الأستاذ الشيخ هادي آل راضي

بحث الأصول

42/07/16

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع / ما يَتنجز بحكم العقل / مسلك حق الطاعة / الملاحظات على الإعتراض الأول

الملاحظة الثالثة : لو تنزلنا عن الملاحظتين السابقتين _ بمعنى أنا سَلَّمنا وجود حق الطاعة في مورد إحتمال الإباحة الإقتضائية ، كما هو الحال في مورد الوجوب الواقعي ، وسَلَّمنا بأنَّ هذا الحق يستدعي حكم العقل بالترخيص والتعذير ، وأنه في مورد إحتمال الوجوب يستدعي حكم العقل بالتنجيز والإحتياط فيقع التنافي بين الحكمين العقليين لا بين الحقين _ فمع ذلك نقول :

أنّه في حالة من هذا القبيل كما يُقال لصاحب مسلك حق الطاعة أنَّ الحكم بالتنجيز والإحتياط في مورد الشك بالتكليف مراعاةً لملاك الحكم الإلزامي المحتمل _ على تقدير وجوده _ يكون ترجيحاً بلا مرجح ، كذلك نقول للقائل بقبح العقاب بلا بيان أنَّ الحكم بالترخيص مراعاةً لملاك الإباحة الإقتضائية المحتملة _على تقدير وجوده _ يكون ترجيحاً بلا مرجح ، فلماذا تحكم بالبراءة ؟!

بعبارة أخرى : أنَّ حكم العقل بالتنجيز إنما هو مراعاةً للحكم الإلزامي المحتمل ، وهذا الحكم بالتنجيز يستلزم فوات ملاك الإباحة الواقعية المحتملة ، كما أنَّ الحكم بالتعذير مراعاةً لملاك الإباحة الإقتضائية يستلزم فوات ملاك الحكم الإلزامي المحتمل ، وكما أنَّ الأول يكون ترجيحاً بلا مرجح كذلك الثاني ، فلماذا تحكم بالتعذير وبقبح العقاب بلا بيان ؟!

وبعبارة ثالثة : المفروض أننا وصلنا الى أن حق الطاعة يجري في مورد إحتمال التكليف ويستدعي حكم العقل بالتنجيز مراعاةً لملاك الحكم الإلزامي ، فكذلك يجري حق الطاعة في مورد إحتمال الإباحة ويستدعي حكم العقل بالترخيص ، وكما أنَّ الحكم بالتنجيز يستلزم فوات ملاك الإباحة الواقعية المحتملة ، كذلك الحكم بالترخيص يستلزم فوات ملاك الحكم الإلزامي الواقعي المحتمل ، وتقديم كلٌ منهما يكون ترجيحاً بلا مرجح !

فالملاكات واقعيةٌ ومحتملة في الجانبين ، نحتمل الوجوب ونحتمل الإباحة الإقتضائية ، والمفروض حق الطاعة يجري فيهما معاً ، ولا مرجح لأحدهما على الآخر.

فكما أنَّ القائل بمسلك بحق الطاعة يقول بالتنجيز والإحتياط في الشبهات البدوية يٌقال له هذا ترجيحٌ بلا مرجح ، ولماذا قدمتَ مراعاة ملاك الحكم الإلزامي الواقعي على مراعاة ملاك الإباحة الإقتضائية الواقعية ، فكذلك نقول لمن يلتزم بقبح العقاب بلا بيان أنَّ الحكم بالترخيص ترجيح بلا مرجح ، ولماذا تُقدم مراعاة ملاك الإباحة الإقتضائية الواقعية فتحكم بالترخيص مراعاة لملاك الحكم الزامي الواقعي الذي يقتضي الحكم بالتنجيز بحسب الفرض ، فكلٌ منهما ترجيحٌ بلا مرجح ، لا كما يتخيل هذا الـمُورِد أنَّ الإلتزام بالتنجيز بناءً على مسلك حق الطاعة هو ترجيح بلا مرجح ، بل كلٌ منهما ترجيح بلا مرجح ، وكل واحد منهما يكون منافياً لملاك الحكم الآخر المحتمل ومفوتاً له ، لأن الحكم بالتنجيز يوقع المكلف في الضيق ولا يطلق له العنان ويأمره بالإحتياط فهو يفوت ملاك الإباحة الواقعية المحتمل ، كما أنَّ الحكم بالترخيص وإطلاق العِنان يفوت ملاك الحكم الإلزامي الواقعي المحتمل ، إذن هما متساويان من هذه الجهة ، فكما نقول لصاحب مسلك حق الطاعة لماذا تقدم مراعاة ملاك الحكم الإلزامي الواقعي فكذلك نقول لمن يلتزم بالترخيص لماذا تقدم مراعاة الحكم الترخيصي الإقتضائي الواقعي ؟

