42/07/22
الموضوع:التَّجرِّي / أدلة حرمة التَّجرِّي / الدليل الأول
كان الكلام في الدليل الأول على حرمة التَجرّي شرعاً ، وكان حاصله التمسك بإطلاق أدلة الخطابات الأولية بدعوى أنَّه يشمل حالتي الإصابة وعدمها _ المعصية والتجري _ وأنَّ مثل خطاب لا تشرب الخمر لا يُراد به لا تشرب الخمر الواقعي ، وإنما المراد لا تشرب مقطوع الخمرية ، وهذا كما يشمل حالة الإصابة يشمل حالة عدم الإصابة وهو التَجرّي ، وقلنا إن لهذا الدليل تقريبان ذكرنا الأول مع جوابه.
التقريب الثاني : ما نُقل عن المحقق النائيني ، وهو يتركب من مقدمتين :
المقدمة الأولى : انَّ أرادة المكلف للفعل _ كالشرب _ التي تتعلق بموضوع خارجي _ وهو الخمر في المثال _ إنما تتعلق بهذا الفعل بعد علمه بأنه شِربُ خمرٍ ، بحيث يكون تمام المؤثر في حركة المكلف نحو الفعل هو علمه بأنه شِربُ خمرٍ ،كما أنَّ تمام المؤثر في حركة العبد نحو شرب الماء عند عطشه هو علمه أنه شرب ماءٍ ، فهو يتحرك نحو الفعل وهو الشرب الذي يتعلق بموضوعٍ خارجي وهو الماء تتعلق به إرادته التكوينية بعد علمه بأنه شرب ماء ، بحيث يكون تمام المحرك للعبد بأنَّ هذا شرب ماء .
وفي محل كلامنا تمام المحرك للمكلف هو علمه بأنَّه شرب خمر ، وأما كون هذا الشيء خمراً واقعاً أو ماءً واقعاً فليس له دخل في إرادة المكلف ، بل يستحيل أن تكون إرادة المكلف للفعل منبعثة عن الوجود الواقعي ، ولابد أن تكون منبعثة عن الوجود العلمي ، فإرادة العطشان لشرب الماء لا تنبعث عن الوجود الواقعي للماء بل تنبعث عن الوجود العلمي للماء ، وهذا يعني أنَّ علم المكلف بأنَّ هذا ماء هو تمام المحرك له الشرب والواقع ليس له دخل في هذه الإرادة ، الدخيل في إرادة المكلف التكوينية هو علمه بأنَّ هذا شرب ماء وأنَّ هذا شرب خمر وهذا هو الذي يحركه نحو الإتيان بالفعل ، وهذا معناه أنَّ إرادة المكلف التكوينية تتعلق بما علم أنه شرب خمر ، بحيث يكون العلم بأنه شرب خمر هو تمام الموضوع لتلك الإرادة ، فإرادة المكلف التكوينية لا تتعلق بالخمر الواقعي وإنما بما علم أنه شرب خمر ، فهذا العلم هو الدخيل في الإرادة وهو المحرك للعبد نحو الإتيان بالفعل .
فالمقدمة الأولى تُريد أن تقول أنَّ تمام المؤثر في إرادة المكلف التكوينية هو العلم ، لإستحالة تحقق الإنبعاث والإنزجار عن الموجود الخارجي بدون العلم به ، فالعطشان لا يتحرك لشرب الماء مع عدم العلم به وإن كان موجوداً واقعاً ، وكذا العكس يتحرك لشرب الماء إذا علم بوجوده ولو لم يكن موجوداً واقعاً ، فما يوجب الحركة هو العلم وحضور صورة الشيء في الذهن من دون مدخلية للواقع فيها.
وهذه المقدمة تُثبت أنَّ إرادة المكلف التكوينية تتعلق بالفعل بعد العلم بأنه شِرب خمرٍ ، فيكون العلم بأنه شرب خمرٍ هو تمام الموضوع لهذه الإرادة ، فالمكلف يريد أن يشرب معلوم الخمرية.
