الأستاذ الشيخ هادي آل راضي

بحث الأصول

42/08/13

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع : التّجري/ المقام الأول في أدلة الحرمة / الدليل الثالث و الرابع

كان الكلام في الدليل الثالث الذي ذكروه على حرمة الفعل المـُــتجرَّى به وهو الإجماع ، وذكرنا أنه أُستفيد من إتفاق الفقهاء على إستحقاق العقاب في موردين :

المورد الأول : ما إذا ظن ضيق وقت الصلاة ، حيث يجب عليه البدار فإذا تجرأ ولم يُبادر قالوا أنه يستحق العقاب وأنه آثم ، وإن إنكشف سعة الوقت ، ولا وجه لإستحقاقه العقاب وكونه آثماً إلا البناء على حرمة الفعل المـُــتجرَّى به.

المورد الثاني : ما إذا سافر سفراً يظن معه الضرر والخطر فانه يجب عليه الإتمام في صلاته لأنَّ سفره سفر معصية ، ولا وجه لكون سفره سفر معصية إلا البناء على حرمة الفعل المـُــتجرَّى به.

وذكرنا في الدرس السابق بعض الملاحظات على ذلك ونضيف ملاحظات أخرى :

ثالثاً : يحتمل أن يكون الوجه في الإتفاق على إستحقاق العقاب في الفرع الأول وكون المكلف آثماً عندما يظن ضيق الوقت ولا يُبادر الى الصلاة هو العصيان _ لا التجري _ لخطاب واقعي وهو قوله تعالى ﴿حَـٰفِظُوا۟ عَلَى ٱلصَّلَوَٰتِ﴾ البقرة : 238 ، حيث إستفاد بعضهم من هذه الآية الشريفة هو لزوم الإحتياط والتحرز بالنسبة للصلاة بمعنى وجوب المحافظة على الصلاة ، وهذا شيء آخر غير خطاب (صلِّ) ، هذا الخطاب يأمر بالمحافظة على الصلاة ، وهذا المكلف الذي ظن ضيق الوقت ولم يُبادر فهو وإن لم يعصِ خطاب (صلِّ) بعد إنكشاف سعة الوقت ، لكنه عصى خطاب ﴿حَـٰفِظُوا۟ عَلَى ٱلصَّلَوَٰتِ﴾ لأنه لم يحافظ على الصلاة حيث لم يُبادر الى التيان بها حين ظن ضيق الوقت ، فهو أهمل الصلاة في الحقيقة ، فهو يستحق العقاب ويكون آثماً بلحاظ خطاب ﴿حَـٰفِظُوا۟ عَلَى ٱلصَّلَوَٰتِ﴾ لا بلحاظ (صلِّ) حتى تقول أنه لم يعصِ خطاب (صلِّ) لأنَّ المفروض سعة الوقت ، وحينئذٍ لا يمكن أن نستكشف من إتفاقهم على الإثم وإستحقاق العقاب حرمة الفعل المـُــتجرَّى به.

كما أنَّ المورد الثاني يحتمل أنَّ المدرك لإعتبار سفره سفر معصية هو حرمة الإقدام على ما فيه الضرر والخطر ، بإعتبار أنه إلقاء للنفس في التهلكة ، بنحو يكون الظن بالضرر مأخوذاً على نحو الموضوعية _ لا الطريقية _ ، فإذا ظن المكلف بالضرر يحرم عليه الإقدام ، فإذا خالف وأقدم على هذا السفر يكون حينئذٍ سفره سفر معصية لأنه خالف التكليف بحرمة الإقدام على مظنون الضرر والخطر ، ولو تبين لا حقاً عدم الضرر والخطر لأنَّ موضوع الحرمة الظن بالضرر ، ومع أخذ الظن بالضرر بنحو الموضوعية لا يُتصور إنكشاف الخلاف ولا يتصور أن يدخل في باب التَجرّي ، بل هو داخل في باب المعصية ، معصية التكليف بحرمة الإضرار بالنفس ، فلا يصلح أن يكون شاهداً على إتفاقهم على حرمة الفعل المـُــتجرَّى به ، هذه الملاحظات التي يمكن أن تذكر على الدليل الثالث .

 

الدليل الرابع _ على حرمة الفعل المـُــتجرَّى به _ هو الأخبار :

هناك أخبار تَدلُّ على إستحقاق العقاب أو ترتب العقاب على قصد المعصية ، وأنَّ هذا المكلف الذي قصدَ المعصية يُحاسب على هذا القصد ، فيدعى أنَّ المتجري قاصد للمعصية وإن لم يتمكن منها ، هذه الأخبار كثيرة وردت في الباب 6 من أبواب مقدمات العبادات في الوسائل ، من قبيل النبوي المعروف :

(إذا التقى المسلمان بسيفهما على غير سنة فالقاتل والمقتول في النار قيل : يا رسول الله هذا القاتل فما بال المقتول ؟ قال : لأنّه أراد قتلاً .) [1] ، فالعزم وقصد المعصية إستحق به النار كالقاتل .

