42/07/17
الموضوع / ما يتنجز بحكم العقل / المختار
تبين مما تقدم أن الإباحة وإن كانت إقتضائية لكنها لا تصلح لمزاحمة الوجوب الواقعي ، وبعبارة أخرى إن ملاك الإباحة الإقتضائية لا يزاحم ملاك الحكم الإلزامي إما لعدم جريان حق الطاعة في مورد إحتمال الإباحة لأنها ليس لها إطاعة وإمتثال ، بخلاف مورد إحتمال التكليف فإنَّ التكليف له طاعة وإمتثال فيجري فيه حق الطاعة فيقال أنَّ حق الطاعة للمولى في تكاليفه المحتملة ثابت كما هو ثابت في تكاليفه المعلومة ، وإما لأنَّ حكم العقل بالترخيص الذي ينافي حكم العقل بالتنجيز إنما هو مراعاة لحق العبد ، بينما حكم العقل بالتنجيز في مورد إحتمال التكليف هو مراعاة لحق المولى ، فهناك حكمان عقليان حكم للعقل بالتنجيز مراعاة للتكليف المحتمل وهو حكم يُراعي فيه العقل حق المولى فيحكم بالتنجيز ، وأما حكم العقل بالترخيص مراعاةً لملاك الإباحة هو في الحقيقة حكم لمراعاة حق العبد أنَّ المولى رخص للعبد في الفعل والترك إذن ثبت حق للعبد في أن يكون مطلق العنان ومراعاة لهذا الحق يحكم العقل بالترخيص ن فالتزاحم إذا كان موجوداً فهو بين حق المولى وحق العبد في الحقيقة ، وفي مثل ذلك يدرك العقل العملي أنه لابد من تقديم حق المولى على حق العبد ، فمن مجموع الملاحظات السابقة يتبين أنه لا تزاحم بين الوجوب الواقعي والإباحة الواقعية حتى لو كانت إقتضائية لا تزاحم بين الملاك الإلزامي لوجوب الواقعي وبين الملاك الترخيصي للإباحة الواقعية حتى إذا كانت إقتضائية ، وفي هذه الحالة يقدم الوجوب الواقعي وملاكه على الإباحة.
وبعد ذلك قد تذكر بعض النقوض على هذا الإيراد :
النقض الأول : ما إذا فرضنا أننا علمنا إجمالاً بوجوب أحد شيئين وإباحة الآخر بإباحة إقتضائية ، من دون تمييز الواجب عن المباح في هذه الحالة لا إشكال عند الجميع _ حتى القائل بقبح العقاب بلا بيان _ في لزوم الإحتياط في مثل هذا العلم الإجمالي ، بمعنى لزوم مراعاة الحكم الإلزامي المحتمل وهذا يستوجب الإحتياط في جميع أطراف هذه الشبهة ، فيُلزم المكلف عقلاً بالإتيان بهذين الفعلين وإن كان يعلم أنَّ احدهما مباحاً بإباحة إقتضائية حيث لا يميز المباح عن الواجب فيحكم العقل بالإحتياط مراعاةً لملاك الحكم الإلزامي ، مع أنه لا وجه لهذا الحكم العقلي بالإحتياط بناءً على هذا النمط من التفكير الذي ذُكر من الإيراد ،بإعتبار أنَّ ملاك الحكم الإلزامي مزاحم بملاك الحكم الترخيصي فكما أنَّ الوجوب محتمل فالإباحة الإقتضائية أيضاً محتملة ، كما أنَّ الوجوب ينشأ من ملاك ، كذلك الإباحة الإقتضائية تنشأ من ملاك يقتض الترخيص والإباحة ، وكما أنَّ حق الطاعة يجري في مورد إحتمال الوجوب يجري أيضاً في مورد إحتمال الإباحة ،وكما أنَّ حكم العقل في مورد إحتمال الوجوب يقتضي الحكم بالإحتياط فكذلك حق الطاعة في مورد إحتمال الإباحة يقتضي الحكم بالترخيص ، ولا موجب لترجيح هذا على هذا بعد تساويهما من جميع الجهات ، فلا وجه لتقديم ملاك الحكم الإلزامي على ملاك الحكم الترخيصي ، وبالتالي إلغاء الحكم بالترخيص وبالناء على حكم العقل بالإحتياط ، هذا يقول به حتى القائل بقبح العقاب بلا بيان ، ولذلك يكون نقضاً عليه.
