الأستاذ الشيخ هادي آل راضي

بحث الأصول

42/08/08

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع : التَّجرِّي / أدلة حرمة التَّجرِّي / الأمر الثالث : ما يمنع من تطبيق كبرى الملازمة .

ذكرنا في الدرس السابق بأنَّ الدليل الأول لإثبات حرمة الفعل الـمُتَجرَّى به حتى لو تمت صغراه _ أي حُكم العقل بقبح الفعل الـمُتَجرَّى به _ وتمت كبراه _ وهي الملازمة بين ما حَكم به العقل وما حكم به الشرع _ فهو بحاجة الى إزالة ما يُدعى كونه مانعاً من تطبيق هذه الكبرى في باب التَجرِّي ، حيث إدعي وجود ما يمنع من تطبيق هذه الكبرى في باب التجري فلابد من إزالة هذا المانع حتى يتم هذا الدليل .

وقلنا إنَّ المانع الذي يُذكر في المقام له عدة تقريبات بدأنا بالأول منها ، وهذا التقريب يُدعى فيه أنَّ مورد الملازمة هي الأحكام العقلية الواقعة في سلسلة علل الأحكام الشرعية لا الأحكام العقلية الواقعة في سلسلة معلولات الأحكام الشرعية ، والمراد بالأولى هي الأحكام العقلية التي يتفرع ويترتب عليها الأحكام الشرعية ، والمراد بالثانية الأحكام العقلية المتفرعة من الأحكام الشرعية ، والمقصود في الأول هو المصالح والمفاسد فإنها علة للأحكام الشرعية ، فإذا فرضنا أنَّ العقل أدركَ مصلحة أو مفسدة ملزمة في فعلٍ من الأفعال وأدرك بالإضافة الى ذلك عدم وجود مزاحم لهذه المصلحة ولتلك المفسدة ، فلو أدرك مثلاً وجود مصلحةٍ ملزمةٍ في حفظ النفس المحترمة وأدركَ أنه لا يوجد مزاحم لهذه المصلحة الملزمة ، أو أدرك وجود مفسدة ملزمة في غصب مال الغير وأدرك أيضاً عدم وجود مزاحم لهذه المفسدة الملزمة ، فإذا أدرك العقل ذلك وبضميمة أنَّ الأحكام تابعة للمصالح والمفاسد في المتعلقات يَنتُج العلم بوجوب الأول _ حفظ النفس _ وجوباً شرعياً وحرمة الثاني _ غصب المال _ حرمةً شرعيةً ، بإعتبار أنه لا يوجد محذور في إستكشاف هذا الحكم الشرعي من الحكم العقلي المذكور بإعتبار تبعية الأحكام الشرعية للمصالح والمفاسد ، فإذا أدرك العقل وجود مصلحة ملزمة وأدرك عدم وجود مزاحم لهذه المصلحة يمنع من تأثيرها في الحكم الشرعي ، فإذا أدرك ذلك إستتبعَ ذلك وجود الحكم الشرعي لا محالة ، فيُستكشف وجود حكم شرعي بوجوب ما أدرك العقل وجود مصلحة ملزمة فيه وحرمة ما أدرك وجود مفسدة ملزمة فيه ، فهنا يمكن جريان الملازمة بين ما حكم به العقل و بين الحكم الشرعي ، لأنَّ هذه الأحكام العقلية المذكورة واقعة في سلسلة علل الأحكام الشرعية فهذا تام ، وهذا بالرغم من كونه تاماً كبروياً لكن من الصعب تحقيقه صغروياً ، لأنَّ العقل ليس له إحاطة بالمصالح والمفاسد الواقعية ، وليس له إحاطة بالجهات المزاحمة للمصالح والمفاسد الواقعية لو فرض إدراكه لها ، ففي بعض الأحيان الفعل فيه مصلحة ولكن هناك مُزاحم يمنع من كون الفعل واجباً ، وهذا من قبيل الصدق فهو واجب ولكن قد تكون هناك جهة مزاحمة للمصلحة الموجودة فيه كوقوع الضرر بالغير _ كهلاك مؤمن مثلاً _ فلا يكون الصدق حَسناً فلا يحكم بوجوبه شرعاً ، فالعقل ليس له إحاطة بالمصالح والمفاسد الواقعية أولاً وليس له إحاطة بالجهات المزاحمة لها ثانياً ، فأنى للعقل أن يُحرز أنَّ هذا الفعل فيه مصلحة ملزمة وليس لها مزاحم حتى يَستكشف من ذلك الوجوب الشرعي ، فهذا كبروياً صحيح ولكنه صغروياً لا يتحقق غالباً ، ولهذا قيل إن دين الله لا يُصاب بالعقول ، لا يمكن بالعقل الناقص للإنسان أن يستنبط هذا الحكم الشرعي بالوجوب وذاك بالحرمة بمجرد انَّ عقل الإنسان أدرك أن فيه مصلحة ، ليس كل ما فيه مصلحة يستتبع الحكم الشرعي بالوجوب ، إذ لابد من وصولها الى درجة الإلزام مع عدم وجود ما يزاحم هذه المصلحة ويمنع من تأثيرها في الحكم الشرعي بالوجوب ، فهذا المطلب صحيح كبروياً وأنَّ الأحكام العقلية الواقعة في سلسلة علل الأحكام الشرعية الملازمة فيها تامة ولكنه غير متحقق في الخارج غالباً ، هذا بالنسبة الى القسم الأول .

