الأستاذ الشيخ هادي آل راضي

بحث الأصول

42/07/23

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع: التَّجرِّي / أدلة حرمة التَّجرِّي / الدليل الأول

إعادة وتوضيح جواب المحقق النائيني المتقدم :

المقصود بهذا الجواب هو أنَّ مجرد أن يكون العلم بأنَّ هذا شربُ خمرٍ ، وأنه المحرك نحو شربه ،كما أنَّ العطشان يعلم أن هذا شِرب ماءٍ وهو الذي يحركه نحو شربه ، لا يعني بالضرورة أن يكون مأخوذاً في متعلق الإرادة التكوينية للمكلف ، بمعنى أنَّ الإرادة التكوينية للمكلف تتعلق بالفعل المعلوم والمقطوع به كما يقول الـمُستدِل حتى يَخلُص الى شمول الخطاب لكلٍ من المعصية والتجري ، نقول هذا لا يعني أنَّ العلم يكون مأخوذاً في متعلق الإرادة ، بل العلم بأنَّ هذا شِربُ خمرٍ يكون بمثابة الداعي لتحرك المكلف نحو الفعل ليس إلا ، كما هو الحال في سائر الأمثلة العلم بأنَّ هذا عدو يكون داعياً لضربه أو قتله ، والعلم بأنَّ هذا صديقٌ يكون داعياً لإكرامه وإحترامه ، فالعلم في سائر الموارد يكون بمثابة الدواعي للإرادة للتحرك ، والقاعدة في الداعي أن يكون متقدماً بوجوده العلمي على الإرادة ومتأخراً عنها في الوجود الخارجي لأنه يترتب على الإتيان بالفعل ، فكون هذا شِربُ خمرٍ يكون داعياً لإرادة شرب الخمر والتحرك نحو ذلك.

وبناءً على هذا نقول يستحيل أن يكون هذا الداعي مأخوذاً قيداً في متعلق الإرادة ، بحيث تتعلق الإرادة به أي تتعلق بالفعل المعلوم ، بالفعل المقطوع ، به لأن المفروض أنَّ العلم يكون داعياً للإرادة ، والداعي متقدم بوجوده العلمي على الإرادة ، المتقدمة _ أي الإرادة _ على متعلقها ، فكيف يُعقل أن يُؤخذ ما فُرضَ متقدماً على الإرادة قيداً في متعلق الإرادة ! لا يعقل أن يكون قيداً في المراد ، مع أنَّ المفروض تقدمه بوجوده العلمي على الإرادة لأنه داعي لها والداعي بمثابة العلة للإرادة ، فالمكلف يريد شرب هذا المائع لأنه يعلم بأنه شربُ خمرٍ فهو يريده بإرادة تكوينية فيتحرك نحو شربه فيكون العلم بأنَّ هذا شرب خمر بمثابة الداعي ، والداعي بوجوده العلمي متقدم على الإرادة فلا يعقل أن يكون مأخوذاً في متعلق الإرادة ، والإرادة متقدمة على مُتعلّقها ، نعم يترتب على تحقيق المراد في الخارج صِدق شرب الخمر.

وعلى كل حال العلم بأنَّ هذا شرب خمر لا يؤخذ في متعلق الإرادة لأنّ العلم متقدم بوجوده العلمي على الإرادة المتقدمة على متعلقها بطبيعة الحال .

وبناءً على ذلك يقال : حتى إذا فرضنا أنَّ العلم هو تمام الموضوع للإرادة وأنه هو المحرك ولكنه لا يعني بالضرورة أن يؤخذ العلم في متعلق الإرادة بحيث يكون متعلق الإرادة التكوينية للمكلف هو شرب معلوم الخمرية ، لا ، هذا العلم يكون داعياً لإرادة المكلف شرب الخمر الواقعي.

وهذا هو الجواب الصحيح عن هذه المقدمة الأولى _ التي تقول أنَّ الإرادة التكوينية للمكلف لا تتعلق بشرب الخمر الواقعي وإنما تتعلق بشرب الخمر المعلوم ، لأنّ المكلف لا يريد ولا يتحرك عن الوجود الواقعي للخمر بل عن الوجود العلمي له وهو الذي يجعله مريداً للشرب ويحركه نحوه _ للتقريب الثاني.

