الأستاذ الشيخ هادي آل راضي

بحث الأصول

42/07/09

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع: الأصول / ما يتنجز بحكم العقل / قاعدةُ قُبح العقاب بلا بيان

كان الكلام في الإيراد الأول على قاعدة قبح العقاب بلا بيان ، وحاصله :

أنَّ هذه القاعدة محكومةٌ بحكم العقل بوجوب دفع الضرر المحتمل ، وكيفية الحكومة تقدمت ونعيد بيانها:

هذه الحكومة مبنية على أن يكون البيان في قاعدة قبح العقاب بلا بيان هو مطلق البيان الذي يوجب منجزية التكليف ، فكل ما يوجب لزوم العمل بالتكليف المحتمل وإمتثاله يعتبرُ بياناً لذلك التكليف ، وليس المقصود من البيان في القاعدة هو البيان على ثبوت التكليف كتكليف شرعي ، بل كل ما يكون موجباً لتَنجيز ذلك التكليف وملزماً لإمثتاله يعتبر بياناً للتكليف ، ويَمنع من جريان القاعدة ، والقاعدة تقول يقبح العقاب إذا لم يكن هناك ما يوجب منجزية التكليف ، من دون فرق بين أن يكون ما يوجب التنجيز هو رواية تَدُل على ثبوت ذلك التكليف أو يكون الموجب لتنجيز التكليف هو حُكمُ العقل بضرورة إمتثال التكليف المحتمل ، وهذا الحكم العقلي _ وجوب دفع الضرر المحتمل _ يُلزم المكلف بإمتثال التكليف المحتمل ، إذن هذا التكليف المحتمل قامَ البيان على لزوم إمتثاله وعدم جواز ترك إمتثاله ، وحينئذٍ لا يقبح العقاب إذا خالف المكلف هذا التكليف لأنه تَنَجَّز عليه ، ويكونُ حُكمُ العقل بياناً ورافعاً لموضع القاعدة ، الإيراد مبني على هذه الدعوى .

من هنا يظهر انَّ هذا الحكم العقلي يكون حاكماً ورافعاً لموضوع القاعدة ، هذا هو الإيراد الأول ، وخلاصته أنَّ قاعدة قبح العقاب بلا بيان وإن كانت مُسلَّمة ولكنها محكومة بحكم العقل بوجوب دفع الضرر المحتمل .

وأيضاً نُنَبه على أنَّ المقصود بالضرر المحتمل هو العقاب المحتمل ، وهذا العقاب المحتمل يأتي من التكليف المحتمل ، ومحل الكلام هو إحتمال التكليف ، فإذا إحتمل المكلفُ التكليفَ فهل يكون التكليف منجزاً عليه أو لا ؟

إحتمال التكليف يساوق إحتمال العقاب على المخالفة ويساوق إحتمال لضرر ، والعقل يقول يجب دفع الضرر المحتمل ، وذلك بأن يُمتَثَل هذا التكليف ، فهذا الحكم العقلي يكون مُلزماً للمكلف بإمتثال التكليف ، لأنَّ هذا بيانٌ على التكليف فيرتفع موضع القاعدة ، هذا ما يمكن أن يبين به هذا الإيراد.

قلنا أنَّ هذا الإيراد أجيب عنه بأنه بلزوم الدور من جريان هذا الحكم العقلي وكونه بياناً رافعاً لموضوع قاعدة قبح العقاب بلا بيان ، وذلك بإعتبار أنَّ هذا الحكم العقلي بوجوب الدفع يتوقف على موضوعه وهو إحتمالُ الضرر ، وإحتمال الضرر يتوقف على عدم جريان قاعدة قُبح العقاب بلا بيان ، لأنه لو جَرت هذه القاعدة لما كان هناك إحتمالٌ للضرر ، لأنها تؤمِّن المكلف من ناحية الضرر ، فإنها تقول إنَّ العقاب بلا بيان مستحيل ، فعلى تقدير جريانها هي تؤمِّن المكلف من ناحية العقاب والضرر فلا يكون هناك إحتمال للضرر ، إذن إحتمال الضرر موقوف على عدم جريان القاعدة ، وعدم جريان القاعدة موقوف على جريان هذا الحكم العقلي.

فإذا جرى هذا الحكم العقلي بوجوب دفع الضرر المحتمل لا تجري القاعدة ، أما إذا لم يجرِ هذا الحكم العقلي فالقاعدة تجري ، فيلزم الدور ، لأن جريان هذه القاعدة موقوف على إحتمال الضرر ، إحتمال الضرر موقوف على عدم جريان قاعدة قبح العقاب لا بيان ، وعدم جريان قاعدة قبح العقاب بلا بيان موقوف على جريان هذا الحكم العقلي ، فبالنتيجة جريان الحكم العقلي موقوف على نفسه فيلزم الدور ، جريان الحكم العقلي على نحوٍ يكون بياناً رافعاً لموضوع قاعدة قبح العقاب بلا بيان يلزم منه الدور لأنه يكون موقوفاً على نفسه ، وهذا دورٌ محال .