الملاحظة الرابعة : في أصل هذا الإيراد إفترض في الشبهات البدوية _ تحريمية أو وجوبية _ أنَّ إحتمال التكليف يقابله إحتمال الإباحة ، وفُرِضَ أنها إباحة إقتضائية ، فإذا إحتملنا وجوب شيء فهنا إحتمالان ، إحتمال الوجوب الواقعي وإحتمال الإباحة الإقتضائية الواقعية ، فوَردت الشبهة بأن كلاهما حكمٌ واقعيٌ له ملاك وحق الطاعة جارٍ فيهما معاً ، وأنه في جانب الوجوب الواقعي يقتضي الحكم بالتنجيز فكذلك في جانب الترخيص الواقعي يقتضي الحكم بالتعذير والترخيص ، لكن الكلام في أنَّ الإحتمال المقابل لإحتمال التكليف في الشبهات البدوية هل هو إحتمال الإباحة الإقتضائية دائماً ؟

الظاهر أنَّ الذي يقابل الوجوب _ في الشبهة الوجوبية مثلاً _ هو إحتمال عدم الوجوب لا إحتمال الإباحة الإقتضائية ، وعدم الوجوب يتمثل في معظم الأحيان في الإباحة اللاإقتضائية ، بمعنى أنَّ المكلف في الشبهة الوجوبية يحتمل الوجوب ويحتمل عدم الوجوب ، وعدم الوجوب يعني إباحة لاإقتضائية والتي تعني عدم وجود ما يقتضي الإلزام بالفعل ، فإحتمال الوجوب يعني إحتمال وجود ما يقتضي الإلزام بالفعل ، ويقابله إحتمال عدم وجود شيء يقتضي الإلزام بالفعل ، ولا يقابله إحتمال وجود إباحة إقتضائية ، الإباحة الثابتة في قبال إحتمال الوجوب هي إباحة تنشأ من عدم وجود ما يقتضي الإلزام بالفعل ، وهي التي يُعبر عنها بالإباحة اللاإقتضائية أي عدم وجود ما يقتضي الإلزام بالفعل لا أنها تنشأ من وجود مصلحة في إطلاق العنان للمكلف في هذا الفعل ، وإنما يكون مباحاً لأنه ليس فيه ملاك الإلزام ، وهذا هو معنى الإباحة اللاإقتضائية.

والفرق بين الإباحة الإقتضائية والإباحة اللاإقتضائية هو أنَّ الإباحة الإقتضائية تنشأ من مصلحة في إطلاق العِنان للمكلف في هذا الفعل ، والإباحة اللاإقتضائية بمعنى أنَّ الفعل ليس فيه مِلاك الإلزام.

وفي الشبهات الوجوبية الإحتمال المقابل للوجوب هو إحتمال عدم الوجوب ، وهو يعني أن الفعل ليس فيه ملاك الوجوب ، فالإباحة لا تنشأ من مصلحة في إطلاق العِنان وإنما تنشأ من عدم وجود ملاك للوجوب ، وفي مثل هذه الحالة من الواضح جداً عدم تمامية هذا الإيراد ، لأنَّ العقل لا يحكم بالترخيص الظاهري للحفاظ على ملاك الإباحة _ على تقدير ثبوتها _ لأنها ليست حكماً شرعياً أصلاً بحيث يكون له مبادئ وملاك حتى يقال أنَّ حق الطاعة للمولى يستدعي حكم العقل بالترخيص الظاهري حفاظاً على تلك المبادئ وذلك الملاك ، لا معنى لذلك .

