42/08/02
الموضوع : التَّجرِّي / أدلة حرمة التَّجرِّي / مناقشة الإعتراض على الدليل الثاني
كان الكلام في الإعتراضات التي ذُكرت على المطلب الذي ذكرناه نقلاً عن المحقق الأصفهاني ، والإعتراض الأول وُجِّه الى ما ذكره من لزوم المحذور العقلي من جعل الحكم الشرعي في مورد الحكم العقل ، أو دعوى عدم إمكان جعل حكم شرعي في مورد حكم العقل ، وعلى هذا الأساس أنكر الملازمة بين الحكم العقلي وبين الحكم الشرعي ، بل ترقى وقال بإستحالة جعل الحكم الشرعي في مورد الحكم العقلي ، وإستدل على ذلك بإستحالة وجود داعيين مستقلين في الدعوة على فعل واحد ، وكان دليله هو أنّ التكليف الشرعي لا يضيف شيئاً جديداً غير ما أدركه العقل من حُسن هذا الفعل وقبح ذاك ، لأنّ إدراك العقل يعني إدراك الشارع أيضاً ، فإدراك العقل حسن العدل وقبح الظلم يعني _ بحسب ما ذكره المحقق الأصفهاني _ إدراكه إستحقاق الثواب على فعل العدل وإستحقاق العقاب على فعل الظلم ، فالشارع يرى إستحقاق العقاب على فعل الظلم وهذا كافٍ في دعوة المكلف للتحرك ، فإن المفروض أنّ المكلف يُدرك أنَّ الشرع أحد العقلاء ، ويُدرك أيضاً أن فاعل الظلم يستحق العقاب ، فيدرك أنَّ الشارع يرى أنَّ فاعل الظلم يستحق العقاب ، وهذا كافي لدعوته للتحرك ، وفرض أن الشارع يجعل التكليف لجعل الداعي في نفس المكلف غير معقول .
والإعتراض يرتبط بعدم إمكان جعل التكليف الشرعي في مورد حكم العقل ، ويقول يمكن رفع الإستحالة بأن نفترض أنّ ما يثبت بحكم الشارع الصادر منه بما هو عاقل غير ما يثبت بحكم الشارع الصادر منه بما هو شارع ، بأن يكون ما يثبت بالصادر من الشارع بما هو شارع أكثر مما يثبت بالصادر منه بما هو عاقل ، فترتفع الإستحالة ويرتفع محذور اللغوية لأنّ ما يثبت بالحكم الشرعي الصادر من الشارع بما هو شارع شيء إضافي ليس موجوداً من البداية حتى يُقال يلزم تحصيل الحاصل أو تلزم اللغوية أو يلزم إجتماع علتين مستقلتين متماثلتين في الداعوية على فعل واحد .
وفي المقام يمكن تصوّر ذلك بأن نُضيف عنصراً إضافياً وهو إطاعة أو معصيته المولى ، فإذا جعل الشارع تكليفاً شرعياً كحرمة الظلم فهذا ملاك آخر ، وإطاعة هذا التكليف فيها إستحقاق الثواب ومعصيته فيها إستحقاق العقاب ، فكأنه هناك ملاكان لإستحقاق العقاب ، الملاك الأول هو الملاك الثابت في نفس إدراك الحسن والقبح من قِبل كل العقلاء وبعنوان الفعل الأولي ، فالظلم بما هو ظلم يستحق الذم _ بمعنى يشمل إستحقاق العقاب كما فرض المحقق الأصفهاني _ هذا ملاك لإستحقاق العقاب ، فإذا جعل الشارع حرمة شرعية صادرة منه بما هو شارع يكون هناك ملاكاً آخر لإستحقاق العقاب وهو مخالفة المولى ، وهذا ملاك آخر يوجب إستحقاق العقاب ، فلا يكون الحكم الشرعي المجعول في مورد حكم العقل لغواً ، ولا يلزم منه تحصيل الحاصل ، لأنّه أوجد ملاكاً جديداً لإستحقاق العقاب ، وهذا الملاك يؤكد الملاك الثابت بقطع النظر عنه ، وهذا الملاك الثاني قد يكون محركاً للمكلف أو لبعض المكلفين الذي لا يتحركون عن الملاك الأول الثابت للفعل بعنوانه الأولي لكن عنوان طاعة المولى أو معصيته قد يكون محركاً لهم وهذا يكفي لدفع المحذور .
وبعبارة أخرى : كأنَّ المعترض يريد أن يقول بأنَّ الفعل يصبح حسناً وقبيحاً بعنوانين فيكون موجباً لإستحقاق العقاب بملاكين أحدهما الملاك الثابت له بعنوانه الأولي ، والثاني الملاك الثابت بعوانه الثانوي وهو إطاعة المولى ومعصيته ، فيمكن جعل التكليف المولوي في مورد حكم العقل بداعي إستكمال الداعوية وشمولها لجميع المكلفين وهو يكون عادة في مورد إهتمام الشارع بالفعل أو الترك _ كفعل العدل وترك الظلم _ إهتماماً شديداً أكثر مما يقتضيه الحكم العقلي بالحسن والقبح ، فيجعل الشارع الحكم حتى يضمن الداعوية لجميع المكلفين وعلى جميع التقادير ، فكأنَّ إدراك العقل للحسن والقبح له إقتضاء الداعوية لكن بدرجة معينة فإذا ورد التكليف الشرعي إستكمل هذه الداعوية ، وهذا معقول ومقبول ويرفع المحاذير المذكورة ، هذا هو الإعتراض الأول.