وقلنا أنه اُشكل على هذا الجواب بأنه لماذا لا نعكس نقول أنَّ جريان قاعدة قبح العقاب بلا بيان يلزم منه الدور ، لأن جريان هذه القاعدة موقوف على عدم البيان لأنَّ موضوعها هو عدم البيان ، وعدم البيان موقوف على عدم جريان الحكم العقلي بوجوب دفع الضرر المحتمل ، لأنه لو جرى لكان بياناً _ بناءً على أنَّ البيان هو الأعم من الرواية أو الحكم العقلي _ ، فإذن القاعدة موقوفة على عدم البيان وعدم البيان موقوف على عدم جريان الحكم العقلي وعدم جريان هذا الحكم العقلي موقوف على جريان القاعدة ، لأن القاعدة إذا جرت إنتفى إحتمال الضرر ، وإذا إنتفى إحتمال للضرر فلا مجال للحكم العقلي لإرتفاع موضوعه ، إذن عدم جريان الحكم العقلي موقوف على جريان القاعدة فيلزم الدور ، وحاصله :

أن جريان قاعدة قبح العقاب بلا بيان موقوفة على عدم البيان وعدم البيان موقوف على عدم جريان الحكم العقلي بدفع الضرر المحتمل ، وعدم جريان الحكم العقلي موقوف على جريان قاعدة قبح العقاب بلا بيان ، فتوقف جريان القاعدة على نفسه ، وهذا ايضا دورٌ صريح محال .

والجواب عن هذا الدور الأخير هو أنَّ الحكم العقلي موضوعه هو إحتمال الضرر كما هو واضح ، فلابد من فرض وجود هذا الموضوع حتى يحكم العقل بوجوب الدفع ، وإحتمال الضرر في محل الكلام ينشأ من إحتمال التكليف لأنَّ المراد بالضرر العقاب ، وإحتمال العقوبة ينشأ من إحتمال تكليف المولى فهو يحتمل العقاب على تقدير المخالفة ، هذا موضوع حُكم العقل بوجوب دفع الضرر المحتمل.

وهذا يعني أنه في رُتبة موضوع هذا الحكم العقلي يوجد إحتمال التكليف ، لأن موضوع الحكم العقلي إحتمال الضرر ، وإحتمال الضرر ينشأ من إحتمال التكليف إذن في رتبة موضوع الحكم العقلي يوجد إحتمال التكليف.

أما قاعدة قبح العقاب بلا بيان فموضوعها هو إحتمال التكليف مع عدم البيان ، لأنها تجري إذ إحتمل المكلف التكليف ولا بيان عليه ، فالعقل يقول يقبح معاقبة هذا المكلف ، والذي نريد قوله هو في رتبة موضوع الحكم العقلي يتحقق موضوع قاعدة قبح العقاب بلا بيان ، موضوع الحكم العقلي وهو إحتمال الضرر وهو ينشأ ممن إحتمال التكليف فإذن فُرض في مرتبة موضع الحكم العقلي إحتمال التكليف .

وأيضاً نقول في هذه المرتبة لا يوجد بيان فيتحقق موضوع قاعدة قبح العقاب بلا بيان ، أما عدم البيان فلأن رتبتها في رتبة موضوع الحكم العقلي ، لأنه على تقدير أن يكون الحكم العقلي بياناً ، فالبيان هو نفس الحكم العقلي لا موضوعه ، البيان هو حكم العقل بوجوب دفع الضرر المحتمل ، أما في رتبة موضوع هذا الحكم العقلي الذي هو إحتمال الضرر وإحتمال التكليف فلم يتم البيان ، فبلحاظ المراتب يتحقق في رتبة موضوع الحكم العقلي _ وقبل رتبة الحكم _ موضوع قاعدة قبح العقاب بلا بيان ، فإذا تحقق موضوع القاعدة فتكون ثابتة ، وهذه القاعدة تؤمن من ناحية الضرر المحتمل وبعبارة أخرى هي ترفع موضوع الضرر المحتمل ، فتكون حاكمة ورافعة لموضع الحكم العقلي لا العكس ، لأن موضوع الحكم العقلي هو إحتمال الضرر والقاعدة تؤمن من ناحية هذا الإحتمال وتنفيه لأنها ثابتة في مرتبة موضوع هذا الحكم العقلي ، ولا يمكن أن نقول أنَّ الحكم العقلي يكون حاكماً ورافعاً لموضوع القاعدة ، لأنَّ الحكم العقلي إنما يكون بياناً _على تقدير تسليمه _ من جهة الحكم وبعد أن يتم موضوعه ويحكم العقل بوجوب دفعه فهذا يكون بياناً ، أما في رتبة موضوعه _ وهو إحتمال الضرر وإحتمال التكليف _ فيوجد مُؤمِّن من ناحية هذا الإحتمال يقول كلما إحتملتَ التكليف ولم يتم عليه البيان فيقبح العقاب عليه ، وهذا متحقق في رُتبة موضوع الحكم العقلي ، لأنَّ في رتبة الموضوع هناك إحتمال التكليف ولا بيان ، لأن البيان هو نفس الحكم العقلي لا لموضوعه ، فتجري القاعدة لتحقق موضوعها ، ومع جريانها _ بعد تحقق موضوعها _ ترفع موضوع حكم العقل بوجوب دفع الضرر المحتمل .

