الأستاذ الشيخ هادي آل راضي

بحث الأصول

42/07/18

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع: الأصول / التَّجَرِّي / تنبيهات

ذكرنا في الدرس السابق أنَّ الآيتين اللتين ذكرناهما والتي قلنا أنا نستأنس بهما لصحة القول بقاعدة قبح العقاب بلا بيان ، وقلنا إنما إن لم تصلحا لإثبات القاعدة العقلية فهما تصلحان لإمضاء ما عليه العقلاء ، أي إمضاء البراءة في موارد إحتمال التكليف ، فلا إشكال في أنَّ سيرة العقلاء وبناءهم فيما بينهم قائمة على التمييز بين موارد العلم بالتكليف وموارد الشك فيه ، ففي موارد العلم بالتكليف يبنون على المنجزية وإستحقاق العقاب ، بينما يبنون في موارد الشك بالتكليف على المعذرية وعدم إستحقاق العقاب وأنَّ العقاب عند الشك في تكليف المولى العرفي قبيح ، وسيرتهم قائمة على ذلك ، فالآيتان إن لم تصلحا لإثبات البراءة العقلائية فهما صالحتان لإمضاء هذه السيرة العقلائية وما بنوا عليه .

فقد يقال هنا إنَّ ما يَثبُت بهذا الإمضاء هو البراءة الشرعية المستكشفة من إمضاء الشارع لبناء العقلاء ،كما هو الحال في سائر السِير العقلائية ، فيكون المستكشف من الآيتين هو البراءة الشرعية عند الشك في التكليف ، ولا تثبت البراءة العقلائية ، فما يَثبتُ بهما هو أن الشارع يرضى بأن يُتعامل مع تكاليفه المحتملة بما يتعامل العقلاء فيما بينهم مع تكاليف الموالي العرفيين عند الإحتمال ، وهذا يمكن أن يكون من باب التسامح والتساهل والتنازل من قِبل الشارع ، ولا يستكشف منه عدم الإستحقاق كما هو المقصود من إثبات البراءة العقلية ، فلعل الإستحقاق ثابت ولكن الشارع تسامح وتنازل ، فكأنه قال أنا اسمحُ بأن تجرون على هذه السيرة في التعامل مع تكاليفي ، فتبنون على البراءة عند الشك في تكليف من تكاليفي ، فلا يثبت بهذا الإمضاء البراءة العقلية وإنما يثبت به البراءة الشرعية ، وهذا لا ينفع لترجيح البراءة العقلية على مسلك حق الطاعة.

والجواب عنه : إنَّ الإمضاء المستفاد من الآيتين الشريفتين ليس للعمل الخارجي للعقلاء وإنما للنكتة والإرتكاز الذي إستند عليه العقلاء في هذا العمل الخارجي ، والنكتة التي بنى عليها العقلاء في سيرتهم على عدم الإعتناء بإحتمال التكليف هي عبارة عن عدم الإستحقاق ، فلأنهم يرون أن العبد إذا خالف التكليف المحتمل لمولاه العرفي مع الفحص وبذل الجهد وكان التكليف ثابتاً في الواقع لا يستحق العقاب ، هذه النكتة _ وهي عدم إستحقاق المخالف في موارد الشك في التكليف _ هي التي جعلتهم لا يعتنون بالتكليف ، والإمضاء يكون لهذه النكتة الإرتكازية .

والسر في هذا _ بمعنى ما هو الدليل على أنَّ الإمضاء لهذه النكتة _ هو أنّ لسان الآيتين لا يناسب التساهل والتسامح ، بل يناسب عدم الإستحقاق ، لأن لسانهما يختلف عن لسان البراءة الشرعية ، فإن لسانها هو رفع ما لا يعلمون مثلاً ، وهو يُناسب التسامح والتنازل ، وهذا لا يعني عدم الإستحقاق فلعله موجود _ كما يقول صاحب مسلك حق الطاعة _ ولكن الشارع تسامحَ من باب الرحمة وجعلَ البراءة الشرعية ، فلسان البراءة الشرعية يُناسب التسامح والتساهل ، أما نفي العقاب والمؤاخذة بلسان أنه ليس من شأنه وأنه لا يليق بساحته المقدسة فهو لا يناسب التسامح والتساهل وإنما يناسب نفي الإستحقاق .