وهذا الإعتراض يكون مقبولاً جداً بناءً على الفرض الأول الذي لم يذهب إليه المحقق الأصفهاني ، وهو فرض أنَّ ما تطابقت عليه أراء العقلاء هو إستحقاق المدح والذم فقط ، فبناءً على هذا يصح الجعل التكليف الشرعي ويكون مقبولاّ ولا محذور فيه ، وفرقٌ بين الداعوية من مجرد إستحقاق المدح والذم والداعوية من إستحقاق الثواب والعقاب ، فإنّ التكليف الشرعي يترتب عليه إستحقاق الثواب والعقاب ، بينما الحكم العقلي لا يترتب عليه إلا إستحقاق المدح والذم دون الثواب والعقاب ، فيمكن أن يجعل الشارع التكليف الشرعي لضمان الداعوية لجميع المكلفين وعلى جميع التقادير ، فعلى هذا الفرض يكون الإعتراض مقبولاً ووارداً
لكن المحقق الأصفهاني لا يرى الفرض الأول ، ويرى الفرض الثاني وأنَّ ما تطابقت عليه آراء العقلاء هو حُسن العدل وقبح الظلم بمعنى إستحقاق المدح والذم الشامل لإستحقاق الثواب والعقاب.
وبعبارة أوضح أنَّ أراء العقلاء تطابقت على حُسن العدل بمعنى إستحقاق فاعله المدح والثواب وتطابقت على قبح الظلم بمعنى إستحقاق فاعله الذم والعقاب ، فعلى الفرض الثاني هل يرد هذا الإعتراض أو لا ؟
بالإمكان أن يقال أن هذا الإعتراض لا يرد على الفرض الثاني الذي بنى المحقق الأصفهاني كلامه عليه ، وذلك بإعتبار أنّه ذكر في مقدمة كلامه أنَّ التكليف الشرعي إنما يُجعل لخلق وجعل الداعي في نفس المكلف لغرض التحرك هذا أولاً ، وذكر ثانياً أنّ التكليف الشرعي لا يكون داعياً لجميع المكلفين وعلى جميع التقادير إلا بلحاظ ما يترتب على موافقته من الثواب وعلى مخالفته من العقاب ، وذَكرَ أيضاً الفرض الثاني وأختاره وهو أن ما تطابقت عليه أراء العقلاء هو إستحقاق المدح والثواب في فعل الأمر الحسن وإستحقاق الذم والعقاب في فعل الأمر القبيح ، هذه أمور إفترضها المحقق الأصفهاني ، وهذا معناه أنَّ الداعوية الموجودة في التكليف الشرعي موجودة بنفسها في إدراك العقل للحسن والقبح وبنفس الدرجة ، ولا تفاوت بينهما حتى يكون جعل التكليف الشرعي معقولاً بلحاظ هذا التفاوت وترتفع بذلك المحاذير السابقة ، لأن المفروض أنّ إستحقاق الثواب والعقاب الذي يكون محركاً لجميع المكلفين مما يدركه العقلاء بما فيهم الشارع ، فالشارع يرى أنَّ فعل الظلم موجباً لإستحقاق العقاب ، فغذا جاء التكليف الشرعي بحرمة الظلم فلا يزيد على ما هو موجود في إدراك العقلاء من إستحقاق فاعل الظلم العقاب ، فلو فرضنا أنَّ الشارع حكم بحرمة الظلم ، وحكم العقل بحُسن طاعة هذه التكليف وقبح معصيته ، وحُسن طاعة هذا التكليف معناه حُسن ترك الظلم ، وقبح معصية هذا التكليف معناه قبح فعل الظلم ، وحُسن ترك الظلم معناه إستحقاق الثواب على ترك الظلم ، وقبح معصية هذا التكليف يعني إستحقاق العقاب على فعل الظلم ، وهذا نفس ما أدركه العقلاء وتطابقت عليه أراءهم وليس شيئاً جديداً فلم يأتٍ التكليف الشرعي بشيء جديد بقطع النظر عنما أدركه العقلاء ، وما هو موجود بقطع النظر عنه هو أنَّ فاعل الظلم يستحق العقاب عند العقلاء بما فيهم الشارع ، فالشارع يرى أنَّ فاعل الظلم يستحق العقاب ، ففي هذا المورد يحكم الشارع بحرمة الظلم.
