الأستاذ الشيخ هادي آل راضي

بحث الأصول

42/07/10

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع: ما يَتنجز بحكم العقل / قاعدة قبح العقاب بلا بيان / الإيراد الثاني ومناقشته

كان الكلام في الإيراد الثاني على قاعدة قبح العقاب بلا بيان وحاصله هو :

دعوى أنَّ الأصل الأولي يقتضي منجزية الإحتمال في جميع الموارد إلا إذا أحرزنا عدم وجود ما يمنع من صدور البيان من المولى وعدم وجود ما يمنع وصول البيان الى العبد ، في صورة إحراز عدم وجود المانع يكون الأصل هو عدم منجزية الإحتمال ، فإذن في جميع الموارد إحتمال التكليف يكون منجزاً ، وهذا هو معنى مَسلك حق الطاعة ، فقط في صور واحدة لا يكون الإحتمال منجزاً وهي إحراز عدم وجود ما يمنع المولى من صدور البيان أو احراز عدم ما يمنع وصول البيان الى العبد ، و أما في غير هذه الصورة كصورة إحراز وجود المانع أو إحتماله على الأقل _ المهم أن لا نحرز عدم وجود المانع _ يُبنى على منجزية الإحتمال .

وإستدل على ذلك بسيرة العقلاء فإنها منعقدة على الإتيان بمحتمل المطلوبية ، وترك محتمل المبغوضية للمولى ، بمعنى أنَّ سيرتهم منعقدة على منجزية الإحتمال وهو مسلك حق الطاعة ، وأستدل على عدم منجزية الإحتمال في الموارد التي ذكرها ، وهي موارد إحراز عدم وجود مانع لا من صدور البيان ولا من وصوله بسيرة العقلاء ، ويقول إستقرت سيرة العقلاء على عدم الإعتناء بالإحتمال في هذه الموارد .

وخلاصة ما يُفهم من كلامه أنَّ الإحتمال وحده لا يُنجز التكليف وإنما الذي ينجزه هو الإحتمال مع إحراز وجود ما يمنع من البيان أو ما يمنع من الوصول أو إحتمال ذلك ، في هذه الحالة يكون إحتمال التكليف مُنجِّزاً للتكليف وأما في غير هذه الصورة كما إذا أحرزنا عدم وجود ما يمنع من البيان أو عدم وجود ما يمنع وصول التكليف الى العبد ، في هذه الحالة لا يكون الإحتمال مَنجِّزاً للتكليف ، والعقلاء لا يعتنون بالإحتمال في هذه الحالة ، ولذا لو أراد المولى أن يعاقبهم على عدم الإعتناء بإحتمال المطلوبية أو عدم الإعتناء بإحتمال المبغوضية فحينئذِ يحتجون عليه بأنك لو أردتَ الإعتناء بهذا الإحتمال لكان عليك الإعلام والبيان والمفروض عدم المانع من البيان ولا من الوصول إلينا فلو أردتَ الإعتناء بالإحتمال لكان عليك الإعلام والردع عن هذه السيرة ، وحيث أنَّ المفروض عدم وصول البيان فيستكشف عدم صدور البيان من المولى ، ومن عدم صدور البيان _ يعني سكوته _ يستكشف إمضاؤه لما جرت عليه سيرة العقلاء من عدم الإعتناء بالإحتمال في موارد إحراز عدم وجود المانع من البيان ومن وصوله الى العبد.

فالمدعى هو منجزية الإحتمال في صورة إحراز وجود مانع من البيان أو إحراز وجود المانع من وصول البيان أو إحتمال ذلك الأقل ويجب الإعتناء به.

وعدم منجزية الإحتمال في صورة عدم وجود مانع من البيان أو من الوصول ، مع وجود الحُجة لهم على المولى ، ويكون العقاب قبيحاً في هذه الصورة.

 

ويلاحظ عليه :

أولاً : ينبغي الإلتفات الى أنَّ محل الكلام هو في تحديد القاعدة العقلية في موارد إحتمال التكليف ، وبعبارة أخرى أنَّ محل الكلام في أنَّ العقل العملي هل يحكم بمنجزية إحتمال التكليف أو لا يحكم بذلك ، بقطع النظر عن الأدلة الشرعية وأنها تقتضي البراءة أو تقتضي الإحتياط ، فماذا يُدرك العقل العملي وبماذا يحكم ؟

ومن الواضح أنه لا يمكن الإستدلال على تحديد القاعدة العقلية _ التي هي من مُدركات العقل العملي _ بسيرة العقلاء ، فلا يمكن القول أنَّ القاعدة العقلية هي قبح العقاب بلا بيان ونستدل على ذلك بجريان سيرة العقلاء على عدم الإعتناء بإحتمال التكليف ، أو نقول أنَّ القاعدة العقلية هي منجزية الإحتمال ونستدل على ذلك بسيرة العقلاء على الإعتناء بإحتمال التكليف ، هذا مشكل جداً ، وذلك بإعتبار أنَّ سيرة العقلاء لا تنشأ بالضرورة من نكات عَملية يُدركها العقل العملي ، سيرة العقلاء قد تنشأ من مصالح ومبررات يدركها العقلاء لحفظ نظامهم وتنظيم أمور معاشهم فيتبانون على شيءٍ معين لأنَّ به يحفظ نظامهم وتُنظم به أمورهم ، لا لكونه مما يحكم به العقل العملي حتى نستكشف من جريان هذه السيرة إنها نابعة من نكات عقلية صرفة من مدركات العقل العملي ، هناك فرقٌ بينهما ، نعم لا نُنكر أنَّ بعض السِّير العقلائية نشأت من نكات عقلائية ، ولكن ليس كل سيرة وبناء للعقلاء ينشأ من نكات عقلائية يدركها العقل العملي ، لأننا بالوجدان نجد أنَّ بعض البناءات والسِيَر العقلائية نشأت من مصالح ومن مبررات أدركها العقلاء لأجل نظم أمورهم ومعاشهم وأنَّ النظام يختل إذا لم يبنوا على هذا الشيء ، فيبنون عليه لأنَّ به حفظ النظام ، وليس معنى ذلك أن البناء على هذا الشيء كان بإعتبار وجود نكات عقلائية وأنه مما يدركه العقل العملي.