وهذا الإيراد إنما يكون له مورد إذا كان الإحتمال المقابل للوجوب هو إحتمال الإباحة الإقتضائية الناشئة من ملاكٍ ومبادئ تقتضي جعل الترخيص والإباحة ، وأما إذا كان المقابل لإحتمال التكليف هو إباحة لاإقتضائية فلا يحكم العقل بالترخيص إذ لا مبادئ لها أصلاً ، وإنما تكون بإعتبار عدم وجود ملاك الإلزام في الفعل لا غير فيكون مباحاً.

ومن هنا نقول في معظم الشبهات البدوية الإحتمال الآخر فيها _ في مقابل إحتمال الوجوب او الحرمة _ هو إحتمال الإباحة اللاإقتضائية ، مثلاً إذا شككنا في حرمة شرب الدخان ، فنحتمل حرمة الشرب ونحتمل عدم الحرمة ، وإحتمال عدم كونه حراماً يعني ليس في شرب الدخان ما يقتضي المنع ، ليس فيه ما يقتضي الإلزام بالترك ، وهو عبارة عن الإباحة اللاإقتضائية ، إذن في هذه الشبهة البدوية أحتملُ التكليف وأحتملُ عدم التكليف ، فيعني أحتملُ إباحة لاإقتضائية ، يعني أحتمل انَّ هذا الفعل ليس فيه ملاك يقتضي الإلزام بالترك فيكون مباحاً ، وهذه الإباحة لم تنشأ من ملاك في المتعلق وإنما نشأت من عدم وجود ملاك التحريم في المتعلق .

وهنا لا معنى لأن يقال أنَّ الإحتمال المقابل هو الإباحة الإقتضائية ، يعني إباحة ناشئةٍ من وجود ملاك في الفعل يقتضي إطلاق العنان للمكلف ، كما يقال ذلك في مسألة شراء الجبن من سوق المسلمين ، فإنه يلزم وقوع المكلفين في الضيق جداً فالشارع يُرخص لهم في أكل ما يشترونه من سوق المسلمين ، فهذا الترخيص إذا صدر من الشارع يكون ترخيصاً إقتضائياً ناشئاً من مصلحةٍ في تسهيل الأمر على المكلفين ، ولكن لا معنى لذلك في مسألة شرب الدخان ، لأنه يعني أنَّ هناك مصلحة في الفعل تقتضي الترخيص في فعله وعدم الإلزام بتركه ، وليس الأمر كذلك ، وإنما إباحة شرب الدخان تعني عدم وجود ملزم بالترك .

ونفس الكلام يقال في الشبهات الوجوبية ، كما إذا شككنا في وجوب رد السلام أو وجوب القيام للقادم إحتراماً له ، فنحتمل الوجوب ونحتمل عدم الوجوب ، بمعنى ليس في الفعل ملاكٌ يقتضي الإلزام به ، فيكون مباحاً ، وهذه الإباحة إباحة اللاإقتضائية تنشأ من عدم وجود ملاك مُلزم بالفعل فيكون مباحاً ، لا أنها تنشأ من وجود مصلحة في إطلاق العنان للمكلف.

ومن الواضح جداً في كل هذه الحالات لا مجال لهذا الإيراد ، وهي بحسب الظاهر تشمل أغلب موارد الشبهات البدوية ، فلا يوجد إلا حكم العقل بالتنجيز والإحتياط مراعاةً للتكليف المحتمل ، بإعتبار انَّ حق الطاعة لا يختص بخصوص تكاليف المولى المعلومة فهو كما يشملها كذلك يشمل تكاليفه المحتملة والمظنونة ، ولا يقابل حكم العقل بالتنجيز والإحتياط حكمٌ بالترخيص لأنها إباحة لاإقتضائية ولا ملاك لها حتى يحكم العقل بالترخيص مراعاةً لتلك المبادئ وذلك الملاك ، هذه هي الملاحظة الرابعة ، ونكتفي بهذا القدر من الملاحظات على الإيراد الأول على مسلك حق الطاعة.