42/07/21
الموضوع: التَّجري / المقام الأول في أدلة الحرمة / الدليل الأول
قلنا أنَّ الكلام في التجري يقع في عِدة مقامات :
المقام الأول : في حرمة الفعل الـمُتَجرَّى به ، كما إذا شرب ما يعتقد أنَّه خمر وتبين أنه ليس خمراً ، فالكلام يقع في أنَّ هذا الفعل هل هو حرامٌ شرعاً كما لو تبيَّن أنه خمر في الواقع _الذي لا إشكال في حرمته _ أو لا ؟ هذا المقام الأول.
المقام الثاني : في قُبح الفعل الـمُتَجرَّى به عقلاً ، هل هو قبيح يحكم العقل بقبحه أو لا ؟
المقام الثالث : العقاب على التَّجري .
أما المقام الأول : اُستدل على الحرمة بعدة ادلة :
الدليل الأول : هو التسمك بإطلاق أدلة الأحكام الأولية ، مثل خطاب لا تشرب الخمر بدعوى أنَّ هذا الخطاب كما يشمل مقطوع الخمرية في حالة الإصابة مع كونه خمراً كذلك يشمل مقطوع الخمرية في حالة الخطأ وعدم الإصابة ، فإذا شرب ما يعتقد أنَّه خمر فمع الإصابة _ مع فرض كونه خمراً في الواقع _ فلا إشكال في أنَّ الخطاب يشمله ، لكن هذا الخطاب فيه إطلاق يشمل أيضاً مقطوع الخمرية مع عدم كونه كذلك _ إي مع الخطأ _ ، فما يقطع بكونه خمراً حرامٌ ، سواءً كان خمراً في الواقع أو لم يكن خمراً في الواقع ، وهو فرض التجري فالخطاب مطلق يشمل كلتا الحالتين ، هذا التقريب المبدئي لهذا الدليل .
قبل بيان وجوه تقريب هذا الدليل لابد من الإلتفات الى أنَّ هذا الدليل إنما يجري فيما إذا كان الخطأ في التطبيق كما في مثال شِرب ما يعتقد أنه خمر ، فهذا الدليل يجري فيه ، ولا يجري فيما إذا كان الخطأ في نفس الحكم الشرعي كما لو قطعَ بحرمة أكل لحم الأرنب فأكله بإعتقاد أنه حرام لكن تبيّن أنه حلال ، فهذا الدليل يجري في الأول دون الثاني ، أما أنَّه يجري في الأول فواضح بإعتبار وجود خطاب شرعي مفاده لا تشرب الخمر ولم يحصل فيه الخطأ ، وإشتباه المكلف في التطبيق ، بأن تخيل أنَّ هذا المائع خمر فشربه بإعتقاد أنه خمر فتنبين أنه ماء ، فهناك خطاب شرعي يُتمسك بإطلاقه.
وأما عدم جريانه في الثاني فلعدم وجود خطاب شرعي يُتمسك بإطلاقه في صورة الخطأ في الحكم الشرعي _ أي في الشبهة الحكمية _ ، فلا معنى لأن يقال هنا نتمسك بإطلاق الخطاب لشمول الحرمة للمقطوع بكونه حراماً سواءً أصاب الواقع أو لم يُصب الواقع _ حالتي المعصية التجري _ ، فالمفروض هنا هو عدم وجود خطاب شرعي.
إذن هذا الدليل يختص بما إذا كان الإشتباه والخطأ في التطبيق ولا يشمل الخطأ والإشتباه في نفس الحكم الشرعي ، وهذا الدليل له تقريبان :
التقريب الأول : وهو التقريب الأبسط والأخصر ، وهو أن يُقال إنَّ خطاب لا تشرب الخمر ، وإن كان له ظهور لا يمكن إنكاره في أنَّ موضوع الحرمة هو شرب الخمر الواقعي ، وإفتراض إنَّ الموضوع هو مقطوع الخمرية لا قرينة عليه ، لأنّ الدليل يقول لا تشرب الخمر فهو كسائر الأدلة يكون المراد منه هو الخمر الواقعي ، الخمر لغة موضوع للخمر الحقيقي ولم يوضع لما يُقطع بكونه خمراً ، كسائر الأشياء الأخرى ، فعندما تقول حنطة ، أو وطن ونحو ذلك يُراد بها الأمور الواقعية لا ما تقطع بكونه حنطةً أو وطناً ونحو ذلك ، إذن لا إشكال في أنَّ خطاب لا تشرب الخمر ظاهر في أنَّ موضوع الحكم هو الخمر الواقعي .