وكذا ما ورد في تعليل خلود أهل النار في النار مع أنَّ ذنوبهم محدودة :

(قال أبو عبد الله (عليه السلام) : إنما خلد أهل النار في النار لأنَّ نياتهم كانت في الدنيا أن لو خلدوا فيها أن يعصوا الله أبدا، وإنما خلد أهل الجنة في الجنة لأنَّ نياتهم كانت في الدنيا أن لو بقوا فيها أن يطيعوا الله أبداً ، فبالنيات خلد هؤلاء وهؤلاء ، ثم تلا قوله تعالى : ﴿قل كل يعمل على شاكلته﴾ قال : على نيته .)[2]

فنيَّة المعصية كافية لإستحقاقهم العذاب وما ورد أيضاً :

(عن علي (عليه السلام : (الراضي بفعل قوم كالداخل فيه معهم ، و على كل داخل في باطل إثمان : إثم العمل به ، وإثم الرضا به .)س [3]

فالراضي فقط بدون دخول أيضاً عليه إثم ، فيُدعى أنَّ المستفاد من هذه الروايات أنَّ قصد المعصية يترتب عليه إستحقاق العقاب ، فإذا كان قصدُ المعصية المجرد يترتب عليه إستحقاق العقاب إذن ما ظنك بقصد المعصية الذي يقترن مع الإقام على المعصية وإن تبين أنها ليست معصية ، لكنه ليس قصداً مجرداً ، بل إقترن به إيجاد فعل في الخارج بتخيل أنه معصية كما في محل الكلام ، فإنه شَرِبَ ما يعتقد أنه خمرٌ لا أنه قَصدَ شربه فقط من دون أن يصدر منه إقدام مقرون بهذا القصد ، فهذا أولى أن يكون مستحقاً عليه العقاب .

بل حتى لو فرضنا أنه قيل أنَّ هذه الأخبار لا تدل على إستحقاق العقاب على مجرد القصد بل فيها دلالة إبتداءً على إستحقاق العقاب مع السعي لتحقيق المعصية لا القصد المجرد فحتى لو قيل ذلك فهو صادق في محل الكلام أيضاً لأنه قَصَدَ فعل المعصية وسعى لها لأنه أقدم على شرب المائع الذي يعتقد أنه خمر .

وهذه الأخبار الإستدلال بها على حرمة الفعل المـُــتجرَّى به يتوقف على تسليم الملازمة بين إستحقاق العقاب وبين الحرمة ، لأنَّ هذه الأخبار تدل على إستحقاق العقاب على قصد المعصية _ بدون السعي أو معه لا فرق _ وهناك ملازمة بين إستحقاق العقاب وبين الحرمة فتثبت الحرمة في محل الكلام ، وأما إذا أنكرنا هذه الملازمة ، فغاية ما يثبت بهذه الأخبار هو أنَّ الـمُتجري يُعاقب أو يستحق العقاب ، لكن لا ملازمة بين ذلك وبين حرمة الفعل الـمـُتجرَّى به ، فلا يثبت بهذه الأخبار إلا إستحقاق العقاب دون الحرمة ، والمفروض انَّ إستحقاق العقاب مما يحكم به العقل في باب التجري ، فإذن هو يتوقف على تسليم الملازمة بين إستحقاق العقاب وبين الحرمة ، أو بين العقاب وبين الحرمة ، وهي ليست تامة ، هذه ملاحظة .

الملاحظة الثانية لو سلمنا الملازمة فما يثبت بهذه الأخبار هو حرمة قصد المعصية _ حرمة التجري _ لا حرمة الفعل المـُــتجرَّى به الذي هو المطلوب في محل الكلام ، فالمتجري يكون آثماً ومستحقاً للعقاب ، وتوجد ملازمة بين إستحقاق العقاب وبين الحرمة ، لكنه يكون متجرياً بقصد المعصية _ بقصد فعل الحرام _ لا بالفعل المـُــتجرَّى به ، وفي محل الكلام ما يراد إثابته هو أنَّ هذا الفعل الذي صدر من المتجرّي _ الذي هو شِرب ماءٍ مباح _ حرام بأن يقال أنَّ فعل ما يقطع المكلف بكونه حراماً حرام وإن لم يكن حراماً في الواقع ، وهذه الأخبار غاية ما يثبت بها _ لو سلمنا الملازمة _ هو حرمة قصد المعصية ، أي حرمة التَّجري وهي غير حرمة الفعل المـُــتجرَّى به ، ما يثبت هو حرمة قصد الحرام مع السعي أو بدونه ويستحق العقاب على ذلك ، وحرمة قصد الحرام غير حرمة الفعل المـُــتجرَّى به ، فيمكن أن نقول أنَّ الفعل يبقى على إباحته _ لأنه شرب ماءً _ لكن قصده للحرام حرام بناءً على ثبوت هذه الملازمة ، فما يثبت بالملازمة على تقدير تسليمها هو حرمة قصد الحرام لا حرمة الفعل الذي تجرَّى به المكلف والمطلوب هو الثاني لا الأول .

