الأستاذ الشيخ هادي آل راضي

بحث الأصول

42/08/09

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع: التَّجرِّي / أدلة حرمة التَّجرِّي/ما يمنع من تطبيق كبرى الملازمة/الإعتراض على تقريب السيد الخوئي

ذكرنا التقريب الذي ذكره السيد الخوئي قده لمنع تطبيق كبرى الملازمة في محل الكلام ، وقلنا إنَّ هذا التقريب بُينَّ ببيانين ، فيمكن أن يقال حتى إذا آمنا بكبرى الملازمة ولكن لا يمكن تطبيقها في باب التَجرِّي بأن نستفيد من حكم العقل بقبح الفعل الـمُتَجرَّى به حرمته شرعاً كما هو المطلوب في محل الكلام ، بل لا يمكن تطبيقها في كل الأحكام العقلية التي تقع في سلسلة معلولات الأحكام الشرعية لمانع اللغوية وعدم الفائدة وما شاكل ذلك .

الإعتراض على تقريب السيد الخوئي للمانع

وإعترض على هذا التقريب ، أما بالنسبة الى البيان الأول الذي ذكره السيد الشهيد قده عن مجلس درس السيد الخوئي قده والذي يعتمد على إفتراض وجود حكم شرعي في الأحكام العقلية الواقعة في سلسلة معلولات الأحكام الشرعية ، ويقول إنَّ هذا الحكم الشرعي المفروض وجوده إن كان كافياً لدعوة المكلف للتحرك فجعل حكم شرعي ثاني على طبق الحكم العقلي المترتب على الحكم الشرعي الأول يكون بلا فائدة ، وذلك بإعتبار أنَّ هذا التكليف المفروض وجوده كــ ﴿أَقِیمُوا۟ ٱلصَّلَوٰةَ﴾ إن كان كافياً لدعوة المكلف للتحرك فلا داعي لجعل تكليفٍ آخر من قِبل الشارع بوجوب إطاعة هذا التكليف وبحرمة معصيته ، ويكون جعله لغواً وبلا فائدة .

وإن لم يكن هذا التكليف _ الأول _ كافياً في تحريك المكلف لأنه باني على العصيان فجعل التكليف الثاني بوجوب إطاعة هذا التكليف لا يكون محركاً له أيضاً ، هذا هو البيان الأول .

والإعتراض على هذا البيان ذُكر بهذا الشكل :

إننا نختار الشِق الثاني من هذا الترديد أي نختار أنَّ التكليف المفروض وجوده ليس كافياً لتحريك هذا المكلف لكونه بانياً على العصيان ، والبيان الأول يقول أنَّ التكليف الشرعي الثاني لغو وبلا فائدة ولا يُحرك المكلف الباني على العصيان ، والجواب هو يمكن إفتراض محركية التكليف الثاني في محل الكلام فلا يكون جعله لغواً وذلك في إحدى حالتين :

الحالة الأولى : ما إذا تنجز الواقع بغير العلم ، كما لو ثبت التكليف بوجوب إقامة الصلاة بأمارة ظنية معتبرة ففي هذه الحالة نقول بأن جعل التكليف بوجوب إطاعة أقيموا الصلاة الثابتة بأمارة معتبرة وحرمة معصيته يكون له فائدة وأثر وهو أنَّ الإتيان بالصلاة يكون موافقة قطعية لهذا التكليف الثاني وترك الصلاة يكون مخالفة قطعية كذلك ، بخلاف التكليف الأول فالإتيان بالصلاة لا يكون موافقة قطعية وإنما يكون موافقة إحتمالية ، وترك الصلاة لا يكون مخالفة قطعية وإنما يكون مخالفة إحتمالية ، لأنَّ التكليف الأول ثابتٌ بأمارة ظنية ، وهي وإن نجَّزت الواقع على المكلف لكنه تَنجُّز بأمارة ظنية فالإتيان بالصلاة لا يكون موافقة قطعية وإنما هو موافقة إحتمالية ، كما أنَّ تركها لا يكون مخالفة قطعية ويكون مخالفة إحتمالية ، وإذا فرضنا أنَّ الشارع جعل تكليفاً آخر _ بناءً على الملازمة _ وهو وجوب إطاعة هذا التكليف الأول وحرمة معصيته يكون الإتيان بالصلاة موافقة قطعية له _ للتكليف الثاني _ لأنه يدعو الى إطاعة التكليف الثابت بالأمارة المعتبرة والمكلف قد أطاعه وهي موافقة قطعية ، كما أنه لو ترك الصلاة يكون تركه مخالفة قطعية للتكليف الثاني ، وحينئذٍ يقال لا إشكال في أن المحركية والداعوية الموجودة في حالة إفتراض وجود التكليف الثاني غير المحركية والداعوية الموجودة في حالة إفتراض عدم وجود التكليف الثاني .