لكن يُدعى أنَّ هناك قرينة عقلية تقتضي أن يكون المراد في هذا الخطاب هو مقطوع الخمرية لا الخمر الواقعي ، هذه القرينة هي أنَّ عنوان شرب الخمر الواقعي لا يمكن أنَّ يكون متعلقاً للتكليف لأنه يستبطن في نفسه إفتراض المصادفة للواقع ، لوضوح أنَّ الشرب لا يكون شرباً للخمر الواقعي إلا إذا صادف قطعُ المكلف الواقعَ ، ففي فرض إصابة القطع للواقع يكون شربه شرباً للخمر الواقعي ، إذن شرب الخمر الواقعي يستبطن إفتراض المصادفة للواقع ، فحينئذِ يقال إن َّالمصادفة للواقع ليست أمرا ًإختيارياً للمكلف ، لأنَّ الخطأ والمصادفة ليست داخلة تحت الإختيار ، فما معنى إن يُقال إذا صادف قطعك الواقع كان متعلقاً للتحريم ! ويستحيل تعلق التكليف بما يستبطن أمراً خارجاً عن القدرة والإختيار ، لأنّ التكليف به يكون تكليفاً بغير المقدور ، فيكون محالاً بحكم العقل ، وهذه هي القرينة العقلية.
ومن هنا لابد من صرف الخطاب عن ظاهره والإلتزام بتعلق الحرمة بشرب مقطوع الخمرية لا بالخمر الواقعي لأنه لا يستبطن عنوان المصادفة للواقع وهو أمرٌ إختياري ، فما تقطع بأنه خمر حرام سواءً صادف الواقع كما هو الحال في المعصية أو لم يصادف الواقع كما هو الحال في التَّجرِّي ، فلا يُعقل تَعلُّق التكليف بشرب الخمر الواقعي لهذا المحذور ، فلابد من صرف الخطاب عن ظاهره والإلتزام بأنَّ التكليف والحرمة تتعلق بشرب مقطوع الخمرية ، هذا هو التقريب الأول.
وجوابه : أنَّ المصادفة للواقع ليست من قيود الواجب التي يتعلق بها التكليف وإنما هي من قيود الوجوب التي لا يتعلق بها التكليف ، وقد مر بنا في بعض المباحث الأصولية الفرق بين قيود الواجب وقيود الوجوب ، والتي يشملها التكليف ويتعلق بها هي قيود الواجب نظير الطهارة والإستقبال في الصلاة ، الذي يرجع الى أنَّ متعلق الوجوب هو حصة خاصة من الطبيعي ، فالوجوب لا يتعلق بطبيعي الصلاة وإنما يتعلق بالصلاة مع الطهارة والإستقبال وهكذا ، وهذه القيود يتعلق بها الوجوب ويُطلب من المكلف إيجادها فهو مسؤول عنها وهي تحت قدرته وداخلة تحت إختياره ، فيطلب منه تحقيق الطهارة حتى تكون صلاته صلاة عن طهارة ، ويطلب منه أن يستقبل القبلة في صلاته حتى كون صلاته الى الكعبة ، فهذه قيود للواجب يتعلق بها التكليف.
وهناك قيود من نوع آخر ، قيود للوجوب من قبيل الإستطاعة بالنسبة الى الحج والزوال بالنسبة الى الصلاة ومن قبيل النهي عن السفر _ كما في بعض الروايات _ إذا دخلَ شهر رمضان ، والإستطاعة ليست قيداً في الحج في الواجب وإنما هي قيد في الوجوب ، فوجوب الحج مشروطٌ بالإستطاعة ، لا أنَّ الحج عن إستطاعة يتعلق به الوجوب كما هو الحال في الصلاة مع الطهارة ، فالإستطاعة شرطٌ في الوجوب بحيث ينتفي الوجوب بإنتفائها ، وأما الطهارة فلا ينتفي الوجوب بإنتفائها بل يطلب من المكلف إيجادها لأنها قيد في الواجب ويتعلق بها التكليف ولا يدور الوجوب مدارها ، بخلاف وجوب الحج يدور مدار الإستطاعة ، فإذا وجِدت الإستطاعة يجب الحج وإذا لم توجد فلا يجب الحج ، هذه من قيود الوجوب ، ونحوها الزوال بالنسبة الى الصلاة ودخول شهر رمضان بالنسبة الى حرمة السفر _ إذا قلنا به _ ، وحيث أنَّ التكليف لا يتعلق بقيود الوجوب ولا يطلب من المكلف إيجادها فلا مانع أن تكون غير مقدورة له كما هو الحال بالنسبة الى الزوال أو دخول شهر رمضان ، فقيود الوجوب قد تكون مقدورة لكن لا يطلب منه تحقيقها وقد تكون غير مقدورة أساساً للمكلف ، ولا مانع من ذلك لأنَّ التكليف لا يتعلق بها حتى يقال أنه تكليف بغير المقدور ، بخلاف قيود الواجب فحيث يتعلق بها التكليف فلابد أن تكون مقدورة كالطهارة والإستقبال ونحو ذلك.
