الأستاذ الشيخ هادي آل راضي

بحث الأصول

42/08/03

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع : التَّجرِّي / أدلة حرمة التَّجرِّي / الإعتراض الثاني على الدليل الثاني

الإعتراض الثاني

الإعتراض الثاني الذي وجِّه للمحقق الأصفهاني يرتبط بما ذكره من الإعتراف بالملازمة بين ما يراه العقل حسناً أو قبيحاً يستحق فاعله المدح والثواب أو الذم والعقاب وبين ما يراه الشارع كذلك لأنَّه أحد العقلاء ، فهناك ملازمة بين الحكم العقلي _ الذي تطابقت عليه اراء العقلاء _ وبين الحكم الصادر من الشارع بما هو عاقل.

وهو أنكر الملازمة بين الحكم العقلي وبين الحكم الصادر من الشارع بما هو شارع ، ولكن الملازمة بين الحكم العقلي وبين الحكم الصادر من الشارع بما هو عاقل إعتَرفَ بها وسلًّمها ، فإذا تطابقت أراء العقلاء على قبح الظلم مثلاً وإستحقاق فاعله الذم والعقاب _ بحسب الفرض الثاني _ فالشارع أيضاً يحكم بذلك ، وهذا الحكم صادر منه بما هو عاقل ، فتثبت الملازمة بين هذين الحكمين ، وهذا كما تقدم إنَّ نفس إفتراض تطابق أراء العقلاء يستبطن رأي الشارع لأنه من العقلاء بل رئيسهم ، فيثبت بهذه الملازمة أنَّ فاعل الظلم يستحق العقاب بنظر الشارع ، نعم لا يمكن إثبات أنَّ فاعل الظلم فعلَ حراماً شرعياً لعدم الملازمة بين الحكم العقلي والحكم الشرعي الصادر من الشارع بما هو شارع ، وأما الملازمة بين الحكم العقلي والحكم الصادر منه بما هو عاقل لا مانع منه كما تقدم .

وعليه يمكن أن نقول أن الشارع كبقية العقلاء يرى أنَّ الظلم قبيح وأنَّ فاعله يستحق العقاب ، وهذا باب واسع ينفعنا في كثير من الأبواب ، مثلاً في مسألة الضد إذا كان هناك مانعٌ يمنع من ثبوت الحكم الشرعي فيمكن تطبيق هذا لإثبات أنَّ هذا الفعل _ وهو الضد الخاص الذي لا يمكن إثبات الحرمة فيه شرعاً _ فاعله يستحق العقاب شرعاً ، الفعل ليس حراماً لكن فاعله يستحق العقاب .

هل الأمر بالشيء يقتضي النهي عن ضده ؟ قالوا لا يقتضي النهي عن ضده ، الأمر بالصلاة لا يقتضي النهي عن الضد الخاص للصلاة ، فالضد الخاص ليس منهياً عنه شرعاً ، ليس حراماً شرعاً ، ولكن يمكن القول أنَّ فِعل الضد الخاص فيه معصية لأنه يستلزم ترك الواجب ، والمعصية قبيحة كقبح الظلم بل هي نوع من الظلم فيستحق فاعلها العقاب .

إذن أمكن أن نثبت أنَّ فاعل الضد الخاص _ الذي منع مانع من إثبات الحرمة له _ يستحق العقاب شرعاً ، وبذلك نصل إلى نفس النتيجة التي نصل إليها على تقدير الحرمة بلحاظ الجزاء ، فكما أنَّ الضد الخاص لو كان حراماً ففاعله يستحق العقاب فكذلك نصل الى نفس النتيجة بناءً على الملازمة التي يدعيها المحقق الأصفهاني .

وهكذا في مسألة مقدمة الواجب فلو أنكروا في البحث الأصولي وجوبها الشرعي ، لكن لا إشكال في حكم العقل بلابديتها وحسنها لتوقف الواجب عليها ، العقل يدرك حسن الإتيان بها فالشارع أيضاً يدرك ذلك وهو يعني إنه يدرك إستحقاق فاعلها للمدح والثواب ، فإذا عجزنا عن إثبات الوجوب الشرعي للمقدمة لكن أثبتنا أنَّ فاعلها يستحق الثواب لا المدح فقط ، وبذلك نصل الى نفس النتيجة التي نصل إليها إذا إفترضنا الوجوب الشرعي بلحاظ الجزاء الأخروي الشرعي .

