42/07/14
الموضوع / ما يتنجز بحكم العقل / الإعتراضات على مسلك حق الطاعة / الإعتراض الأول
كان الكلام في الإيراد الثالث على قاعدة قبح العقاب بلا بيان ، وإنتهى الكلام فيه الى المؤاخذة الأخروية فهل يحكم العقل بقبح العقاب أي المؤاخذة الأخروية بلا بيان أو لا ؟
وذُكر هنا أنه لا طريق الى معرفة المِلاك في المؤاخذة الأخروية التي هي بمعنى المجازاة والإيعاد بالعقاب على المخالفة والتي هي عمل إرادي للمولى _ لا من باب تجسم الأعمال التي لا تتصف بالحسن والقبح _ فإنه أوعدَ عبيده بالعقاب على المخالفة ، فالعقاب في الآخرة هو عملٌ إرادي إختياري ولذا يتصف بالحسن والقبح ، بناءً على هذا يقول نحن لا نعرف ما هو الملاك في هذا العقاب ، بعد وضوح أنه لا يمكن أن يكون الملاك في العقاب الأخروي كالملاك في العقاب الدنيوي ، فالعقاب الدنيوي يمكن أن يكون ملاكه التشفي ، ويمكن أن يكون منع العبد من تكرار المعصية والعودة الى المخالفة ، أو تأديب الغير بذلك ، وكل هذا لا يمكن تصوره في العقاب الأخروي ، فلا يعقل فيه التشفي لأنه مستحيل بالنسبة الخالق ، كما أنه لا محل لفرض العقاب لكي لا يعود العبد الى المخالفة أو ليؤدب الآخرين بذلك فإن الآخرة ليست دار عمل وتكليف ، هي دار الجزاء ، فإذن لابد أن يكون هناك ملاك للعقاب الأخروي وهذا لا نعلمه ، فمن المحتمل أن يكون هذا الملاك ثابت في مورد المخالفة مع الشك ، فيكون العبد مستحقاً للعقاب ، وحينئذ لا مجال لأن يحكم العقل حكماً قطعياً بقبح العقاب من دون بيان بمعنى قبح العقاب الأخروي مع الشك والإحتمال .
ويلاحظ عليه :أولاً : بالنقض بمخالفة التكليف المعلوم ، فإذا كان التكليف واصلاً للعبد ويعلم بأنَّ الصلاة واجبة مثلاً فلا ينبغي التأمل بأن العقل يحكم بقبح هذه المخالفة لأنها تمردٌ على المولى وعصيانٌ له وخروج عن مراسم العبودية ، مع أنَّ ما ذكره في الإيراد في مخالفة التكليف المحتمل يجري في المقام أيضاً فيمكن أن نقول في مخالفة التكليف المعلوم أنَ ملاك العقاب الأخروي غير معلوم لنا ، ومع عدم العلم به لا يمكننا الجزم ثبوته ، بعد وضوح أنَّ مخالفة التكليف المعلوم يحكم العقل بقبحها ، فيمكن أن نقول كيف يحكم العقل بقبحها وإستحقاق العقاب مع أنه لا يعلم ما هو ملاك العقاب ، فمن أين يحكم العقل حكماً جزمياً قطعياً بقبح مخالفة التكليف المعلوم ؟!
فالحكم بقبح العقاب على مخالفة التكليف المحتمل أو الحكم بعدم قبحه _ بحسب المسلكين _ يمكن أن يكون مع عدم العلم بملاك العقاب الأخروي ، كما أنَّ الحكم بقبح العقاب على مخالفة التكليف المعلوم يتوقف على معرفة ما هو ملاك العقاب حتى يحكم العقل بتحققه وبالتالي بقبحه ، كذلك يتوقف الحكم بعدم قبح العقاب في مخالفة التكليف المعلوم على معرفة ما هو ملاك العقاب حتى يحكم بعدم تحققه وبعدم إستحقاق العقاب ولا يكون عقابه قبيحاً ، فمن أين عَلِم أنَّ ملاك العقاب متحقق فيه ؟ والحال أنه لا يُعلم ما هو ملاك العقاب الأخروي بحسب الفرض فكما يحكم العقل في مورد مخالفة التكليف المعلوم بإستحقاق العقاب من دون علمنا بملاك العقاب الأخروي فيمكن في محل الكلام أن يحكم بقبح العقاب على مخالفة من دون أن يُعلم بملاك العقاب الأخروي ، هذا نقضٌ ، فما يكون الجواب به هناك يكون الجواب به هنا .