هاتان ملاحظتان يمكن أن تذكرا في المقام على الإستدلال بهذه الأخبار :

أولاً : أنها مبنية على الملازمة بين إستحقاق العقاب أو العقاب وبين الحرمة ، ومع إنكار ذلك كما هو الظاهر فما يثبت بهذه الإخبار هو إستحقاق العقاب وهو ثابت بحكم العقل في باب التجرِّي بلا حاجة الى الأخبار .

وثانياً : وعلى تسليم الملازمة فما يثبت بها هو حرمة قصد الحرام لا حرمة الفعل الذي تجرى به والمطلوب هو الثاني .

وهناك ملاحظة أخرى ذكرها السيد الخوئي وحاصلها :

أنَّ هذه الأخبار لا تدل إلا على حرمة قصد المعصية الواقعية وحينئذٍ لا ربط لها بالحرام الخيالي الذي ليس له واقع ، وفرقٌ بين الحرام الواقعي وبين ما يعتقده المكلف أنه حرام ، والأخبار تدلُّ حرمة قصد الأول ، وقصد هذه الحرمة الخيالية لا يمكن أن نستفيده من هذه الأخبار ، ففي النبوي المشهور المتقدم المقتول أراد قتل صاحبه أي أراد المعصية الحقيقية لا أنه أراد المعصية غير الحقيقية ، يقول : إن مفاد هذه الأخبار هو إستحقاق العقاب على قصد المعصية الواقعية ، وبالملازمة تثبت حرمة قصد المعصية الحقيقية ، وأين هذا من محل الكلام الذي لا توجد فيها إلا معصية تخيلية ليس لها واقع .

لكن هذا الكلام غير واضح ما هو المقصود به وذلك بإعتبار أنه على كِلا التقديرين _ المصادفة للواقع وعدمها _ قصد المعصية موجود ، فالعبد عندما يعتقد أنَّ هذا خمر ويشربه فسواءً كان خمراً في الواقع أو لم يكن كذلك كما هو المفروض في محل الكلام _ فعلى كِلا التقديرين هو قصدَ المعصية الحقيقية ، غاية الأمر أنه لم يتفق هذا في الخارج لكن هو قصد الحرام الواقعي ولا يُفرَّق في ذلك بين المصادفة وعدم المصادفة حتى يُقال لا يوجد قصد للمعصية الحقيقية ولا الحرام الواقعي ، بل هو قصد الحرام الواقعي غاية الأمر أنه لم يتفق ، وإلا كان معصية ولم يكن تجرّياً ، فعلى كِلا التقديرين _ المصادفة للواقع وعدمها _ المكلف قصد الحرام الواقعي وقصد المعصية الواقعية موجود ، ولذا أقول هذا الكلام غير واضح ما هو المقصود منه .

وأما الحديث النبوي الذي ذُكر كشاهد لكلامه فالمقتول قَصدَ الحرام الواقعي ولكن حال دونه حائل فلم يتمكن من قتل صاحبه ، فقصد المعصية والحرام الواقعي موجود.

إعتراض آخر : إنَّ هذه الأخبار الدالة على إستحقاق العقاب على قصد المعصية _ كما يُدعى _ معارضة بأخبار لا تقل عنها تدلَ على نفي العقاب على مجرد قصد المعصية ونية الحرام ما لم يتلبس بها خارجاً ، وهي روايات كثيرة ، ونُسب الى الإشتياني في بحر الفوائد إدعاء أنَّ الأخبار من كِلا الطائفتين متواترة ، الأخبار الدالة على إستحقاق العقاب على القصد والأخبار النافية للعقاب على مجرد القصد كلٌ منهما متواتر ، فيقع التعارض بينها فكيف نجمع بين هاتين الطائفتين المتعارضتين .

 


[1] وسائل الشيعة، الشيخ الحر العاملي، ج15، ص148، أبواب كتاب الجهاد، ابواب جهاد العدو وما يناسبه، باب67، ح1، ط آل البيت.
[2] أصول الكافي، الكليني، كتاب الإيمان والكفر، باب النية، دار الأسوة ج2 ص112، ح5، التسلسل العام [1672]، دار الأسوة ج2 ص112.
[3] نهج البلاغة ت الحسون، السيد الشريف الرضي، ج1، ص814، خطبه 146.