والإعتراض على هذه الملازمة التي أثبتها المحقق الأصفهاني ، بمعنى هل أنَّ كل ما تطابقت عليه أراء العقلاء في باب الحسن والقبح فالشارع يوافقهم بما هو عاقل ؟ فإذا تطابقت أراءهم على قبح الظلم فالشارع يوافقهم ويرى ذلك ، وهكذا في سائر موارد التحسين والتقبيح العقليين التي هي صُغريات لمسألة قُبح الظلم وحسن العدل ، والإعتراض يقول :

أنَّ هذا الحكم العقلي الذي فرضناه _ بناءً على مسلك الفلاسفة _ هو الحكم العقلي الذي تطابقت عليه أراء العقلاء ، وهذا الحكم يكون تابعاً غالباً للمصالح والمفاسد النوعية الراجعة الى حفظ النظام بمعنى أنَّ العقلاء يرون أنَّ حفظ المصالح النوعية العامة ودفع المفاسد النوعية العامة يتوقف على جعل هذه التشريعات العقلائية ، على أن يبني العقلاء أنفسهم على حُسن العدل وقبح الظلم لأنّ بهما تحفظ المصالح النوعية العامة وبالتالي يحفظ النظام العام ، فيبني العقلاء على حُسن العدل بمعنى إستحقاق فاعله المدح والثواب وعلى قبح الظلم بمعنى إستحقاق فاعله الذم والعقاب ، لأجل الحفاظ على المصالح ودفع المفاسد النوعية العامة الذي بهما يُحفظ النظام وبدونهما يختل النظام ، هذا معنى تطابق أراء العقلاء على مبنى الفلاسفة ، فكل الأحكام العقلائية على هذا المسلك تنشأ من حفظ المصالح النوعية العامة ودفع المفاسد النوعية العامة ، أو قل تنشأ لأجل حفظ النظام العام.

والإعتراض يقول من الواضح أن الشارع خارج هذه الدائرة فلا معنى لأن نقول أنَّ الشارع يوافق العقلاء في ذلك فهو لا يحتاج الى البناء على شيء لكي يحفظ النظام أو يدفع المفسدة ، لا معنى لأن نقول أنَّ الشارع يتبع العقلاء في هذه الأحكام ، لأنَّ أحكام الشارع تتبع المصالح والمفاسد الواقعية في نفس الأمر ولا معنى لأن نقول أنها تتبع أراء العقلاء فيما يرونه مصلحة أو مفسدة ، ولا يوجد برهان واضح على لزوم تطابقهما بمعنى أنَّ ما يراه العقلاء فيه مصلحة نوعية لحفظ نظامهم يراه الشارع كذلك ، صحيح أن الشارع أحد العقلاء بل رئيس العقلاء ولكنه يتميز عن العقلاء بكونه رئيسهم وهذه ميزة له ، فقد يختلف معهم في الرؤية ولا يتطابق رأيه مع رأيهم ، وأيضاً الشارع محيط بواقع الأمور وما ينفع الإنسان ويعلم مصالحه النوعية ومفاسده النوعية لأنه خالق الإنسان ويعلم ما يُصلحه وما يضره ، ولا برهان على لزوم الموافقة ، فأحكام الشارع وتشريعاته وكل ما يصدر منه تابع للمصالح والمفاسد الواقعية ، وبناءً على هذا كيف يُستكف رأي الشارع من رأي العقلاء وبناءه من بناءهم ؟

وبعبارة أوضح : إنَّ هذه الأحكام العقلائية ترجع بحسب التحليل الى مسألة حُب الذات ودفع المفسدة وجلب المصلحة ، فكل عاقل يحب ذاته ويريد أن يدفع عن نفسه المفسدة ويجلب لها المصلحة ، ومن هذا المنطلق تبانى العقلاء على هذه الأحكام ، ومن الواضح أنَّ الشارع منزه عن هذا ولا معنى لصدور حكم منه من منطلق جلب المنفعة أو دفع المفسدة ، فالشارع وإن كان من العقلاء ولكنه يتميز عنهم في أنه قد لا يوافقهم فيما يرونه من الأحكام الراجعة الى مسألة دفع المفاسد العامة وجلب المنافع العامة التي بهما يُحفظ النظام العام ، فكونه رئيس العقلاء ميزة للشارع وكونه محيطاً بواقع الأشياء وحقيقتها ميزة أخرى له وهذه تكفي لنفي الملازمة ، فبالإمكان أن نتصور أنّ الشارع لا يوافق العقلاء في بعض ما يرونه وبالتالي لا ملازمة بين ما تطابقت عليه أراء العقلاء وبين الحكم الصادر من الشارع بما هو عاقل إذن هناك شيئان يمنعان من هذه الملازمة :

الأول : إنَّ مناشئ الأحكام العقلية لا يمكن تصورها بحق الشارع .