وأما بالنسبة الى القسم الثاني _ الأحكام العقلية الواقعة في سلسلة معلولات الأحكام الشرعية _ أي الأحكام العقلية التي يُفترض فيها مسبقاً وجود الحكم الشرعي بمعنى أن تصور هذه الأحكام العقلية يتوقف على إفتراض وجود حكم شرعي ومن دونه لا معنى لهذه الأحكام العقلية ، كما هو الحال في الحكم بحُسن الطاعة وقبح المعصية فهذا حكم عقلي متوقف على وجود تكليف للمولى ، وفي هذا القسم يقول لا يمكن أن يُستكشف الحكم الشرعي ، فإذا كان هناك تكليف شرعي كوجوب الصلاة مثلاً يحكم العقل بحُسن إطاعته وقبح معصيته ، وحكم العقل هذا هل يستتبع حكماً شرعياً بناءً على الملازمة ، هل يثبت بالملازمة أنَّ الشارع يحكم بوجوب إطاعة ذلك التكليف شرعاً وحرمة معصيته كذلك ؟

هذا الحكم الشرعي بوجوب إطاعة هذا التكليف وحرمة معصيته _ على تقدير ثبوت الملازمة _ مرجعه في الحقيقة الى دعوة المكلف للتحرك نحو الإتيان بالصلاة ، فوجوب إطاعة ﴿أَقِیمُوا۟ ٱلصَّلَوٰةَ﴾ مرجعه الى دعوة المكلف الى الإتيان بالصلاة ، وحرمة معصية ﴿أَقِیمُوا۟ ٱلصَّلَوٰةَ﴾ مرجعه الى التحذير من ترك الصلاة ، هذا التكليف الشرعي الذي يُدعى ثبوته بناءً على الملازمة والذي مفاده وجوب إطاعة هذا التكليف السابق وحرمة معصيته مرجعه الى دعوة المكلف الى الإتيان بالصلاة والتحذير من تركها ، وهذا ما يقول فيه أنه لا فائدة فيه لأنَّ هذا التكليف الشرعي المفروض وجوده في هذه الموارد العقلية إما أن يكون كافياً لتحريك المكلف نحو الإمتثال ومنعه من المخالفة وإما أن لا يكون كافياً لذلك ، فإذا كان كافياً لذلك فحينئذِ لا داعي لجعل التكليف الثاني ، بل جعله يكون لغواً لأنه لا يوجد شيئاً جديداً ، لأنَّ التكليف الأول كافٍ في المحركية والثاني لا يؤثر شيئاً جديداً فيكون لغواً فيستحيل ثبوته .

