الأستاذ الشيخ هادي آل راضي

بحث الأصول

42/07/11

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع / ما يَتنجز بحكم العقل / قاعدة قبح العقاب بلا بيان / الإيراد الثالث ومناقشته

الإيراد الثالث على قاعدة قبح العقاب بلا بيان هو ما نقل عن المرحوم المحقق السيد الروحاني في منتقى الأصول ، حيث ذهب الى إنكار قاعدة قُبح العقاب بلا بيان ، وقال في مقام الإستدلال على ذلك ما حاصلهُ :

أنَّ الكلام يقع في صحة العقاب على المخالفة عند الشك وإحتمال التكليف ، فقاعدة قبح العقاب بلا بيان تقول لا يصح العقاب بينما مسلك حق الطاعة يقول يصح العقاب ، وقال :

إنَّ هذا الكلام _ صحة العقاب مع الشك وإحتمال التكليف _ تارة يقع في صحة مؤاخذة وعقاب المولى العرفي عبده ، وأخرى يقع في صحة وعقاب المولى الشرعي لكنه في النشأة الدنيوية _ يعني صحة العقاب الدنيوي على المخالفة مع الشك والإحتمال _ وثالثة يقع في صحة العقاب الأخروي على المخالفة مع الشك والإحتمال .

ومحل كلامنا هو الثاني _ أي صحة عقاب المولى الحقيقي الشرعي _ وهو تارة يكون دنيوياً وأخرى أخروياً فنتكلم عنهما :

أما بالنسبة الى المؤاخذة والعقاب الدنيوي فذكَرَ أنه لا سيبل الى الجزم بالقبح بالنسبة الى المولى الحقيقي سبحانه وتعالى حتى تثبت قاعدة قُبح العقاب بلا بيان ، والوجه في ذلك :

إنَّ كثيراَ ما يتحقق الإيلام بالمرض ونحوه بالنسبة الى المطيع تمام الإطاعة فضلاً عن المخالف من دون أن يرى العقل القُبح فيه ، وذكرَ وجهاً لإثبات ذلك وهو أنَّ أساس الوجه الذي يُنفى به حكم العقل بالقُبح وهو أنَّ مدار حكم العقل بالقبح والحُسن هو على تحقق الظلم والعدل _ بعد إرجاع حُسن وقبح الأشياء الى مسألة حُسن العدل وقبح الظلم كما تقدم _ وأساس الظلم والعدل يرجع الى فرض حقوق وحدود بين الطرفين بحيث يكون تجاوزها ظلماً وعدم تجاوزها عدلاً ، وهذا إنما يُتصور بين المولى العرفي وعبده ، وأما بين المولى الحقيقي ومخلوقه وعبده فلا يُتصور أنَّ للعبد حقاً خاصاً على مولاه ، لأنه ملكه يتصرف به كما يشاء ، يُفقره ويمرضه ، سواءً مع علم العبد بمخالفة التكليف أو جهله بها ، بل مع إطاعته وخضوعه لأوامره ونواهيه ، ولا يتنافى ذلك مع حكم العقل.

فخلاصة ما يقوله هو أنَّ السر في القول بعدم المانع من أن ينزل العقاب الدنيوي بالعبد في محل الكلام ، بل حتى مع فرض كونه مطيعاً لأمر مولاه هو حُكم العقل بالقبح والحُسن ، هو مَنوطٌ بتحقق الظلم والعدل كما تقدم من وأنهما في الأفعال بتبع إنطباق عنواني الظلم والعدل على الفعل ، وأساس الظلم والعدل يبتني على فرض حقوق وحدود بين الطرفين ويكون تجاوزها ظلماً وقبيحاً وعدم تجاوزها يكون عدلاً وحسناً ، فأساسهُ قائم على إفتراض وجود حقوق وحدود للطرفين _ هذه النكتة مهمة _ وهذا المعنى لا يُتصور إلا بين المولى العرفي وعبده ، بين الوالد والولد ، فلكلِ طرفٍ حقوق وتجاوزها يُعتبر قبيحاً لأنه ظلم والعمل بها يُعتبر حسناً لأنه عدل ، وأما بين المولى الحقيقي وعبده الذي هو مخلوق له فلا يُتصور وجود حقوق للطرفين حتى تكون أساساً للظلم والعدل ، هذا لا يتصور بين المولى الحقيقي ومخلوقه إذ لا يتصور أنَّ للعبد حقاً على مولاه ، نعم يُتصور حق للمولى على عبده لكن لا يُتصور للعبد حق على مولاه لأنه ملك المولى يتصرف به كيف يشاء ، وعلى هذا الأساس نستطيع أن نقول لا قُبح على العذاب الدنيوي على مخالفة التكليف المحتمل ، بل لا قبح في العذاب الدنيوي حتى على الإطاعة لأنه تصرفٌ للخالق في مخلوقه ، للمالك في مملوكه ، ولا معنى لأن يُقال أنَّ هذا تجاوز لحقوق المولى لأن العبد ليس له حقوق على المولى ، هذا بالنسبة الى العقاب الدنيوي .

