42/07/24
الموضوع:: التَّجرِّي / أدلة حرمة التَّجرِّي / الدليل الأول / ردود ومناقشات
قلنا أنَّ المقدمة الثانية أجاب عنها المحقق النائيني بما حاصله :
إنَّ الإرادة التشريعية _ بمعنى التكليف الشرعي _ لابد أن تتعلق بالفعل الخارجي وهو شرب الخمر الواقعي ، والسر فيه هو أننا نؤمن بأنَّ الأحكام تابعة للمصالح والمفاسد في الأفعال ، فلابد أن يتعلق التكليف بها ، والذي فيه الملاك والمفسدة هو شرب الخمر الواقعي لا شرب ما يقطع المكلف بكونه خمراً وإن لم يكن خمراً في الواقع ، هذا ليس هو مَحَطُّ المفسدة والملاك بل هو الفعل والواقع الخارجي فلابد أن يتعلق التكليف به ، ومعه لا يتم الدليل ولا يَعُمُّ حالة التجري لأنه ليس شرباً للخمر الواقعي فلا يكون حراماً.
السيد الشهيد كأنه إعترض على الدليل الذي ذكره المحقق النائيني ، وذكر أنَّ المستدل يؤمن بتبعية الأحكام للمصالح والمفاسد ، بل أن ظواهر الأدلة هو ذلك ، لكن يقول إنَّ المستدل يدعي وجود إشكال في الأخذ بظاهر الأدلة وهو لزوم التكليف بغير المقدور كما مرَّ بيانه ، فلابد من رفع اليد عن ظواهر الأدلة وعن قاعدة تبعية الأحكام للمصالح والمفاسد ، وذلك بأن نلتزم بأنَّ التكليف يتعلق يما يعتقده المكلف شرب خمرٍ وإن لم يكن خمراً في الواقع .
وفيه : أنَّ هذا الإعتراض _ الذي ذكره السيد الشهيد _ ناظرٌ الى التقريب الأول للإستدلال كما هو واضح ، لأن التقريب الأول يقول أن تعلق التكليف بشرب الخمر الواقعي يستلزم التكليف بالإصابة وهو تكليف بغير المقدور ، وأما بناءً على التقريب الثاني فلا يرد هذا الإعتراض لأنه لا يبتني على التكليف بغير المقدور أصلاً ، فإنه يقول إنَّ الإرادة التكوينية للمكلف تتعلق بالفعل المقطوع به _ أي يقطع المكلف بكونه شرب خمرٍ _ والإرادة التشريعية تتعلق بالإرادة التكوينية للمكلف ، فإذن الإرادة التشريعية تتعلق بأن يُريد المكلف شِرب مقطوع الخمرية ، والتكليف ينهاه عن أن يُريد شرب مقطوع الخمرية ، وهذا أعم من المعصية والتجري ، ففي كلتا الحالتين يشرب المكلف مقطوع الخمرية ، وإن لم يكن خمراً في الواقع كما في التجري ، هذا هو التقريب الثاني ولا علاقة له بمسألة التكليف بغير المقدور ، فإعتراض السيد الشهيد غير وارد هنا ، وأما جواب المحقق النائيني عن المقدمة الثانية فكان ناظراً الى التقريب الثاني وبلحاظه قال سَلَّمنا أنَّ الإرادة التشريعية للمولى متعلقة بالإرادة التكوينية للعبد ولكنها متعلقة بها بما هي معنى حرفي وطريق للمراد وفانية فيه ، فالإرادة التشريعية تتعلق بالمراد وهو شرب الخمر الواقعي ، والدليل على هذا هو مسألة تبعية الأحكام للمصالح والمفاسد ، ولا مانع حينئذٍ من الأخذ بظواهر أدلة الأحكام الأولية الظاهرة في أنها تتعلق بالواقع ، وأيضاً لا مانع من الإلتزام بقاعدة تبعية الأحكام للمصالح والمفاسد ، ولا يلزم من ذلك أي محذور ، لأنّ هذا التقريب لا يبتني على ما يلزم منه التكليف بغير المقدور حتى يُقال أنه محذور ، ولابد من رفع اليد عن القاعدة ، لا ، القاعدة مُسَلَّمة عند الجميع وهي تدل على أنَّ التكليف متعلق بالواقع.
الى هنا يتبين أنَّ التقريب الثاني للإستدلال ليس تام بكلتا مقدمتيه الأولى والثانية .