ومن هنا لا يمكن الإستدلال على تحديد القاعدة العقلية _ سواءً كانت قبح العقاب بلا بيان أو منجزية الإحتمال _ بالسيرة العقلائية ، ولذا ذكر صاحب الإيراد أنَّ العقلاء بَنوا عدم الإعتناء بالإحتمال في مورد واحد لأن الإعتناء بالإحتمال في جميع الموارد يلزم منه إختلال النظام ، فلأجل حفظ النظام وعدم إختلاله بَنوا على عدم الإعتناء بالإحتمال في مورد معين ، وهذا أحسن شاهد على أنَّ بناءات العقلاء وسيرهم لا تنشأ بالضرورة من نكات عقلية ، فقد ينشأ بناء من قبل العقلاء على عدم الإعتناء بالإحتمال _ أي على قبح العقاب بلا بيان _لأجل حفظ النظام لأنهم إذا بنوا على الإعتناء بإحتمال حتى في هذا المورد يلزم إختلال النظام .

ومن هنا نقول لا مجال للإستدلال على تحديد القاعدة العقلية بسيرة العقلاء وبناءاتهم .

كما أنه لا معنى لما ذكره من إستكشاف رضا الشارع بعدم الإعتناء بإحتمال التكليف في المورد الذي ذكره من عدم الردع لما قلناه من أنَّ الكلام ليس في تعيين الموقف الشرعي تجاه هذه الحالة وإنما الكلام في تحديد الموقف العقلي .

وثانياَ : انَّ هذا الكلام كله مَبني على تسليم إنعقاد سيرة العقلاء بالشكل الذي ذكره ، وخصوصاً فيما ذكره أولاً من إنعقادها على الإعتناء بالإحتمال ، إلا في المورد الذي إستثناه من منجزية الإحتمال .

أقول هذه دعوى وليست أمراً ثابتاً ومُسلَّماً على أنَّ سيرة العقلاء منعقدة على الإتيان بمحتمل المطلوبية وترك محتمل المبغوضية ، هذا أول الكلام ، لأنَّ الطرف المقابل يَدعي عكس ذلك ، فإنه يدعي عدم الإعتناء بإحتمال التكليف مع عدم البيان ، لأن كلام المعترض في المولويات العرفية ، يقول أنَّ العقلاء في أمورهم التكوينية يأتون بمحتمل النفع و يتركون محتمل الضرر فمن الأولى أن يلتزموا بذلك بالنسبة الى مواليهم فيأتون بما يُحتمل كونه مطلوباً للمولى ويتركون ما يحتمل كونه مبغوضاً له ، وإنعقدت سيرتهم على ذلك .

أقول هذا ليس بمُسَلَّم على الأقل في الموالي العرفيين ، فمن قال ان سيرة العقلاء إنعقدت على الإتيان بمحتمل المطلوبية ؟! خصوصاً بعد فرض الفحص وعدم وجدان ما يثبت المطلوبية أو المبغوضية ، هذا غير واضح !

بل يمكن إدعاء العكس وهو أن سيرة العقلاء إنعقدت على عدم الإعتناء بمجرد إحتمال المطلوبية في المولى العرفي ، فهل يٌلزم العبد بالإتيان به من قبل والعقلاء ويُلام إذا لم يأتِ ؟ هذا ليس واضحاً .

بل يظهر من السيد الشهيد _ الذي تبنى مسلك حق الطاعة _ الإعتراف بأنَّ العقلاء جَرت سيرتهم فيما بينهم وفي حدود المولويات العرفية على عدم منجزية الإحتمال ، غاية الأمر أنَّ الكلام ليس في المولويات العرفية وإنما في المولوية الذاتية الحقيقية لمولانا سبحانه وتعالى ، المالك والموجِد الحقيقي لنا وهي مولوية تختلف عن المولوية العرفية ، ويقول نهم إلتزموا بقبح العقاب بلا بيان من باب عدم التمييز بين المولويات العرفية و المولوية الشرعية الحقيقية وهي مولوية ذاتية و ليست جعلية ، بينما مولوية غيره مولوية جعلية مهما كانت ، حتى مولوية النبي _ صلى الله عليه وآله _ هي مولوية جعلية تتحدد بحدود الجعل ، والجعل هنا حددها بما إذا وصل البيان وأنَّ إحتمال التكليف غير مُنجِّز ولا مولوية فيه ، فهو يُسَلِّم أنه في المولوية العرفية لا بناء على مُنجّزية الإحتمال ولا لوم على العبد في حال ترك التكليف المحتمل ولم يمتثله ، فإذن دعوى أنّ السيرة منعقدة على الإعتناء بالإحتمال في حدود المولويات العرفية ليس واضحاً ولا مُسلَّماً ، إذن هذا هو الإيراد الثاني ، وقد بانَ أنه غير وارد على مسلك قبح العقاب بلا بيان.