هذا التسالم على لزوم الإحتياط الذي يعني تقديم ملاك الحكم الإلزامي على ملاك الحكم الترخيصي يكشف عن أنَّ ملاك الحكم الترخيصي لا يصلح لمزاحمة ملاك الحكم الإلزامي .
النقض الثاني : ما إذا فرضنا أن إحتمال الوجوب يستلزم ترك المباح _ ولنفترض أنه مباح بإباحة إقتضائية _ ، كالصلاة التي تستلزم ترك المشي مثلاً ، فإمتثال الحكم بوجوب الصلاة يستلزم ترك هذا المباح ، بمعنى إنَّ إمتثال الوجوب يستلزم قهراً ترك المشي ، فهذا الترك لا يصدر من المكلف بإختياره لأن إمتثال الوجوب بفعل الصلاة يستلزم ترك هذا المباح ، وفي هذا الحالة لا إشكال عندهم _ حتى القائل بقبح العقاب بلا بيان _ في وجوب الإتيان بالواجب فيجب على المكلف أن يصلي وإن إستلزمت الصلاة ترك المباح وإيقاع المكلف في الضيق من ناحية هذا المباح ، مع أنه لا وجه لهذا التقديم بناءً على الإيراد المتقدم.
ولو بدلنا الإباحة الإقتضائية بالحرمة الواقعية بأن فرضنا أنَّ إتيان الواجب يستلزم فعل الحرام ، أو الإتيان بالواجب يستلزم ترك واجبٍ آخر ، فهنا أدخلوا المورد في باب التزاحم ، ولم يقدموا الوجوب دائماً ، بل يقدمون الأهم وقد يكون ترك الحرام أهم من فعل الواجب فيقدمون الحرمة على الوجوب ، وبناءً على ما قيل في الإيراد لابد أن نتعامل في حالة ما إذا كان الإتيان بالواجب يستلزم مباح إباحة إقتضائية كما نتعامل مع فرض استلزام فعل الواجب لترك الحرام ، وذلك بأن نطبق قواعد باب التزاحم ونُقدم على أساس الأهمية ، لأن الإباحة هنا كالحرمة حكم شرعي ثابت فيه حق الطاعة !
هذا أيضاً يعتبر نقضاً على الإيراد الذي ذكر ، وهناك نقوض لا داعي لذكرها ترد على الإيراد المتقدم الذي أُرد به على مسلك حق الطاعة.
وهذه النقوض مؤشرات واضحة على أنَّ ملاك الحكم الإلزامي لا يُزاحم بملاك الإباحة حتى لو كانت إقتضائية ، ولذا تراهم يقدمون ملاك الوجوب على ملاك الإباحة الإقتضائية _ حتى القائل بقبح العقاب بلا بيان _ .
نكتفي بما ذكرناه من الإيرادات على قاعدة قبح العقاب بلا بيان وعلى مسلك حق الطاعة .
الظاهر أنه يتعذر إقامة برهان عقلي على أحد المسلكين ، والسر في هذا هو أنَّ المسألة وجدانية ليست برهانية ، فهل ندرك بوجداننا منجزية الإحتمال أو لا ندرك ذلك ، بوجداننا ماذا نُدرك أن مولانا له حق الطاعة في خصوص تكاليفه المعلومة والواصلة أو أنها أوسع من هذا فكما يشمل التكاليف المعلومة والواصلة فكذلك يشمل التكاليف المظنونة والمحتملة ؟
فحق الطاعة الذي يدركه العقل العملي هل هو وسيع يشمل التكاليف المحتملة أو لا ، هذا يحكم به الوجدان ، نعم إدُعيت براهين لإثبات قاعدة قبح العقاب بلا بيان ، أشار إليها الشيخ الأنصاري ونقحها المتأخرون عنه وأشاروا إليها ، إلا أنها جميعاً مردودة وأجاب عنها المتأخرون فلا تكون ثابتة ، ومن هنا يظهر أنَّ المسألة وجدانية ، فلكلٍ وجدانه ولا يصح مناقشة وجدان الآخر .