بعبارة أخرى : إنّ التكليف الثاني يَنقُل التنجيز من كونه تنجيزاً إحتمالياً الى كونه تنجيزاً قطعياً فترتفع مرتبة التنجيز من التنجيز الإحتمالي الى التنجيز القطعي ، ولا إشكال في أنَّ المحركية في التنجيز الإحتمالي أقل من المحركية في التنجيز القطعي وهذا معناه أنَّ التنجيز القطعي الحاصل بجعل التكليف الثاني يترتب عليه أثر وفائدة لم تكن موجودة إذا قصرنا النظر على التكليف المفروض وجوده في محل الكلام الثابت بالأمارة المعتبرة بحسب الفرض ، فيكون التكليف الثاني له فائدة وأثر ، فكيف تقول _ والخطاب للسيد الخوئي _ أنه لا أثر له ، فالعبد قد لا يتحرك عن التكليف المحتمل ويتحرك عن التكليف القطعي ، ونفس الكلام يرد في تنجز التكليف بالأصل كالإستصحاب .

الحالة الثانية : أن نفترض أنَّ الواقع تنجز بالعلم ، ومع ذلك يُدعى أنَّ جعل التكليف الثاني له أثر فائدة وذلك بإعتبار تعدد الملاك ، فملاك التكليف الثاني غير ملاك التكليف الأول ، التكليف الأول ﴿أَقِیمُوا۟ ٱلصَّلَوٰةَ﴾ ملاكه المصلحة الموجودة في الفعل ، أو المفسدة كذلك ، والتكليف الثاني الذي يُراد إثباته بالملازمة ملاكه حُسن إطاعة المولى وقبح معصيته لأنه يأتي بعنوان وجوب إطاعة "أقيموا الصلاة" وعنوان حرمة معصية "أقيموا الصلاة" ووجوب إطاعة "أقيموا الصلاة" ملاكه حُسن إطاعة المولى وحرمة معصية "أقيموا الصلاة" ملاكه قُبح معصية المولى ، وإذا تعددت الملاكات تتأكد المنجزية ، فحصل شيء جديد وهو تأكيد هذه المنجزية فتشتَدُّ درجة إستحقاق العقاب ، وهذا كما في التكليفين الذين بينهما عموم وخصوص من وجه كـأكرم العالم و تصدق على الفقير ويجتمعان في مجمع العنوانين وهو العالم الفقير ، ويتأكد التَنجُز في مادة الإجتماع من دون أن يلزم من ذلك اللغوية ، وما نحن فيه من هذا القبيل ، وجود ملاكين للتنجُّز وإستحقاق العقاب ، ملاكٌ بإعتبار وجود المصلحة أو المفسدة في الفعل وملاكٌ أخر هو حُسن إطاعة المولى وقبح معصيته فلا يلزم من جعل التكليف الثاني اللغوية وعدم الفائدة كما ذكر السيد الخوئي ، هذا هو الإعتراض على البيان الأول.

وأما البيان الثاني للتقريب الذي يعتمد على حكم العقل ، فالتكليف المفروض وجوده يترتب عليه حكم العقلِ بحُسن إطاعة هذا التكليف وقبح معصيته ، والبيان الثاني يقول هذا الحكم العقلي إذا كان كافياً لداعوية المكلف لكي يتحرك ويأتي بالصلاة ولا يتركها فجعل التكليف الثاني بوجوب إطاعة التكليف الأول وحرمة معصيته بلا فائدة ، لأنَّ جعل التكاليف الشرعية إنما هو لإيجاد الداعي عند المكلف والداعي موجود فيكون جعل التكليف لغواً ، وإذا كان الحكم العقلي غير كافٍ في تحريك المكلف فالحكم الشرعي الثاني أيضاً لا يكفي لتحريكه لأن هذا الحكم الشرعي الثاني إنما يكون محركاً للمكلف بتوسط حكم العقل بحُسن الطاعة وقبح المعصية ، وقد فرضنا أولاً أنَّ حكم العقل بحسن الطاعة وقبح المعصية لا يُحرك هذا المكلف ، إذن جعل التكليف الثاني الذي لا يحرك المكلف إلا بتوسط حكم العقل بحسن الطاعة وقبح المعصية أيضاً لا يُحرك المكلف ، فيكون جعله لغواً. والإعتراض يقول نختار الشق الأول من هذا الترديد وهو أنَّ حكم العقل بحسن إطاعة التكليف المفروض وقبح معصيته يكفي في تحريك المكلف ، والسيد الخوئي يقول في تقريبه لا حاجة لجعل الحكم الشرعي في مورده لأنَّ الغرض من جعل الحكم الشرعي هو إيجاد الداعي عنده للتحرك وهذا مفروض الوجود في محل الكلام وهو حكم العقل بحسن الطاعة وقبح العصية فإذا كان كافياً في أيجاد الداعي عند العبد للتحرك فجعل التكليف بعد ذلك بوجوب إطاعة التكليف الأول وحرمة معصيته شرعاً يكون بلا فائدة ولغواً ، والمعترض يقول هذا نمنعه فبالرغم من أنَّ الحكم العقلي يكفي لتحريك المكلف وايجاد الداعي عنده للتحرك لكن لا يكون جعل الحكم الشرعي بوجوب الطاعة وحرمة المعصية لغواً ، لأن هذا الحكم العقلي الكافي في المحركية لا يكفي في المحركية بالنسبة الى كل أحد ، فبعض الناس لا يتحرك عن الحكم العقلي ، لا يتحركون إلا عن الحكم الشرعي ، فإذا فرضنا أنَّ الشارع يهتم بالفعل ويُريد من المكلف الإتيان به فهذا الإهتمام الشديد يجعله يحكم حكماً شرعياً بوجوب إطاعة هذا التكليف وحرمة معصيته حتى يخلق داعياً عند المكلف الذي لا يتحرك عن الحكم العقلي ، فلا يكون جعل التكليف الشرعي الثاني لغواً ، هذا هو الإعتراض على كِلا البيانين .