والسيد الخوئي إجاب عن الدليل الأول بالنقض وبالحل _ وهو ناظر أيضاً الى التقريب الثاني للإستدلال _ وبيانه:
أما النقض فحاصل ما ذكره هو أنَّ الدليل المذكور _ أنَّ التكليف يتعلق بالمقطوع به لا بالواقع _ لا يختص بالمحرمات بل يجري حتى في الواجبات ، مثلاً في خطاب صلِ في الوقت يقال أيضاً الواجب هو ما يقطع المكلف بكونه صلاةً في الوقت ، على غرار أن الحرام هو ما يقطع المكلف بكونه شرب خمر ، فالواجب شرعاً هو ما يقطع المكلف بكونه صلاةً في الوقت ، فإذا قطعَ بدخول الوقت وصلى فهو يقطع بأنَّ هذه صلاة في الوقت فإذا تبين فيما بعد أنَّ الوقت لم يدخل وصلاته وقعت قبل الوقت ، فبناء على ما ذكروا لابد أن يُلتزم بصحة الصلاة وعدم وجوب الإعادة لأنه جاء بالمأمور به الواقعي ، لأنَّ الواجب هو الصلاة التي يقطع بكونها صلاةً في الوقت ، وقد جاء به ولازمه سقوط التكليف وعدم وجوب الإعادة ، وهذا ما لم يلتزم به أحد ، هذا هو النقض ، وهو لزوم الإجزاء في الواجبات.
وأما الحل فهو نفس ما ذكره المحقق النائيني في الجواب عن المقدمة الثانية ، وهو أننا نلتزم بتبعية الأحكام للمصالح والمفاسد في متعلقاتها ، ومن الواضح أنها موجودة في الواقع ، فلابد أن يتعلق التكليف بشرب الخمر الواقعي لا بما يقطع بكونه خمراً ، وإذا تعلق التكليف بالواقع بَطَلَ الدليل لأنه حينئذٍ يختص بالمعصية ولا يشمل حالة التجري ، هذا هو الجواب الحلِّي.
أما ما ذكره السيد الخوئي بالنسبة الى الجواب الحلي فتام ، فالمصالح والمفاسد متعلقة بالواقع وهو في المثال شرب الخمر الواقعي ، وأما ما شربه المكلف في حالة التجري _ وهو الماء مثلاً _ فليس فيه مفسدة.
وأما الجواب النقضي فأجاب عنه السيد الشهيد بما يمكن توضيحه بهذا الشكل :
ذَكرَ أنَّ الواجبات بلحاظ الوقت تارة تكون مضيقة وأخرى تكون موسعة ، المضيقة مثل صوم شهر رمضان الممتد من أول يوم منه الى آخر يوم ، والموسعة مثل الصلاة فلها وقت ممتد يمكن إيقاع الصلاة في أوقاتها الممتدة ، وهذا واضح.
أجاب عن النقض في الواجبات المضيقة كما إذا إعتقد المكلف دخول شهر رمضان يوم الأحد فصامَ ، ثم تبين الخلاف وأنَّ أوَلَّه الإثنين ، وقال لا معنى للقول بسقوط التكليف وعدم لزوم الإعادة في الواجبات المضيقة فإنَّ الواجب هو صوم شهر رمضان وهو واجب واحد من أول الشهر الى آخره ، ولا معنى للقول بسقوط التكليف لأنَّه جاء به يوم الأحد .
نعم بناءً على هذا الدليل يجب عليه أن يصوم يوم الأحد لأن الواجب هو ما يقطع بكونه صوماً واقعاً في شهر رمضان ، وهو يقطع بأنَّ شهر رمضان في يوم الأحد فيجب عليه الصوم ، وإذا لم يأتٍ به إستحق العقاب لأنه خالف الواجب الواقعي ، لكن هذا لا يعني إذا تبين الخلاف يسقط عنه التكليف ولا تجب الإعادة ، بل يجب عليه أن يصوم يوم الإثنين فصاعداً لأن صومه يوم الأحد لا يُحقق المأمور به حتى نقول بسقوط التكليف عنه كما في الصلاة بإعتقاد دخول الوقت لأنه يحقق المأمور به _ الصلاة التي يقطع بكونها في الوقت _ ، أما في مثال صوم شهر رمضان فلا معنى للقول بأن صومه يوم الأحد يُحقق المأمور به لأنّ المأمور به هو الصوم من أول الشهر الى آخره ، وصومه يوم الأحد لا يحقق المأمور به أصلاً حتى يقال بسقوط التكليف وعدم لزوم الإعادة ، هذا في الواجبات المضيقة.
وأما في الواجبات الموسعة كما في مثال الصلاة المتقدم ، فالسيد الخوئي يقول بمقتضى هذا الدليل ينبغي ان يُلتزم بسقوط التكليف وعدم لزوم الإعادة لو صلّى قبل الوقت معتقداً دخوله ثم تبين الخلاف ، وهذا ما لا يمكن الإلتزام به ، وهنا يقول السيد الشهيد إنَّ صاحب هذا الدليل إنما يلتزم بعدم وجوب الإعادة وسقوط التكليف في هذا المورد لنكتة لابد من توضيحها :
قلنا سابقاً الظهور الأولي للأدلة هو تعلق التكاليف بالواقع والجميع يُسلِّمه ، بشرب الخمر الواقعي ، بالصلاة في الوقت الواقعي .. وهكذا ، غاية الأمر أنَّ المستدل يقول هناك مانع يمنعنا من الأخذ بهذا الظهور وهو لزوم التكليف بغير المقدور وهو الذي أدى الى القول بأن التكاليف تتعلق بما يقطع به المكلف.