مع وضوح أنَّ العقاب الأخروي إذا كان غير معلوم فهو غير معلوم النسبة الى جميع الموارد ولا يمكن التفريق بين مخالفة التكليف المحتمل ومخالفة التكليف المعلوم ، فإذا كان مِلاك العقاب الأخروي غير معلوم _ كما هو المدعى _ فهو غير معلوم في كلتا الحالتين ولا يمكن أن نجزم بتحققه في مورد ولا أن نجزم بعدم تحققه في مورد آخر.
نعم إذا أنكرنا حكم العقل بقبح مخالفة التكليف المعلوم حينئذٍ لا يرد هذا النقض ، ولكن هذا لا يمكن التفوه به ، فإذا أمكن الجزم بإستحقاق المخالف للتكليف المعلوم العقاب مع عدم العلم بملاك العقاب الأخروي فيمكن ذلك في محل الكلام بلا فرق.
ثانياً : نقول أنَّ مِلاك العقاب الأخروي _ لو سلمنا وقلنا أنه ليس معلوماً لنا _ نجزم بعدم تحققه في مخالفة التكليف المحتمل مع فرض الفحص وعدم العثور عليه ، أي شيء كان ذاك الملاك ، كما نجزم بعدم تحقق ملاك العقاب في موارد الجهل المركب مع عدم علمنا بالملاك ، ففي هذه الموارد إذا قطع العبد بعدم التكليف وكان ثابتاً في الواقع فلا إشكال أنَّ قطعه يعتبر عذراً عقلاً _ كما تقدم أن للقطع منجزية ومعذرية و المعذرية تتمثل في القطع بعد التكليف _ وكون القطع بعدم التكليف عذراً يعني الجزم بعدم العقاب ، وكيف يمكن الجمع بكون القطع بعدم التكليف عذراً مع إستحقاق العقاب على المخالفة ولو كان ثابتاً في الواقع !
وهذا يعني أن العقل يجزم بعدم إستحقاق العقاب والمفروض أننا لا نعلم ملاك العقاب الأخروي ، فبرغم من عدم علمنا به نجزم بعدم تحققه في مخالفة التكليف مع الجهل المركب به _ يعني مع القطع بعدمه _ ، بل فرض كون القطع بعدم التكليف عُذراً يقتضي هذا الشيء ، فمعنى العذر هو أنَّ العبد مأمون من ناحية العقاب ، ولا يستحق العقاب عقلاً _ لا أنه لا يُعاقب من باب اللطف _ معنى المعذرية أنَّ العقل يُدرك عدم إستحقاق العقاب ، وهذا يعني الجزم بعدم تحقق ملاك العقاب بالنسبة إليه ، وكيف نجزم بعدم تحقق ملاك العقاب مع عدم علمنا بهذا الملاك ؟ نفس الذي نقوله في الجهل المركب نقوله في محل الكلام ، فنقول أننا نجزم بعدم تحقق ملاك العقاب الأخروي في مخالفة التكليف المحتمل بالرغم من عدم العلم بملاك العقاب الأخروي .
والمقصود هو أنَّ عدم العلم بملاك العقاب الأخروي لا ينافي الجزم بعدم تحققه في بعض الموارد فيقال أنَّ ملاك العقاب أي شيء كان هو غير متحقق في هذه الموارد ، منها موارد الجهل المركب بالتكليف ، بل يمكن إسراء هذا الى جميع موارد المعذورية العقلية كالإضطرار والإلجاء والإكراه على وجه ، ففي جميع هذه الموارد العقل يحكم بقبح العقاب على المخالفة ، وهو يعني عدم وجود ملاك العقاب بالنسبة إليه ، مع عدم العلم بملاك العقاب الأخروي .
الظاهر أنَّ الصحيح هو أنَّ الجهل بملاك العقاب الأخروي لا ينافي الجزم بعدم تحققه في بعض الموارد ، والمثال الواضح لذلك صورة الجهل المركب ، فالمخالفة ثابتة فيها ولكن العقل يحكم بعدم إستحقاق العقاب بمعنى عدم تحقق ملاك العقاب الأخروي بالنسبة له فلا يستحق العقاب ، وما ذلك إلا لأن العقل يدرك عدم تحقق ملاك العقاب الأخروي بالنسبة الى المكلف أي شيء كان ذلك الملاك ، وهكذا في سائر موارد المعذورية كما إذا ألجأه الى الإفطار فخالف التكليف الواقعي فالعقل هنا يستقل بالمعذورية وعدم إستحقاق العقاب الأخروي على هذه المخالفة مع أننا لا نعلم ما هو ملاك العقاب الأخروي ، هذه هي الملاحظة الثانية على الإيراد الثالث .