المحقق الأصفهاني يقول هذا محال ، والمعترض يقول ليس بمحال لأنً ما يترتب على حرمة الظلم هو شيء آخر غير ما هو موجود قبل ذلك ، والمجيب يقول لم يترتب على الحرمة الشرعية آخر ، لأن غاية ما يقال هو أنّ العقل يحكم بحسن إطاعة هذه الحرمة وقبح معصيتها ، وحكم العقل بقبح معصية هذه الحرمة يعني حكمه بقبح فعل الظلم ، فالعقل يحكم بقبح الظلم ، ومعنى قبح الظلم هو إستحقاق فاعل الظلم للعقاب ، وهذا ثابت بقطع النظر عن الحرمة ولم تَزٍد الحرمة شيئاً آخر ، فلا يكون هناك شيئاً إضافياً حتى يرفع المحاذير المتقدمة .
والحاصل : أنَّ الشارع على الفرض الثاني حَكَمَ بما هو عاقل بإستحقاق الثواب على فعل الحسن وإستحقاق العقاب على فعل القبيح فلا مجال لأن يحكم ثانياً بوجوب الأول _ كالعدل _ مولوياً وحرمة _ كالظلم _ الثاني كذلك لأنَّ داعوية هذا التكليف المولوي إنما هي بإعتبار حكم العقل بحسن إطاعة تكليف المولى وقبح معصيته وهو عبارة عن حكم العقل بإستحقاق الثواب على الطاعة وإستحقاق العقاب على المعصية ، فالداعوية بهذا الإعتبار ، ومن الواضح أنَّ هذه الداعوية موجودة بنفس الدرجة في الحكم العقلي المفروض ثبوته حتى عند الشارع نفسه بقطع النظر عن التكليف الشرعي ، ومن هنا يظهر أنَّ هذا الإعتراض لا يرد بناء على ما فرضه من الأمور المتقدمة .
ومنه يظهر أن مسألة تعدد الملاك وثبوت ملاكين في الفعل إذا تعلق به التكليف الشرعي الصادر من الشارع بما هو شارع فيها نظر أيضاً ، وذلك بإعتبار أنَّ الملاك الثاني الثابت للفعل بعنوان إطاعة المولى ومعصيته هو نفس الملاك الأول الثابت له بعنوانه الأولي بلحاظ الداعوية والتحريك لا غير ، كما تقدم بيانه .
ومن هنا يظهر أنَّ هذا الإعتراض لا يرد على المحقق الأصفهاني بناءً على مبانيه ، وكأنه إلى هنا نصل الى هذه النتيجة:
إن ما ذكره المحقق الأصفهاني من إنكار الملازمة بين الحكم العقلي والحكم الشرعي بإعتبار إستحالة جعل التكليف المولوي في مورد حكم العقل _ إما بإعتبار البرهان الذي ذكره وإما برهان اللغوية وتحصيل الحاصل _ هو الصحيح .
ملاحظة أخرى على الإعتراض :
لو تنزلنا وسلمنا ما ذكره المعترض من أن التكليف الشرعي يترتب عليه شيء غير ما هو موجود بقطع النظر عنه ، وترتفع بذلك المحاذير المتقدمة ، نقول :
أنَّ الذي يثبت هو أنه لا يستحيل جعل التكليف الشرعي في مورد الحكم العقلي ، فلا يلزم إجتماع علتين متماثلتين مستقلتين على فعل واحد ، ولا تلزم اللغوية وعدم الفائدة ، ولا يلزم تحصيل الحاصل ، إلا أن الإمكان لا يعني الملازمة التي يدعيها الطرف المقابل بين ما حكم به العقل وما حكم به الشارع ، فإذا حكم العقل بحسن شيء فلابد أن يحكم الشارع بوجوبه وإذا حكم العقل بقبح شيء لابد أن يحكم الشارع بحرمته ، فهذه الملازمة لا تثبت بمجرد إثبات إمكان أن يجعل الشارع حكماً شرعياً في مورد حكم العقل ، وفرق بين أن نقول لابد من جعل الحكم الشرعي في مورد حكم العقل _ وهو معنى الملازمة _ وبين أن نقول أن جعل الشارع الحكم الشرعي في مورد الحكم العقلي غير مستحيل ، فالذي يثبت بما ذكره المعترض عدم الإستحالة والإمكان وهذا لا يعني الملازمة ، فمن أين تثبت الملازمة ؟!
وبعبارة أخرى : لا دليل عقلي على لزوم أن يجعل الشارع حكماً تكليفياً مولوياً في مورد حكم العقل ، فيمكن أن يترك الشارع الناس وعقولهم في بعض الموارد التي لا يهتم بها إهتماماً شديداً جداً.
نعم مخالفة الشارع لما تطابقت عليه آراء العقلاء ممنوعة ، وقد ذهب المحقق الأصفهاني الى عدم إمكان مخالفة الشارع لما تطابقت عليه أراء العقلاء لأنّ المفروض أنه منهم يحكم بما يحكمون فكيف يخالفهم ، هذا خلف.
أما لزوم أن يحكم الشارع بما يحكم به العقلاء فلم يذكر القائل بالملازمة برهاناً عليه.