والسيد الشهيد يقول انَّ هذا المانع في مثال الصلاة في الوقت ، فإنا لو إلتزمنا بتعلق التكليف بالواقع ، والتزمنا أنه يستبطن فرض الإصابة ، وأن الإصابة غير مقدورة للمكلف ، ولكن هل معنى ذلك تعلق التكليف بغير المقدور حتى يكون محالاً ؟
لا ، لأنّ المفروض أنَّ الواجب موسع ،بمعنى أنَّ المكلف يمكنه أن يأتي بالواجب في الوقت الأول أو الثاني أو الثالث الى آخر الوقت ، إذن المكلف بإمكانه أن يأتي بالمأمور به الواقعي ، أي يصلي صلاةً في الوقت الواقعي ، وذلك بأن يؤخر صلاته عن أول الوقت ثم يصلي في الوقت الواقعي ، إذن هو قادر على الإتيان بالصلاة في الوقت الواقعي .
وبعبارة أخرى إنَّ الإصابة للواقع _ التي قيل أنها خارجة عن قدرة المكلف _ تكون مقدورة للمكلف في هذا المثال ، وذلك بأن يؤخر صلاته الى وسط الوقت فتكون صلاته في الوقت الواقعي ، فالإصابة للواقع مقدورة للمكلف ، ولا يصح القول هنا أن التكليف بالواقع يستبطن إصابة الواقع وهي غير مقدورة للمكلف فيلزم التكليف بغير المقدور ، بل هذا تكليف بالمقدور ، ولا مانع حينئذٍ من الأخذ بظواهر الأدلة ، وظهور الدليل هو تعلُّق التكليف بالواقع لا بما يقطع المكلف أنه الواقع ، فلا يلزم النقض على المستدل ، لأن الإصابة في هذا المثال مقدورة وإنما يلتزم بعدم الأخذ بظاهر الدليل مع وجود المانع كما في مثال شرب الخمر فإنَّ الإصابة غير مقدورة للمكلف ، فلابد أن تتعلق الحرمة بشرب مقطوع الخمرية لا بشرب الخمر الواقعي ، ولا يصح النقض عليه بالصلاة التي وقتها موسع والإصابة فيها مقدورة ، فالنقض غير صحيح ، هذا جواب السيد الشهيد عن النقض الذي ذكره السيد الخوئي.
وفيه : إنَّ الجواب الذي ذكره السيد الشهيد مبني على التقريب الأول للإستدلال _ لزوم التكليف بغير المقدور _ كما هو واضح ، وكلامه كله مرتكز على التقريب الأول ، لكن الظاهر أنَّ كلام السيد الخوئي ناظر الى تقريب الثاني ، وعليه لا يرد جواب السيد الشهيد لأن التكليف بغير المقدور غير مطروح في التقريب الثاني.
والتقريب الثاني يقول أنَّ الإرادة التشريعية تتعلق بالإرادة التكوينية للمكلف والإرادة التكوينية تتعلق بما يقطع بكونه شرب خمر ، ونَقضَ عليه السيد الخوئي بمثال الصلاة فإن الإرادة التشريعية تتعلق بإرادة المكلف التكوينية وإرادته تتعلق بالصلاة التي يقطع بكونها في الوقت الواقعي للصلاة ، وما لم يقطع بكونها في الوقت فلا يأتي بها ، فهو يُريد الصلاة التي يقطع بكونها في داخل الوقت ، والإرادة التشريعية تتعلق بالإرادة التكوينية للمكلف المتعلقة بما يقطع بكونه صلاة في الوقت ، وهذا يشمل العصيان والتجري ، هذا هو الإستدلال ، والسيد الخوئي يقول هذا النمط من الإستدلال يجري حتى في مسألة الصلاة في الوقت بأن نقول أنَّ الإرادة التشريعية تتعلق بالإرادة التكوينية وهذه تتعلق بالصلاة التي يقطع المكلف بكونها في الوقت ، فإذا قلنا بذلك لزم القول بعدم وجوب الإعادة لو صلى بإعتقاد دخول الوقت ثم تبين الخلاف لأنه حينئذٍ قد جاء بالمأمور به الواقعي.
ولا يصح أن يجاب عنه بأنَّ الإصابة هنا مقدورة الى آخر ما ذكره السيد الشهيد ، لأن هذا الكلام يجري في التقريب الأول لا في التقريب الثاني.