المقدمة الثانية : أنَّ التكاليف إنما تتعلق بإرادة المكلف التكوينية لا بالفعل الخارجي ، ففي المثال تقول المقدمة أنَّ التكليف يمنع المكلف من إرادة شرب الخمر ، وحيث أنَّ المفروض في الخطاب الشرعي هو الخمر الواقعي وقلنا أنَّ إرادة المكلف التكوينية تتعلق بشرب معلوم الخمرية ، فالتكليف الشرعي يمنعه من إرادة شرب معلوم الخمرية ، فالتكليف يمنع المكلف من إرادة شرب معلوم الخمرية ، يمنعه من أن يريد الزنا المعلوم وهكذا فالتكليف يتعلق بإرادة المكلف لا بالفعل الخارجي لأنَّ التكليف يريد أن يصدر الفعل منه بالإرادة والإختيار لا بالإضطرار ، فالنهي مفاده منع المكلف من أن يُريد شرب معلوم الخمرية.
وبعبارة أخرى : إنَّ التكليف المولوي يتعلق بإرادة المكلف وإختياره ، لأن الإرادة التشريعية المتمثلة بالتكليف تتعلق بالفعل الصادر من المكلف عن إختيار وإرادة لا بالفعل الصادر عنه عن إضطرار ، فالمولى بتكليفه العبد يُريد تحريك العبد نحو الإختيار والإرادة ، فيريد منه أن يترك شرب الخمر بإرادته التكوينية ، فيكون متعلق التكليف في الحقيقة إرادة العبد للفعل لا نفس الفعل .
فإذا تمت هاتان المقدمتان يُقال في مقام تقريب الإستدلال :
أنَّ ما تتعلق به إرادة المكلف التكوينية هو شرب معلوم الخمرية ، لا أنها تتعلق بشرب الخمر الواقعي ، هذه المقدمة الأولى ، وإذا ضممنا إليها المقدمة الثانية التي تقول أنَّ التكليف المولوي _ وهو الإرادة التشريعية _ يتعلق بإرادة المكلف ، فسوف ينتج أنَّ التكليف يتعلق بما يعتقد ويعلم المكلف بأنَّه خمر ، فالتكليف ينهاه عن معلوم الخمرية ، ومن الواضح أنَّ مثل هذا التكليف كما يشمل حالات الإصابة _ المعصية _ يشمل حالات الخطأ _ التجري _ لأن المكلف في كلٍ منهما يعلم أنَّ هذا خمر ويريده بالإرادة التكوينية ، وبهذا يثبت إطلاق الخطابات الشرعية لحالة التجري وعدم إختصاصها بحالة المعصية .
هذا التقريب كما هو واضح يتوقف على هذين الأمرين ، الأول على إثبات إنَّ إرادة المكلف إنما تتعلق بما عُلِم أنه شِربُ خمر _ معلوم الخمرية _ ، والثاني أنَّ التكليف يتعلق بهذه الإرادة ، فإذا تَمّا تكون النتيجة هي أنَّ النهي يتعلق بالمنع من أن يُريد المكلف شرب معلوم الخمرية فيُمنع من هذه الإرادة ، ومن الواضح أنَّ هذه الإرادة لا تختص بالمعصية وتشمل حالة التجري ، لأن المكلف في كل منهما يريد شرب معلوم الخمرية ، والشارع ينهاه عن هذه الإرادة ، فيكون النهي الشرعي شاملاً لهما ، وهو المطلوب.
فيكون الفعل الـمُتجرى به كالفعل الذي يُعصى به كلاهما حرام ومنهي عنه.
ومنه يظهر انَّ ثبوت المقدمة الأولى لوحدها لا يكفي فحتى لو ثبتَ أنَّ الإرادة التكوينية للعبد تتعلق بشرب معلوم الخمرية ، لكن متعلق التكليف الشرعي ما هو ؟ فإذا منعنا المقدمة الثانية فلن يتعلق التكليف بإرادة العبد وإنما يتعلق بشرب الخمر الواقعي وهو يختص بصورة الإصابة _ المعصية _ ولا يشمل صورة عدم الإصابة.
كما أنَّ المقدمة الثانية من دون الأولى لا تنفع ، فلو فُرض أن التكليف الشرعي يتعلق بإرادة المكلف ، ولكن إذا منعنا المقدمة الأولى فهو يعني أنَّ إرادة المكلف تتعلق بشرب الخمر الواقعي لا بشرب معلوم الخمرية ، وهذا يعني الإختصاص بحالة المعصية وعدم الشمول لحالة التجري ، فالذي ينفع هو ضم المقدمة الأولى الى الثانية.