الآيتان تنفيان إستحقاق العقاب ، فعندما يقال أنه يستفاد منهما الإمضاء فهو يعني أنَّ الإمضاء يكون للإرتكاز الذي إستند إليه العقلاء في عملهم الخارجي وهو عدم الإستحقاق في موارد الشك في التكليف ، فإذا كان الإمضاء كذلك فهذا يثبت أنَّ هذه النكتة واقعية وحقيقية وأنَّ الشارع المقدس أمضى هذه النكتة ، هذا غاية ما يمكن أنَّ يقال في محل الكلام ، وبه نختم الكلام عن هذا البحث الذي وعدناكم به وهو بيان ما هو الصحيح من هذين المسلكين.

    1. التَجَرِّي

التَجَرِّي كعنوان يُذكر في قِبال المعصية ، والمراد بالمعصية هو مخالفة التكليف مع ثبوته وعدم تبين الخلاف ، فعندما يشرب الخمر الواقعي عالماً بالحرمة فهذه معصية ، أو يأكل لحم الأرنب مع فرض حرمته فهذه معصية ، والتَجرِّي يُراد به إرتكاب ما يقطع المكلف بكونه معصية مع عدم كونه معصية ، كما إذا إعتقد أنه هذا خمر وشربه ثم تبين أنه ماء فهذا تَجرِّي ، وهناك أمور ننبه عليها قبل الخوض في أصل البحث ، لابد من ذكرها :

الأمر الأول : الظاهر أن الكلام في التجري لا يختص بالقطع بل يجري في جميع ما هو معتبر وحجة شرعاً ، كالأمارات والأصول العملية ، بل الظاهر أنه يعم لكل ما يكون منجزاً عقلاً ، فما يكون منجزاً بحكم العقل أيضاً يعمه بحث التجري ، من قبيل الإحتمال في موارد في موارد العلم الإجمالي ، أو الإحتمال في الشبهات الحكمية قبل الفحص ، أو الإحتمال في الشبهات الحكمية حتى بعد الفحص على مسلك حق الطاعة ، يجمع الكل مخالفة ما هو حجة ومنجز للتكليف ، والبحث يقع في أنَّ هذه المخالفة للتكليف الذي تنجز _ سواءً بالعلم أو بأمارة معتبرة أو بأصل عملي أو بحكم العقل _ مع عدم ثبوته في الواقع كما لو نجزت الأمارة حرمة شيء كأكل لحم الأرنب وأكله ثم تبين أنه ليس حراماً ولا تكليف في الواقع ، فهذه المخالفة _ ولنسمها المخالفة الإعتقادية _ هل هي بحكم المعصية فتترتب عليها جميع أحكام المعصية من الحرمة والقبح وإستحقاق العقاب ، أو انها تختلف عن المعصية الحقيقة ؟

الأمر الثاني : أنَّ الكلام في التجري يقع في صورتين ، فتارة يقع في الشبهة الموضوعية بأن يكون الخطأ في التطبيق لا في الحكم الشرعي ، كما إذا قطع بخمرية مائع فشربه فتبين أنه ماءً .

وأخرى يكون التجري متحققاً في الشبهة الحكمية بأن يكون الخطأ في الحكم لا في التطبيق ، كما إذا قطع بحرمة لحم الأرنب مثلاً فأكله ثم تبين أنه ليس حراماً ، فهذا تَجرِّي أيضاً ، فالكلام يقع في كلٍ منهما ، والجامع بينهما هو الإقدام على فعل ما يعتقد أنه حرام أو ترك ما يعتقد أنه واجب مع عدم كونه كذلك في الواقع.

الأمر الثالث : قد يقال بانَّ التجري لا يجري في موارد الأحكام الظاهرية _ في موارد الأمارات والأصول العملية _ بإعتبار أنَّ العصيان يتحقق بالنسبة الى الأحكام الظاهرية على كل حال ، فدائماً هناك معصية حقيقةً في مخالفة نفس التكليف الظاهري ولا يتحقق فيه التجري ، وذلك :