وإذا تم هذا الإعتراض فنستطيع أن نقول إذا آمنا بكبرى الملازمة _ وهذا ما تقدم بحثه وأنكرناه _ فحينئذٍ كما يمكن تطبيق هذه الملازمة على الأحكام العقلية الواقعة سلسلة علل الأحكام الشرعية _ وهو ما إعترف به السيد الخوئي _ كذلك يمكن تطبيقها في الأحكام العقلية الواقعة في سلسلة معلولات الأحكام الشرعية ، وذلك لأنَّ المانع المدعى وجوده _ وهو اللغوية وعدم الفائدة _ منفي والتكليف الثاني له أثرٌ وله فائدة ، على البيان الأول له أثر وفائدة في الحالتين المقدمتين ، وعلى البيان الثاني له أثر وفائدة في تحريك من لا يتحرك عن التكليف العقلي بإيجاد الداعي للتحرك عنده وهو شيء لم يكن موجوداً مع إفتراض وجود الحكم العقلي وحده .

وحينئذٍ يقال _ بناءً على الإيمان بكبرى الملازمة _ بإمكان تطبيقه في محل الكلام ، فحكم العقل بقبح التَجرَي وإن كان واقعاً في سلسلة معلولات الأحكام الشرعية لكن تطبيق كبرى الملازمة لا مانع منه لأنَّ المدعى هو اللغوية وعدم الفائدة وتبين وجود الفائدة وعدم اللغوية من جعل التكليف الثاني ، فيقال إنَّ حكم العقل بقبح الفعل الـمُتَجرَّى به لا يمنع من إفتراض حُكم الشارع بحرمة الفعل الـمُتَجرَّى به بناءً على الملازمة ، ويثبت المطلوب وهو أنَّ الفعل الـمُتَجرَّى به حرام شرعاً ، إما لتحصيل المنجزية القطعية فيما إذا تَنجَّز الواقع بغير العلم وإما لتأكيد درجة التنجيز والمحركية بإفتراض تعدد الملاك كما في الحالة الثانية كما تقدم . فلا مانع من إستكشاف حرمة الفعل الـمُتَجرَّى به شرعاً.

هذه نتيجة الإعتراض على ما يقوله السيد الخوئي ، فهل هذا الإعتراض تام أو غير تام ؟

يمكن أن يُتأمل في هذا الإعتراض ويُدفع بأن يقال لا نتعقل أن تحصل محركية وداعوية بواسطة جعل التكليف الشرعي الثاني _ بوجوب طاعة التكليف المفروض وجوده وحرمة معصيته _ لم تكن موجودة بدونه وتصور هذا صعب ، لأنَّ المفروض في محل الكلام وجود تكليف شرعي بوجوب إقامة الصلاة أو بحرمة شرب الخمر ، ولا إشكال في أنَّ هذا التكليف يخلق عند المكلف داعياً للتحرك بتوسط حكم العقل بحُسن الطاعة وقبح المعصية ، فإذا فرضنا أنَّ الشارع جعل تكليفاً شرعياً بوجوب طاعة هذا التكليف الأول وحرمة معصيته فالسؤال هو :

هل يترتب على جعل التكليف الثاني داعوية جديدة ليست موجودة قبل ذلك أو لا ؟

إذا قلنا بترتب داعوية جديدة غير ما هو موجود كما يقول المعترض فلا يكون جعل التكليف الثاني لغواً ولا يكون بلا فائدة فيستحكم الإعتراض ، وأما إذا قلنا لا تترتب داعوية و محركية جديدة كما يقول السيد الخوئي فحينئذٍ لا يتم الإعتراض ويتم التقريب الذي ذكره لمنع تطبيق الملازمة _ لو آمنا بها _ في محل الكلام ، وهذا ما سيأتي الجواب عنه إن شاء الله تعالى .