نعم أشرنا في بداية هذا البحث أنه يمكن الإستئناس ببعض الآيات الشريفة لإثبات قاعدة قبح العقاب بلا بيان ، وسنشير في ذيل هذا البحث الى أنَّ هذه الآيات إن لم تصلح على الإستدلال بها على قاعدة قبح العقاب بلا بيان كقاعدة عقلية فهي تصلح لإمضاء سيرة العقلاء على التميز بين التكاليف المعلومة والتكاليف المحتملة وأنهم يرون حسن العقاب على مخالفة التكليف المعلوم ويرون قبح العقاب على مخالفة التكليف المحتمل ، نذكر آيتين :
الآية الأولى : ﴿ وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِینَ حَتَّىٰ نَبۡعَثَ رَسُولاً ﴾ الإسراء :15
هذه الآية إستدل بها على البراءة الشرعية وكلامنا في البراءة العقلية ، نحن نرى أنَّ هذه الآية _ والله العالم _ أنها ناظرة الى البراءة العقلية ، والآية ظاهرة في نفي العذاب قبل بَعث الرسل ، والرسول يؤخذ كمثال للبيان ، فقبل البيان لا نعذب ، وبعده نُعذب ، لكن نفي العذاب وقع في الآية _ وهذه خصوصية في الآية _ بلسان أنَّ العذاب ليس من شأنه سبحانه ، ولسان أنه ولا يليق به سبحانه وتعالى كما يفهم من تعبير ﴿وَمَا كُنَّا﴾ أنه لا يليق بساحته المقدسة ، ومن الواضح أنَّ نفي العذاب بلسان انه ليس من شأنه يستلزم عدم الإستحقاق ، بدليل أنه لو كان العبد يستحق العذاب لكان العذاب مما يليق بساحته المقدسة ، وهذا يعني أنَّ المنفي في الآية هو إستحقاق العذاب لا العذاب وهذا هي النقطة المهمة ، ومن الواضح أنه مع عدم إستحقاق العذاب يكون العذاب قبيحاً لأنه عقاب من غير إستحقاق والعقل يحكم بقبحه ، وهذا هو معنى قاعدة قبح العقاب بلا بيان.
ومن هنا يُعلم الفرق بين نفي العذاب بلسان أنه ليس من شأنه وبين نفي العذاب لا بهذا اللسان ، وهذا الثاني من الواضح أنه لا يستلزم عدم الإستحقاق إذ يحتمل نفي العذاب من باب اللطف والرأفة ولا يعني أن العبد لا يستحق العذاب ، فإذن نفي العذاب لا يستلزم عدم الإستحقاق بينما نفي العذاب بلسان أنه ليس من شأنه يستلزم عدم الإستحقاق ، لأنه لو كان العبد يستحق العذاب يكون من شأنه سبحانه وإن عفى عنه.
الآية الثانية : ﴿رُّسُلاً مُّبَشِّرِینَ وَمُنذِرِینَ لِئَلَّا یَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى ٱللَّهِ حُجَّةُۢ بَعۡدَ ٱلرُّسُلِۚ وَكَانَ ٱللَّهُ عَزِیزًا حَكِیماً﴾ النساء : 165
هذه الآية ظاهرة في ان الهدف والغرض من إرسال الرسل مبشرين ومنذرين هو إتمام الحجة على الناس ، فبعد إرسال الرسل لا يكون للناس حجة على الله بل تكون لله على الناس ، ويفهم منها أن قبل إرسال الرسل تكون الحجة للناس على الله ،وإرسال الرسل مثال للبيان ، فقبل البيان الحجة للناس على الله وبعده الحجة لله على الناس ، بمعنى عندما يعاقبون الحجة تكون لله عليهم لأنهم يستحقون العقاب فتكون الحجة لله عليهم ، بينما قبل البيان وقبل إرسال الرسل مبشرين ومنذرين لا يستحقون العذاب ، فبإمكانهم أن يحتجوا قبل إرسال الرسل ويقولوا لِـمَ هذا العذاب نحن خالفانا التكليف من دون تقصير منا فتكون الحجة لهم على الله سبحانه وتعالى ، ولو كانوا يستحقون العذاب لكانت الحجة عليهم لا لهم والآية واضحة وتقول ﴿لِئَلَّا یَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى ٱللَّهِ حُجَّةُۢ﴾ وهو يساوق عدم إستحقاقهم للعذاب ، لأنهم لو كانوا يستحقون العذاب لما كانت لهم الحجة على الله بل كانت لله عليهم ، وهذا يعني أنه قبل البيان لا يوجد إستحقاق العذاب ، وهذا هو معنى قاعدة قبح العقاب بلا بيان.