إنَّ الأحكام الظاهرية مجعولة في ظرف الجهل فإذا إنكشف الخلاف ترتفع ، بمعنى أنها تنتفي بإنتفاء موضوعها وهو الجهل ، فإذا إنكشف الخلاف تنتفي وترتفع ، لا أنه يتبين عدم وجود الحكم الظاهري ، بل هو موجود دائماً غاية الأمر أنَّ موضوعه الجهل ، وعند العلم يرتفع هذا الحكم الظاهري ، من قبيل إنقلاب الخمر خلاً فهو يوجب إرتفاع الحرمة بإعتبار تبدل الموضوع ، ولا يعني أن الحرمة ليست موجودة من البداية ، وعلى هذا يقال لا يُتصور إنكشاف الخلاف في الأحكام الظاهرية فلا معنى لأن يجري فيها بحث التجري ، بل المخالفة عصيانٌ دائماً ، ولنفترض أنَّ الأمارة قامت على حرمة أكل لحم الأرنب ، فهنا حكم واقعي وحكم ظاهري ، الحكم الظاهري هو المجعول من قبل الشارع في مورد الأمارة وهو وجوب متابعة الأمارة ، فالحرمة هنا حكم ظاهري مجعول في ظرف الشك ، فبنى المكلف عليها فتنجزت عليه الحرمة ، ثم خالف هذه الحرمة الظاهرية فأكل لحم الأرنب ، فعندما يتبين الخلاف _ أي يتبين أن أكل لحم الأرنب ليس حراماً في الواقع _ يكون تجرياً بالنسبة الى الواقع إذ لا حرمة من البداية فيتصور فيه التجري فيقال هذا خالفَ ما يقطع بكونه حراماً واقعاً مع عدم كونه كذلك ، ولكن مخالفته للحكم الظاهري المجعول في مورد الأمارة والبناء على أنَّ هذا حرام ، فعندما يخالفه المكلف لا يتبين عدم وجود الحكم الظاهري كما هو الحال في الحكم الواقعي ، لأنه خالف الحكم الظاهري المجعول من قبل الشارع وهو وجوب متابعة الأمارة وهذه معصية ، والحكم الظاهري موجود وعند إرتفاع الجهل يرتفع الحكم الظاهري بإرتفاع موضوعه ،كإنقلاب الخمر خلاً وصيرورة الحاضر مسافراً وهكذا ، فالحكم الظاهري موجود من البداية وقد خالفه فيكون معصية دائماً ، من هنا قد يقال إن التجري لا يجري في موارد الأحكام الظاهرية .

نعم يجري في القطع لأنه طريق صرف الى الواقع ولا حكم ظاهري في مورده ، فإذا قطع بحرمة أكل لحم الأرنب وخالف وأكله ثم تبين أن قطعه غير مصيب ولا توجد حرمة في الواقع فيقال هذا تجرى لأنه لم يرتكب معصية لأنه أكل ما هو حلال واقعاً بحسب الفرض ، فهنا يُعقل التجري ، بخلاف الأحكام الظاهرية.

فيصح القول أنه لا وجود للحكم الواقعي في مورد إنكشاف خطأ ما إعتقده المكلف ، ولا يصح ذلك في الحكم الظاهري لأنه موجود دائماً في مورده _ الأمارات والأصول _ ولا يتبين بأي حال من الأحوال عدم وجوده من البداية ، فلا يتصور فيه التجري وتكون المخالفة بالنسبة إليه عصياناً لا محالة.

والجواب عنه : هو انَّ هذا الكلام مبني على السببية التي تقول إنَّ قيام الأمارة وكذلك الأصول تكون سبباً لجعل حكم على طبقها ولا يتصور فيه إنكشاف الخلاف ، والشرط الأساسي في التجري هو إنكشاف الخلاف ، فإذا قلنا بالسببية فلا معنى للتجري ، ولكن هذا المبنى باطل ، وقد إتفق علماؤنا على عدم السببية في الأحكام الظاهرية وأنها مجعولة على نحو الطريقية ، بمعنى أنها ليست ناشئة من ملاكات في متعلقاتها وإنما تنشأ من نفس ملاكات الحكم الواقعي ، فهي طريق لتحصيل ملاك الحكم الواقعي ليس إلا ، ومن الواضح أنها إذا كانت مجرد طريق فيُتَصور فيها إنكشاف الخلاف ، وكل طريق يتصور فيه ذلك ، وحينئذِ يكون التجري فيه وارداَ ، بأن نقول هذا المكلف إذا قامت الأمارة عنده على حرمة أكل لحم الأرنب مثلاً وأكله ثم تبين أن ليس حراماً في الواقع فهذا يعني انَ الطريق أخطأ أيضاً ، وإذا تصورنا إنكشاف الخلاف فلا مانع من القول بجريان التجري في الأحكام الظاهرية .

فمن هنا يظهر أنَّ الصحيح هو جريان التجري في كل ما يكون منجزاَ للتكليف ، وإذا تمت هذه المقدمات فحينئذِ ندخل في أصل البحث .

والبحث في حرمة التجري يقع في عدة مقامات :

المقام الأول : في حرمة التجري شرعاً ، أي في حرمة الفعل الذي يَتَجرّى به المكلف ، فشرب ما يعتقد أنه خمر هل هو حرام حرمة شرعية ؟

المقام الثاني : في قبح الفعل الـمُتَجَرّى به عقلاً _ لا شرعاً _ .

المقام الثالث : في إستحقاق العقاب على التجري.