هذه هي الإيرادات المهمة على قاعدة قبح العقاب بلا بيان وتبين أنها غير تامة لمنع هذه القاعدة ، وعُمدة هذه الإيرادات هو الأول وهو معارضة القاعدة بحكم العقل بوجب دفع الضرر المحتمل وقلنا لا معارضة في المقام لأن الحكم العقلي مورود أو محكوم لقاعدة قبح العقاب لا بيان لما قلناه من أن موضوع وجوب دفع الضرر المحتمل هو إحتمال الضرر وهو ينشأ من إحتمال التكليف ، وإحتمال التكليف هو موضوع قاعدة قبح العقاب بلا بيان ولذا قلنا في رتبة مضوع حكم العقل يتحقق موضوع القاعدة وتكون القاعدة جارية ، وبجريانها يرتفع موضوع الحكم العقلي ، لأن بجريان القاعدة ينتفي إحتمال الضرر _ وهو العقاب _ لأن القاعدة مؤمنة من ناحية الضرر والعقاب ، وهذا معناه أن القاعدة تكون حاكمة أو واردة على الحكم العقلي والسر هو هذا :
أن موضوع القاعدة هو إحتمال التكليف ، وإحتمال التكليف يكون سبباً لإحتمال الضرر ، وإحتمال الضرر هو موضع الحكم العقلي ، إذن في رُتبة الموضوع موضوع القاعدة تام لأن موضوعها إحتمال التكليف مع عدم البيان ، وهنا إحتمال التكليف موجود لأن إحتمال الضرر ينشأ من إحتمال التكليف ، وعدم البيان موجود أيضاً لأنَّه لا بيان لدينا إلا هذا الحكم العقلي _ الـمُراد جعله بياناً _ ونحن نقول أنه لا يصلح للبيانية لأنَّ في رتبة موضوعه موضوع القاعدة متحقق فتجري القاعدة وتكون رافعة لموضوع الحكم العقلي دون العكس .
هذه هي الإعتراضات التي إعترض بها على مسلك قبح العقاب بلا بيان ، بعد ذلك ندخل في الإعتراضات التي إعترض بها على مسلك حق الطاعة .
1. الإعتراضات على مسلك حق الطاعة
الإعتراض الأول : وخلاصته أنَّ الكلام في الشبهات البدوية _ أي غير المقرونة بالعلم الإجمالي أو الشبهة الحكمية قبل الفحص _ الشبهات البدوية عندما يحتمل المكلف التكليف كالوجوب مثلاً فمسلك حق الطاعة يقول لابد من مراعاة هذا الإحتمال لأنَّ حق الطاعة يقتضي ذلك ، بمعنى أن المولى ليس له حق الطاعة في تكاليفه المعلومة فقط وإنما له حق الطاعة في تكاليفه المعلومة والمحتملة ، فلزوم الإعتناء بإحتمال التكليف ينشأ من حق الطاعة .
والإعتراض يقول في الشبهات البدوية كما نحتمل التكليف _كالوجوب مثلاً _ نحتمل الإباحة في المقابل ، فالشبهة الوجوبية تقول هذا الشيء إما واجب أو ليس بواجب وهي الإباحة الواقعية لا ظاهرية ، وحق الطاعة ومولوية المولى موجود فيهما معاً ، فلماذا نُطبق حق الطاعة على إحتمالال التكليف ونترك تطبيقه على إحتمال الإباحة ؟ فإذا كان حق الطاعة للمولى ومولويته بملاكاتها _ من الخالقية والمنعمية ونحوها _ تقتضي إشتغال الذمة بتكاليف المولى والعمل بها فهي تستدعي ذلك أيضاً بالنسبة الى الإباحة بإعتبارها حكم من الأحكام الخمسة ، ومولوية ليست مختصة بالتكاليف الإلزامية ، فكما هو مولى بالنسبة الى التكاليف الإلزامية فكذلك هو مولى بالنسبة الى التكاليف الترخيصية ، فلماذا يقتضي حق الطاعة الإتيان بالتكليف المحتمل لأجل إحتمال الوجوب الواقعي ولا نقول ذلك بلحاظ الجانب الآخر وهو الإباحة الواقعية ؟
فكما أنَّ مقتضى مراعاة مولوية المولى في الواجبات الواقعية هو حكم العقل بالإلزام والإحتياط كذلك مراعاة مولوية المولى في المباحات الواقعية هو حكم العقل بالترخيص وإطلاق العنان ، فلماذا نقدم هذا على هذا ؟