ويُلاحظ عليه :

أولاً : أنَّ حُكم العقل بالقبح والحُسن وإن كان تابعاً لتحقق الظلم والعدل لما تقدم سابقاً من أنَّ حُسن الأفعال وقبحها ليس ذاتياً فيها وإنما هو بإعتبار إنطباق عنوان العدل والظلم عليها ، والحُسن والقبح ذاتيان في عنواني العدل والظلم لا في الأفعال الخارجية ، هذا صحيح .

لكن اساس الظلم والعدل ليس فرض حقوق وحدود بين الطرفين حتى يُقال أنه غير متصور بين المولى الحقيقي ومخلوقه ، بل يكفي في تحقق الظلم والعدل وجود حقوق وحدود للمولى على عبده دون العكس ويكون تجاوز هذا الحد والحق ظلماً وسلباً لذي الحق حقه فيكون قبيحاً ، كما أنَّ عدم تجاوز هذه الحقوق والتقيد بها يكون عدلاً وإيصال الحق لصاحبه ، فبهذا يتحقق عنوان الظلم والعدل من أن يتوقف ذلك على فرض وجود حقوق للطرفين أو وجود حدود للطرفين كما ذَكَرَ .

ليس هناك إلا حقوق للمولى الحقيقي على مخلوقه ، فللمولى الحقيقي حقُ الطاعة على عبده ويمكن أن نتصور الظلم والعدل بالنسبة الى هذا الحق ومن هذا الطرف ، وذلك بأن نقول إن تجاوز هذا الحق يعتبر ظلماً وبالتالي يكون قبيحاً وعدم تجاوز هذا الحق والعمل به وأداء المولى حقه يعتبر عدلاً وبالتالي يكون حسناً ، لأن الظلم معناه سلب ذي الحق حقه ، والعدل بعكسه ، فإذا تجاوز العبد حق الطاعة يكون ظالماً وسالباً لذي الحق حقه وإذا لم يتجاوز حق الطاعة وعمل بما تقتضيه مراسيم العبودية لمولاه فحينئذِ يكون قد وضع الشي في نصابه وفي موضعه وهو معنى العدل فيكون حَسناً ، من دون إفتراض حقوق للطرفين.

ويشهد لهذا بوضوح أن مخالفة التكليف المعلوم قبيحةٌ بلا إشكال ، لأنها معصية واضحة ، كما لا إشكال في حُسن إمتثال التكليف المعلوم لأنه إطاعة للمولى وعدلٌ ووضعٌ للشيء في موضعه وأداء للمولى حقه ، من دون إفتراض حق للعبد على المولى ، وضوح هذا مؤشر واضح على عدم صحة ما ذَكره من أنَّ أساس الظلم والعدل يتوقف على إفتراض حقوق وحدود للطرفين ، وأنَّ هذا لا يُتصور بين المولى الحقيقي وبين عبده وإنما يتصور بين المولى العرفي وعبده ، هذا ليس واضحاً ولا نقبلُهُ.