الثاني : إنَّ الشارع محيط بواقع الأشياء وحقيقتها ، فقد لا يوافقهم فيما يرونه.

بل يكفي في نفي الملازمة إحتمال إختلاف الشارع عن العقلاء في تشخيص ما يُحفظ به النظام ، وهو إحتمال قائم وموجود للخصوصيات التي تميز الشارع وهو معقول ثبوتاً ويوجب نفي الملازمة.

وبناءً على هذا الإعتراض _ إذا تم _ فكما لا توجد ملازمة بين الحكم العقلي وبين الحكم الصادر من الشارع بما هو شارع ، كذلك لا توجد ملازمة بين الحكم العقلي بالحسن والقبح وبين الحكم الشرعي به _ أي بالحسن والقبح _ الصادر من الشارع بما هو عاقل ، نعم قد يوافق العقلاء ولكن لا توجد ملازمة ، وبناءً عليه في موارد حكم العقل بحسن فعل أو قبح فعل آخر لا يمكننا أن نُثبت الوجوب والحرمة الشرعيين ، كما لا يمكن أن نثبت حُسن الفعل أو قبحه عند الشارع بمعنى إستحقاق فاعله الذم والعقاب أو المدح والثواب وإن بنى عليه العقلاء ، هذا هو الإعتراض الثاني على المحقق الأصفهاني.

والذي يمكن أن يقال في مقام الملاحظة على هذا الإعتراض أنَّ إحتمال تخطئة الشارع للعقلاء في أحكامهم العقلائية وإختلافه معهم غير وارد إنصافاً بالرغم من صحة ما ذكر في الإعتراض من أنَّ مناشئ تلك الأحكام لا تجري في حق الشارع ، وأنه محيط ومطلع على واقع الأشياء وحقائقها بخلاف العقلاء ، هذا كله صحيح إلا أنه لا يُنتج أنَّ الشارع يُخطئ العقلاء أو يختلف معهم في ما تطابقت عليه آراؤهم.

نعم الشيء الذي يمكن أن يُقال في المقام هو أنَّ الشارع قد يُضيف الى ما إتفقت عليه أراء العقلاء بعض الأمور التي نفترض أنَّ العقلاء لم يُدركوها لأنَّ الشارع مطلع بحقائق الأشياء وعالم ببواطن الأمور وحقائقها لأنه خالقها وعالم بما ينفعها وما يضرها ، فقد يختلف مع العقلاء ولكن لا يقول أنَّ هذا ليس طريقاً لجلب المصالح والمفاسد وإنما يقول هذا بحاجة الى تتميم وتنقيح فيضيف في تشريعاته ما يصلح به هذه الجهة ويسد به هذا النقص الموجود في الأحكام العقلائية .

والوجه في عدم إحتمال تخطئة الشارع للعقلاء في أحكامهم هو أنَّ الأحكام العقلائية واضحة ومحصورة في مسألة حسن العدل وقبح الظلم ، وهذا تارة منشأه حفظ النظام ودفع المفاسد العامة وأخرى يكون منشأه لمراعاة الأخلاق الفاضلة ، ولذا قلنا أنَّ الأحكام العقلائية لا تنشأ دائماً من مسألة حفظ النظام ، فقد يحكمون بحسن شيء مراعاة للأخلاق الفاضلة ويحكمون بقبح شيء مراعاة لذلك أيضاً هذه مناشئ للأحكام العقلائية ، ونحن نستبعد أن َّ الشارع يختلف مع العقلاء في هذه المناشئ ويخطئهم فيها ، لا نتصور أنَّ الشارع يختلف مع العقلاء في مسألة حُسن العدل وقبح الظلم حتى لو فرضنا أنه نشأ من مراعاة الأخلاق الفاضلة ، الإختلاف الوحيد المتصور هو أنه يضيف الى ما أدركه العقلاء بإعتباره محيطاً بواقع الأشياء وحقائقها ما يسد النقص الذي يراه الشارع موجوداً في أحكامهم ، وأما تخطئة العقلاء والإختلاف معهم فالإنصاف أنَّ هذا الإحتمال غير وارد.