وأما إذا فرضنا أنَّ التكليف المفروض وجوده لا يكفي لتحريك المكلف نحو الإمتثال فحينئذٍ لا فائدة أيضاً من جعل التكليف الشرعي الثاني ، لأنَّ مرجع هذا التكليف الثاني الى دعوة المكلف الى الصلاة وتحذيره من تركها وهذا ما يقوم به التكليف الأول ، فإذا كان التكليف الأول غير كافٍ في دعوة المكلف نحو الإمتثال فالتكليف الثاني _ الذي يثبت بناءً على الملازمة _ ليس كافياً لتحريك المكلف أيضاً فيكون جعله لغواً أيضاً .

ومن هنا يظهر أن التكليف الذي يُدعى ثبوته بناءً على الملازمة هو على كِلا التقديرين لا فائدة فيه ولا يصلح للمحركية ، فبناءً على كفاية التكليف المفروض وجوده مسبقاً يكون الثاني لغواً وبلا فائدة ، وبناءً على عدم كفاية التكليف الأول لأنّ المكلف باني على العصيان يكون الثاني بلا فائدة أيضاً ، فلو سلمنا ثبوت الملازمة كبروياً لكن لا يمكن تطبيقها في محل الكلام وهي الأحكام العقلية الواقعة في سلسلة معلولات الأحكام الشرعية ، أي التي يُفترض فيها مسبقاً وجود حكم شرعي ، هذا هو المانع الذي ذكره .

وبناءً على هذا يقول أنَّ محل الكلام هو من قبيل الثاني ، وهو حكم العقل بقبح الفعل الـمُتَجرَّى به ، وهو من قبيل حكم العقل بقبح المعصية فكلاهما يتوقف على إفتراض تكليف شرعي سابق ولو بحسب نظر المتجري نفسه من قبيل حرمة شرب الخمر ، وهذا التكليف الشرعي هو الذي جعل العقل يحكم بقبح معصيته وقبح التَجرِّي فيه ، فحُكم العقل بقبح الفعل الـمُتَجرَّى به هو من القسم الثاني _ الأحكام العقلية الواقعة في سلسلة معلولات الأحكام الشرعية _ لأنه يتوقف على إفتراض وجود حكم شرعي يقطع به المكلف وإن لم يكن ثابتاً في الواقع . والمكلف يَتَجرّى ويتمرد على المولى في هذا التكليف فيشرب ما يعتقد أنه خمر ، وهذا الفعل الـمُتَجرَّى به يحكم العقل بقبحه وهو واقعٌ في سلسلة معلولات الأحكام الشرعية فيجري فيه ما تقدم ، فنقول أيضاً لا فائدة في أن نستكشف من حكم العقل بقبح الفعل الـمُتَجرَّى به حرمة الفعل المتجرى به شرعاً بناءً على الملازمة _ حتى لو آمنا بكبرى الملازمة _ لأن تطبيقها في المقام فيه مشكلة وهو ما تقدم أن الحكم الشرعي المفروض وجوده إما أن يكون كافياً لدعوة المكلف للتحرك وإمتثاله وإما أن لا يكون كافياً لذلك ، فإن كان كافياً في دعوة المكلف لتركِ التجري وترك شرب مقطوع الخمرية فحينئذٍ يكون جعل التكليف الثاني لغواً وبلا فائدة ، فحرمة التَجرّي المجعولة بناءً على الملازمة لا فائدة فيها لأنَّ حرمة شرب الخمر كانت كافية في تحريك المكلف لترك ما يقطع أنه شربُ خمرٍ .

وإن لم يكن هذا التكليف المفروض وجوده مسبقاً كافياً في دعوة المكلف للإمتثال كما إذا كان بانياً على التَجرّي ، فحينئذٍ يكون جعل الحرمة الشرعية للفعل الـمُتَجرَّى به بناءً على الملازمة لغواً وبلا فائدة .

