَ من قِبل نفسه ، فتختص الطائفة الأولى لا محالة بما إذا قصدَ المعصية مع عدم الإرتداع من قِبل نفسه ، وبذلك نصل الى هذا التفصيل وهو التفصيل بين قَصَدَ المعصية مع الإرتداع من قبِل نفسه فلا عقاب عليه عملاً بالطائفة الثانية ، وبين ما إذا قَصدَ المعصية مع عدم الإرتداع من قِبل نفسه وإنما حال بينه وبين الحرام مانع خارجي فنلتزم فيه بإستحقاق العقاب أو ترتب العقاب عملاً بإخبار الطائفة الأولى ، فنصل الى هذا التفصيل ، لكنه مبني على كبرى إنقلاب النسبة من التعارض بين الطائفتين الى العموم والخصوص المطلق ، لأنَّ النبوي الشريف أخرج صورةً من الطائفة الثانية فتكون بذلك أخص مطلقاً من الطائفة الثانية.
وقد يعترض على ما ذكره السيد الخوئي قده _ بقطع النظر عن قبول كبرى إنقلاب النسبة التي يؤمن بها _ بأنَّ النبوي المشهور يمكن أن يُفسر بتفسيرين :
الأول : أن يُقال هو ظاهر في حرمة نفس الإلتقاء بالسيف الذي هو عبارة عن محاولة القتل ، فمحاولة القتل حرامٌ في حد نفسه ، هذه المحاولة التي تتمثل بتجريد السيف والهجوم على الآخر ، فهذا حرام مستقل قد يفهم من قوله ( لأنه أراد قتل صاحبه ) في مقام تعليل كون المقتول في النار ، والإرادة عرفاً لا يفهم منها مجرد القصد بل يفهم منها الإرادة المتمثلة بفعل بعض الأشياء من قبيل تجريد السيف والهجوم على الآخر ، فيقال أنه أراد قتلَ صاحبه ولا يقال عرفاً لمن كان قاصداً لقتل صاحبه وهو في بيته مثلاً أنه أراد قتل صاحبه ، قد تطلق الإرادة لغة وإصطلاحاً على مجرد القصد والعزم ولكنها عرفاً لا تطلق على مجرد القصد وإنما يُراد بها محاولة القتل ، أي القصد المتمثل بتجريد السيف والهجوم فحينئذٍ يقال أنه أراد قتل صاحبه ، فإذا إلتزمنا أن محاولة القتل المتمثلة عملاً بتجريد السيف والهجوم على الآخر حرام في حد نفسه فحينئذٍ يكون العقاب المذكور على فعل هذا الحرام ، والقاتل فعلً حراماً أشد فهو حاول قتلَ صاحبه وقتله فعلاً ، وأما المقتول فهو حاولَ القتل فقط ، لكنه فعلٌ حرام يستحق عليها دخول النار ، وبناءً على هذا التفسير تكون الرواية أجنبية عن محل الكلام لأنَّ ما تدل عليه هو حرمة محاولة قتل الآخر المتمثلة بتجريد السيف والهجوم على الأخر وهو حرام في حد نفسه ، وليس هذا محل الكلام ، كلامنا في قصد الحرام هل هو حرام أو لا ، فالنبوي الشريف ليس له علاقة بقصد الحرام فالرواية أجنبية عن محل الكلام ، بل يقال أنها أجنبية عن باب التجري ، لأنَّ التجري لا محاولة فيه بل نفس القصد هل هو حرام أو لا ، هذا التفسير الأول.
التفسير الثاني : إنَّ المراد بالرواية مجرد قصد القتل وهي تدل على حرمة قَصد القتل ، فنفس قصد القتل حرام وإذا كان هذا مفادها فحينئذٍ يقال _ في مقام مناقشة السيد الخوئي قده _ ما هو الوجه في دعوى إخصاص هذا الحديث النبوي بما إذا لم يرتدع من قِبل نفسه ، فإذا حملنا (أرادَ) على القصد فهي تدل على حرمة قصد القتل فلماذا نُخصص قصد القتل بما إذا لم يرتدع من قِبل نفسه ؟ لا وجه لهذا التخصيص ، وقصد القتل الذي تدل الرواية على حرمته أعم من ما إذا إرتدع من قِبل نفسه وما إذا لم يرتدع من قِبل نفسه ، ولا وجه للتخصيص إلا كون مورد الرواية هو عدم الإرتداع من قِبل نفسه ، وعلى أساس ذلك يختص النبوي بالقصد المقترن بعدم الإرتداع من قِبل نفسه ، فإذا أختص بهذا يأتي حديث السيد الخوئي قده بأنه يكون أخص مطلقاً من الطائفة الثانية فيخصصها ويخرج منها صورة القصد المقترن بعدم الإرتداع من قِبل نفسه فتَختص الطائفة الثانية بصورة القصد المقترن بالإرتداع من قِبل نفسه ، فتكون الطائفة الثانية أخص من الأولى فتخصصها وينتج هذا التفصيل ، فتختص الرواية بما إذا لم يرتدع من قِبل نفسه لكونه موردَ الرواية ولا وجه للإختصاص إلا هذا .
والإعتراض يقول : إنَّ مورد الرواية يتضمن خصوصية أخرى وهي إقتران القصد بفعل محرم وهو محاولة القتل بتجريد السيف والهجوم على الآخر فلماذا أُهملت هذه الخصوصية في مقام الجمع بين الطائفتين ولوحظت الخصوصية الأولى ، مع أنَّ كلاهما مورد الرواية ؟ هذه ملاحظة على ما ذكره السيد الخوئي .
الملاحظة الثانية : إنَّ ما ذكره يمكن أن يُستدل به على صحة الجمع الأول القائل بحمل الطائفة الأولى على من قصد المعصية وإشتغل ببعض المقدمات دون الوصول الى المعصية ، وحمل الطائفة الثانية على القصد المجرد عن بعض المقدمات ، فيقال أنَّ النبوي الشريف نصٌ في مورده وهو الإشتغال ببعض المقدمات فَنُخصص به الطائفة الثانية النافية للعقاب فتَختَصُ الطائفة الثانية بما إذا لم يشتغل ببعض المقدمات _ بعد أن أخرجنا ما إذا إشتغل ببعض المقدمات _ وبذلك تكون الطائفة الثانية أخصُ مطلقاً من الطائفة الأولى الدالة على إستحقاق العقاب ، فتحمل الطائفة الأولى على ما إذا إشتغل ببعض المقدمات وننتهي الى الجمع الأول ، وهو أنَّ العقاب على من قَصَدَ الحرام مع الإشتغال ببعض المقدمات تمسكاً بالطائفة الأولى ، ولا عقاب على من قَصَدَ الحرام مع عدم الإشتغال ببعض المقدمات تمسكاً بالطائفة الثانية ، وهذا كما يجري لتصحيح الجمع الثاني يجري كذلك لتصحيح الجمع الأول .