إذا إتضح هذا نأتي الى محل الكلام ، المصادفة للواقع التي قيل بأنَّ شرب الخمر الواقعي يستبطن إفتراض المصادفة ، فهل المصادفة للواقع من قيود الحرمة أو من قيود الحرام ، بمعنى هل هي من قيود التكليف أو من قيود متعلق التكليف ؟ التي عَبَّرنا عنها في الواجبات بقيود الوجوب وقيود الواجب ، ولكن لا خصوصية للوجوب كما هو واضح ، فالقيد تارة يكون قيداً في التكليف بحيث يدور التكليف مداره وجوداً وعدماً ، وأخرى يكون قيداً في متعلق التكليف ، فإذا كان التكليف هو الحرمة فالمصادفة للواقع هل هي قيدٌ في التكليف وحينئذٍ لا يتعلق التكليف بها لأنها غير مقدورة وخارجة عن الإختيار ، أم هي من قيود متعلق التكليف حتى يتعلق التكليف بها ؟
الصحيح في المقام وبه يكون الجواب عن هذا التقريب هو أنَّ المصادفة للواقع هي من قيود التكليف لا من قيود متعلق التكليف ، والسر في ذلك هو أنَّ الخمر الواقعي وقع موضوعاً في الخطاب الشرعي ، وسلمنا أنه يستلزم المصادفة وسلمنا أيضاً أنَّ المصادفة خارجة عن الإختيار ، لكن حيث أنه وقعَ موضوعاً في القضية فلابد أن يؤخذ مفروض الحصول والتَحقُق كما هو الحال في سائر موضوعات الأحكام الشرعية ، أي على تقدير أن يكون هذا الشرب شرباً للخمر الواقعي فهو حرام ، وإذا كان مفروض الحصول والتحقق فهذا يعني بعد فرض تحققه يثبت له الحكم ، وهذا يعني أنَّ التكليف لا يتعلق به لأنه اُخذ مفروض الحصول والتحقق قبل تحقق التكليف ، فعلى تقدير أن يكون هذا الشرب شرباً للخمر الواقعي المتوقف على المصادفة للواقع فشربه حرام ، فإذن الحرمة ثابتة بعد فرض تحقق أنَّ الشربَ شربٌ للخمر الواقعي ، وأن القطع مصادف للواقع ، إذن لا يعقل أن يكون التكليف متعلقاً به حتى يقال أنَّ التكليف به يكون تكليفاً بغير المقدور ومحال.
وهو من قبيل إذا كان هذا زيد فيجب إحترامه ، أو إذا كان القادم عالماً فيجب إحترامه والقيام له مثلاً ، هذا وجوب الإحترام في مرحلة متأخرة عن فرض الموضوع ، وفي محل الكلام إذا اُفترض الموضوع وفرض أنَّ هذا الشرب شربٌ للخمر الواقعي، يعني إذا صادف القطع الواقع _ ولا يكلفه بالمصادفة _ فيكون شرب الخمر حراماً ، وبهذا يثبت أن المصادفة للواقع وإن كانت مستبطنة في إفتراض شرب الخمر الواقعي لكنها من قيود التكليف ، وقيود التكليف لا ينبسط عليها التكليف ، فلا يتعلق بها التكليف حتى تقول هي خارجة عن القدرة فكيف يتعلق بها التكليف وأنَّ التكليف يكون تكليف بغير المقدور .
وعليه لا مانع من أن تكون غير مقدورة كما هو الحال في الزوال بالنسبة الى الصلاة والإستطاعة بالنسبة الى الحج ، ليكن الزوال غير مقدوراً لكنه من قيود التكليف فلا ينبسط عليها التكليف حتى تقول هي غير مقدورة ، ولا مشكلة في إفتراض أن َّشرب الخمر الواقعي يستبطن المصادفة للواقع ولا يلزم من ذلك محذور ،فإلى هنا ينبغي أن نحمل الدليل والخطاب على ظاهره ، إذن هذا التقريب الأول لهذا الدليل ليس تاماً.
التقريب الثاني لهذا الدليل هو ما قربه المحقق النائيني قده ، وكأنه لا يلتزم به ولكن قربه بوجه فني ، ويوجد إختلاف بين مُقرري بحث المحقق النائيني في كيفية تقريب هذا الدليل ، ونحن نعتمد على ما ذكره الشيخ الحُلي قده في تقريب هذا الدليل نقلاً عن استاذه.