وثانياً : أنَّ كلامنا في صحة المؤاخذة بالمرض ونحوه بعنوان المؤاخذة على التكليف المحتمل ، وبعنوان العقاب ، وحينئذٍ نقول بأنَّ المرض الذي كثيراً ما يُصيب المطيع فضلاً عن المخالف ليس بعنوان المؤاخذة والعقاب وإنما هو نتيجة لأسباب طبيعية تحصل فيمرض الانسان لا أنه عقاب له ، وليس كل مرض يكون بعنوان المؤاخذة والعقاب ، وفرقٌ بين مرض يصيب الإنسان نتيجةً لأسباب طبيعية ومرض يصيبه بعنوان المؤاخذة والعقاب بمعنى أنَّ الله أنزل به المرض عقاباً له على مخالفته ، هذا لا يمكن أن نقول أنه كثيراً ما يُصيب المطيعين ويصيب العاصين !

ثم على تقدير أن تكون هذه مؤاخذة وسلمنا هذه الدعوى نقول لعلها على مخالفة التكليف المعلوم ومحل الكلام مخالفة التكليف المحتمل ، كيف نُحدد أنَّ هذا المرض الذي نَزَلَ بزيدٍ مثلاً أنه بعنوان المؤاخذة على التكليف المحتمل ولعله على مخالفة التكليف المعلوم ؟

فإذن لا يصح أن يقال أنه لا جزم بقبح مؤاخذة العبد بالمرض على مخالفة التكليف المحتمل ويستدل على ذلك _كما تقدم في كلامه _ بأنَّ العبد كثيراً ما يُصاب بالمرض ونحوه وأنَّ هذا هو الدليل على أنه لا قبح في إنزال المرض بالعبد على مخالفة التكليف المحتمل ، هذا ما يرتبط بالعقاب الدنيوي ، الذي ليس هو محل الكلام ، وقاعدة قُبح العقاب بلا بيان ناظرة الى العقاب الأخروي .

وأما بالنسبة الى المؤاخذة والعقاب الأخروي فنقول إنَّ عقاب المولى الحقيقي لعبده على مخالفة تكليف يحتمله العبد مع فرض أنه فحص وبذل جهده للعثور عليه ولم يَعثر عليه وخالفه فهل يقبح عقابه الأخروي أو لا ؟ قاعدة قُبح العقاب بلا بيان تقول يقبح العقاب عليه ، وأصحاب مسلك حق الطاعة يقولون لا يقبح العقاب عليه.

وذكر أنَّ في العقاب الأخروي تفاسير منها أنه من باب تجسم أعمال الإنسان في الحياة الدنيا ، فإذا عمل أعمالاً سيئة تجسمت في عقارب وحيات تنهش الإنسان وتعذبه في الحياة الأخرى ، وليس هذا محال الكلام ، إذ لا معنى للقول بأنه قبيح أو غير قبيح لأنه ليس عملاً إختيارياً للمولى بل هو عمل الإنسان في الدنيا تجسد في الآخرة بهذا النحو ، والحسن والقبح مما تتصف به الأعمال الإختيارية ، وأما الإعمال غير الإختيارية فلا معنى لإتصافها بالحسن والقبح فكلامنا ليس فيه .

وإنما كلمنا في العقاب الأخروي وأنه من باب العمل الإختياري للمولى من باب المجازاة والإيعاد على المخالفة بالعذاب ، فيصدر منه كعمل إختياري يمكن أن يتصف بالحُسن والقبح ، فالكلام بناءً على هذا ، فإن كان كذلك يقول :

لا سبيل الحكم العقل على قبح العقاب على المخالفة في صورة الشك وعدم البيان ، لأننا لا نعلم المِلاك الذي لاحظه المولى عند الإيعاد بالعقاب ، فإنَّ المِلاك في العقاب الدنيوي يمكن معرفته ، وهو الردع عن المخالفة والعودة الى المعصية وهذا لا يتصور في دار الآخرة لأنها ليست بدار تكاليف وعمل أصلاً ، ولابد أن يكون للعقاب مِلاك إلا أننا لا نعرفه ومع عدم إمكان معرفته لا يمكن الجزم بثبوته في صورة دون أخرى ، فمن المحتمل جداً أن يكون ثابتاً في مورد المخالفة مع الشك ، وحينئذٍ لا يكون العقاب قبيحاً.