هذا هو التقريب الثاني لهذا الدليل لإثبات حرمة الفعل الـمُتَجرّى به .
وهناك عدة أجوبة على التقريب الثاني ، هناك جوابان للمحقق النائيني قده ناظران الى المقدمة الأولى _ وهي أنَّ إرادة المكلف التكوينية تتعلق بشرب مقطوع الخمرية لا الخمر الواقعي _ وللإختصار نذكر ما نراه تاماً من الجوابين ولا نذكر غير التام _ وهو الأول الذي عليه ملاحظات _ فنذكر الثاني التام منهما.
والجواب الثاني يقول : لو تنزلنا وسَلَّمنا أنَّ العلم هو تمام الموضوع لهذه الإرادة وأنه المحرك دون الواقع ، _ وهو غير مُسلَّم لأنه لا يمكن إنكار أنَّ العلم له دخل في إرادة العبد ولكن هذا ليس معناه أنَّ الواقع ليس دخيلاً ، بل الدخيل هو كل من العلم والواقع ، وذلك بأن يكون العلم طريقاً للواقع ، فالمحرك كلٌ من العلم والواقع ، المحرك هو الواقع المعلوم ، وعليه لا يتم هذا الدليل لأنَّ التكليف حتى لو تعلق بإرادة العبد فالواقع دخيل في التحريك فيختص بصورة المعصية ولا يشمل التجري لعدم الواقع في التجري وإن وجد العلم ، فإن كان العلم هو المحرك دون الواقع تم الإستدلال ، وإذا كان الدخيل هو كل من العلم والواقع فحينئذِ يختص الخطاب بخصوص العصيان ولا يشمل حالة التجري _ لكن هذا لا يعني أنَّ متعلق الإرادة مُقيد بالعلم بحيث يصح للمستدل أن يقول إنَّ إرادة المكلف التكوينية تتعلق بشرب مقطوع الخمرية بحيث يكون العلم قيداً في متعلق الإرادة ، فصحيح أنَّ العلم هو المحرِك لكنه لا يُبرر أن يكون العلم قيداً في متعلق الإرادة ، بحيث تكون الإرادة متعلقة بشرب معلوم الخمرية ، وذلك لأنَّ إنكشاف الواقع عند المكلف بالعلم يُعتبر داعٍ للحركة نحو الفعل _ شرب الخمر _ ولا يتحرك نحو شرب معلوم الخمرية ، فالقطع يدعو المكلف الى شربه من دون أن يُفرض أنَّ مُتعلق الإرادة مُقيد بالعلم .
ففي مثال عرفي آخر نقول: علمي بأنَّ زيداً عدو لي يدعوني للتحرك نحو إيذاءه ، لا أني أتحرك نحو إيذاءه المقيد بأن يكون عدواً لي ، العلم بوجود الخمر يكون داعياً نحو شربه وبإنكشاف الخلاف ينكشف تخلف الداعي ، فالعلم يكون بمثابة الداعي لإرادة هذا الفعل _ شرب الخمر _ فالعلم بأنَّ هذا شِرب خمرٍ يدعو للقيام بهذا الفعل لا أكثر ، ولا يكون العلم قيداً في متعلق الإرادة ، حتى يقول المستدل بأن إرادة العبد التكوينية تتعلق بشرب معلوم الخمرية ، فإذا التكليف الشرعي تعلقَ بإرادة المكلف سوف يُنتج أنَّ النهي تعلق بإرادة شرب معلوم الخمرية وهذا يشمل كُلاً من حالة العصيان والتجري ، هذا غير صحيح ، ما يُريده المكلف هو شرب الخمر والداعي له هو علمه بأنه شرب خمر ، فالعلم يكون من قبيل الداعي وتخلفه تخلف للداعي ، وبناءً على هذا تكون إرادة المكلف التكوينية متعلقة بشرب الخمر الواقعي لا بشرب معلوم الخمرية ، لأن العلم ليس قيداً في متعلق الإرادة بل هو داعِ ، وهو متقدم على الإرادة بوجوده العلمي ومتأخر عنها بوجوده الخارجي ، وكل داعٍ هكذا ، والعلل الغائية هكذا تكون متقدمة على المعلول بوجودها العلمي ومتأخرة عنه بوجودها الخارجي.