وهذا ينتج أن الكبرى حتى لو آمنا بها لا يمكن تطبيقها في محل الكلام ، فلا يمكن أن نستكشف من حكم العقل بقبح الفعل الـمُتَجرَّى به حرمة الفعل الـمُتَجرَّى به شرعاً .

وبيان هذا التقريب بالشكل الذي ذكرناه هو حسب نقل السيد الشهيد قده يقول ذكره السيد الخوئي قده في مجلس درسه ، ولكن الموجود في تقريرات السيد الخوئي كالمصباح والدراسات بل حتى في المباحث الأصولية لسماحة الشيخ الفياض المذكور شيء آخر وهو تعليل إستحالة جعل الحكم في المقام بأنَّ حكم العقل بحُسن إطاعة التكليف وقبح معصيته إن كان كافياً في دعوة المكلف .. الخ ، فيُعلله بحكم العقل بحسن إطاعة التكليف وقبح معصيته ولا يُعلله بأنَّ التكليف الشرعي المفروض وجوده مسبقاً إما أن يكون كافياً أو لا يكون كافياً كما تقدم في البيان السابق .

فهناك تكليف شرعي كـــ ﴿أَقِیمُوا۟ ٱلصَّلَوٰةَ﴾ يحكم العقل بحسن طاعته وقبح معصيته فهذا الحكم العقلي إما ان يكون كافياً في دعوة المكلف للتحرك والإتيان بالصلاة وإما أن لا يكون كافياً ، فإن كان كافياً في دعوة المكلف الى الإمتثال والطاعة وزجره عن المعصية فلا حاجة لجعل الحكم الشرعي في مورده لأنً التحرك ضُمِن بنفس الحكم العقلي بحُسن إطاعة التكليف وقبح معصيته ، لأنًّ الغرض من التكليف الشرعي هو إيجاد الداعي في نفس المكلف للتحرك وهو موجود بالحكم العقلي ، فيكون التكليف الشرعي الذي يُراد إثباته بالملازمة لغواً وبلا فائدة ، هذا إذا كان حكم العقل كافياً في المحركية .

وأما إذا لم يكن كافياً في تحريك المكلف ، فمع ذلك جعلُ التكليف الشرعي يكون لغواً و بلا فائدة وذلك لأنَّ كل تكليف شرعي إنما يحرك المكلف بتوسط حكم العقل بحًسن الطاعة وقبح المعصية ، فإذا فرضنا أنَّ حكم العقل بحسن إطاعة التكليف المفروض وجوده مسبقاً وقبح معصيته كان غير كافياً لتحريك العبد نحو الإمتثال فجعل التكليف الشرعي بوجوب الطاعة وحرمة المعصية الذي لا يُحرك إلا بتوسط حكم العقل بحُسن الطاعة وقبح المعصية أيضاً لا يكون كافياً في تحريك المكلف فيكون جعله بلا فائدة .

وهذا بيانٌ آخر غير البيان السابق ، يعتمد هذا البيان على أنَّ الحكم العقلي بقبح طاعة التكليف المفروض وجوده وهو ﴿أَقِیمُوا۟ ٱلصَّلَوٰةَ﴾ بحسب الفرض وقبح معصيته إما أن يكون كافياً في تحريك المكلف أو لا يكون كافياً في ذلك ، فإن كان كافياً فجَعلُ التكليف الشرعي بوجوب طاعة الحكم الشرعي وحرمة المعصية بلا فائدة وإن لم يكن كافياً فجَعل التكليف كذلك بلا فائدة أيضاً ، لأنَّ التكليف بوجوب الطاعة كوجوب شرعي وحرمة المعصية كحرمة شرعية إنما يكون محركاً للمكلف بتوسط حُكم العقل بحُسن الطاعة وقبح المعصية ، فإذا كان الحكم الموجود سابقاً لا يكفي للتحريك فهذا أيضاً غير كافٍ للتحريك ، فجعل الحكم الشرعي بلا فائدة وبلا ثمرة فيكون لغواً ، هذا هو توضيح التقريب الذي ذكره السيد الخوئي قده .