أما المقدمة الثانية التي تقول أنَّ التكليف الشرعي _ الإرادة التشريعية _ يتعلق بإرادة المكلف التكوينية ، لأن َّ الغرض من التكاليف الشرعية هو إيجاد الداعي عند المكلف للإتيان بالفعل عن إرادة وإختيار ، فالمولى يريد من العبد أن يُريد ويختار هذا الفعل ، لا يريد المولى أن يصدر الفعل من العبد بالقهر والإضطرار ، بل يريد أن يصدر منه الفعل إختياراً وبإرادته التكوينية ، وهذا معنى أنَّ الإرادة التشريعية تتعلق بالإرادة التكوينية للعبد ، هذه المقدمة الثانية.

فإذا فرضنا _ في المقدمة الأولى _ أن إرادة المكلف التكوينية تتعلق بشرب معلوم الخمرية فبطيعة الحال ستتعلق الإرادة التشريعية بشرب معلوم الخمرية ، ويثبت المطلوب ، وهو أنَّ هذا التكليف يشمل المتجري والعاصي لأنه يتعلق بشرب بمعلوم الخمرية وهو موجود في التجري كما هو في العصيان.

وهذه المقدمة أجاب عنها المحقق النائيني أيضاً بأنَّ الإرادة التشريعية للمولى وإن كانت هي المحركة لإرادة العبد التكوينية _فالعبد يُصلي لأنَّ الشارع أمره بالصلاة ، ولا يشرب الخمر لأنَّ الشارع نهاه عن شرب الخمر ، فالإرادة التشريعية هي المحركة للإرادة التكوينية للعبد هذا صحيح _ لكن ليس معنى ذلك أنَّ الإرادة التشريعية للمولى تتعلق بالإرادة التكوينية للعبد كمفهوم الإسمي وإنما تتعلق بها بما هي معنى حرفياً يكون الغرض منها التَّطرُّق الى الـمُراد ، فالإرادة التشريعية تتعلق في الحقيقة بالمراد لا بإرادة المكلف للمراد ، فإرادة المكلف تؤخذ طريقاً للمراد ، الإرادة بما هي فانية في المراد هي متعلق الإرادة التشريعية ، وهذا معنى تعلقها بها بنحو المعنى الحرفي ، فتمام المنظور هو المراد ، والإرادة كعنوان ومفهوم يؤخذ طريقاً للمراد فتلحظ الإرادة ولكن كطريق ومعنى حرفي والمهم هو المراد وبه تتعلق الإرادة التشريعية ، فما يُريده الشارع هو الفعل الخارجي ، وما ينهى عنه الشارع في هذا الخطاب هو شرب الخمر الواقعي الخارجي ولكن يريد أن يصدر من المكلف بإرادة وإختيار.

فإذا كانت الإرادة التشريعية تتعلق بالمراد فحينئذٍ يقال :

أنَّ المراد هو الفعل الخارجي الصادر بإرادة المكلف وإختياره ، ومن الواضح أنَّ هذا لا يعني أنَّ التكاليف الشرعية متعلقة بالفعل المعلوم والمقطوع _ كمقطوع الخمرية _ وإنما تتعلق بشرب الخمر الواقعي الصادر عن إرادة ، وهذا يختص بصورة الإصابة كما هو واضح ، ولا يشمل التّجري لأنه لا يوجد فيه خمر واقعي حتى يكون متعلقاً للتكيف ويُقال أنه حرام ، فيكون الحرام هو شرب الخمر الواقعي .

ويتلخص الجواب في دعوى أنَّ الإرادة التشريعية وإن كانت هي المحركة لإرادة العبد التكوينية للتحرك نحو الفعل لكن هذا لا يعني أنها تتعلق بها كمعنى إسمي وإنما تتعلق بها كمعنى حرفي ، بمعنى أنَّ الإرادة تُلحظُ بما هي فانية في المراد عندما تتعلق بها الإرادة التشريعية ، وهذا يعني أنَّ تمام المنظور في الإرادة التشريعية هو تَعَلُّقها بالمراد الواقعي الخارجي الصادر عن إرادة من العبد لا مقهوراً عليه ولا مضطراً إليه.

قد يقال ما هو الدليل على ما ذكره المحقق النائيني ؟

والجواب هو أنَّ القاعدة المسلمة عندهم هي أنَّ الأحكام تابعة للمصالح والمفاسد في الأفعال ، بمعنى أنَّ المصالح والمفاسد التي يكون التكليف تابعاً لها موجودةً في الفعل الخارجي _ في شرب الخمر الواقعي _ ، ولا معنى لأن نقول أنَّ المفسدة تتعلق بإرادة المكلف لأنَّ الإرادة خارجة عن المصالح والمفاسد المقصودة في هذه الأحكام ، فإنَّ المفسدة المقصودة هي مفسدة شرب الخمر الواقعي والحكم تابع للملاك ، للمصالح والمفاسد وهي موجودة في الأفعال ، فلابد من أن تتعلق الأحكام بالأفعال لا بالإرادة ، هذا هو الدليل على أنَّ الإرادة التشريعية متعلقة بالفعل الصادر عن إرادة من قِبل المكلف وهو يختص بالعصيان ولا يشمل حالة التجري .

هذا هو جواب المحقق النائيني عن المقدمة الثانية ، إذن لا المقدمة الأولى ثابتة ولا الثانية ثابتة ، لا نُسلِّم أنَّ الإرادة التكوينية للعبد تتعلق بمقطوع الخمرية وإنما تتعلق إرادته بشرب الخمر الواقعي ، والعلم بأنَّ هذا خمر هو بمثابة الداعي كما تقدم ، هذا أولاً .

وثانياً أن الإرادة التشريعية لا تتعلق بالإرادة التكوينية للمكلف وإنما تتعلق بالمراد ، فالإرادة تؤخذ بما هي طريق ومعني حرفي يُتطرَّق منها الى المراد وهو الفعل الواقعي الخارجي بدليل أنَّ الأحكام تابعة للمصالح والمفاسد ، ومن الواضح أنَّ المصالح والمفاسد موجودة في الأفعال لا في إرادة المكلف ، فلابد أن يتعلق الحكم بالفعل الواقعي _ بشرب الخمر الواقعي _ فهو الحرام لأن فيه المفسدة.

وأعترض السيد الشهيد على الإستدلال بقاعدة تبعية الأحكام للمصالح والمفاسد لإثبات أنَّ الإرادة التشريعية تتعلق بالمراد لا بالإرادة ، بما حاصله :

أنَّ الـمُستدِل يعترف بتبعية الأحكام للمصالح والمفاسد وأنَّ مقتضى ذلك هو تعلق الحكم بشرب الخمر الواقعي ، بل تقدم أنَّ هذا هو الموافق لظواهر الأدلة ، لكنه يقول هناك مشكلة من الإلتزام بظواهر هذه الأدلة ، وهي ما ذُكر في التقريب الأول من لزوم التكليف بغير المقدور ، لأنّ كون هذا شربٌ للخمر الواقعي يستبطن إفتراض الإصابة للواقع وهي خارجة عن إختيار الإنسان ، فكيف يتعلق التكليف بشرب الخمر الواقعي المستبطن إفتراض الإصابة للواقع وهي خارجة عن الإختيار الذي يلزم منه التكليف بغير المقدور ؟!

وهذا هو الذي أدى بهم الى رفع اليد عن ظواهر الأدلة والمصير الى أنَّ الحرمة تتعلق بشرب مقطوع الخمرية _ لا الخمر الواقعي _ لأنه لا يستبطن إفتراض الإصابة ، ويشمل حينئذٍ التجري .

وهذا المحذور أيضاً ألزمهم أن يرفعوا اليد عن قاعدة تبعية الأحكام للمصالح والمفاسد ، لأنَّ تَعلّق التكليف بشرب الخمر الواقعي يستلزم التكليف بغير المقدور ، فيرفعون اليد عن القاعدة تخصيصاً مثلاً .

فالطرف المقابل يُسلِّم القاعدة ، ولا معنى لأن نستدل على صحة تعلق الإرادة التشريعية بالمراد لا بالإرادة بالقاعدة المذكورة .

وتأتي الملاحظة عليه .