فالصحيح هو أنَّ القاعدة تكون حاكمة على الحكم العقلي ورافعة لموضوعه لا العكس ، ولا يلزم من ذلك الدور لأن القاعدة ثابتة في رتبة الموضوع العقلي ، وهذه القاعدة موضوعها عدم البيان ، وعدم البيان ثابت في رتبة موضوع الحكم العقلي ، وهذا ثابت بلا إشكال وفي هذه الرتبة لا يجري الحكم العقلي ولا يتوقف على شي ، والمفروض في هذه الرتبة يوجد إحتمال التكليف فيتحقق موضوع القاعدة فتجري وتؤمن من ناحية التكليف المحتمل ، وتكون رافعة لموضوع الحكم العقلي .

والحاصل : أنَّ إحتمال التكليف يتحقق في رتبة موضوع الحكم بوجوب الدفع وفي هذه الرتبة لا بيان لأنه في هذه الرتبة لا حكم عقلي حتى يكون بياناً ، وعليه يتحقق موضوع القاعدة _ إحتمال التكليف مع عدم البيان _ فيحكم العقل بقبح العقاب ومعه لا مجال لإحتمال الضرر لأنَّ المراد به هنا إحتمال العقوبة ، ومع جريان القاعدة لا إحتمال للعقوبة _ لأنها تقول العقاب محال قبيح _ فيرتفع موضوع الحكم العقلي ، فتكون القاعدة رافعة لموضوع الحكم العقلي لا العكس.

وهذا الجواب مبني على فرض وجود هذه القاعدة في مرتبة إحتمال الضرر ، وحينئذ قد يقال ما هو مورد الحكم العقلي بوجوب دفع الضرر المحتمل ومتى نتمسك به لإثبات منجزية الإحتمال ؟

الجواب هو ان مورده يتحقق إذا إفترضنا إحتمال التكليف مع وجود البيان ، لأن فرض وجود البيان يمنع من جريان قاعدة قبح العقاب بلا بيان ، فإذا لم تجرِ القاعدة فلا تكون رافعة لموضوع هذا الحكم العقلي ، فيتحقق موضوع الحكم العقلي وهو إحتمال الضرر ، فكلما كان هناك إحتمال الضرر مع البيان تحقق موضوع الحكم العقلي ، فيمكن تطبيقه فيما إذا إحتمل التكليف وقام البيان عليه ، فهنا لا تجري قاعدة قبح العقاب بلا بيان ، فحينئذ يمكن أن يقال كما أنَّ الرواية تثبت التكليف وتنجزه فكذلك حكم العقل بوجوب دفع الضرر المحتمل إذا لا مجال _ مع البيان _ لجريان القاعدة ورفع موضوع الحكم العقلي .

وأيضاً يمكن تطبيق الحكم العقلي في موارد العلم الإجمالي ، لأنَّ في موارده يعلم المكلف بوجوب أحد شيئين ، ففي كل طرف من أطراف العلم الإجمالي يوجد إحتمال التكليف ،كما إذا علم بوجوب إحدى الصلاتين في ظهر يوم الجمعة ، فكل طرف فيه إحتمال التكليف ، ومع وجود البيان على جنس الإلزام وهو وجوب أحدهما _ لا على خصوص الظهر ولا على خصوص الجمعة _ يمنع من جريان قاعدة قبح العقاب بلا بيان ، فيمكن التمسك بالحكم العقلي وهو وجوب دفع الضرر المحتمل ، ولما كان الضرر المحتمل موجودٌ في الطرفين فيجب الإحتياط والإتيان بالطرفين لدفع الضرر المحتمل ، هذه هي موارد تطبيق الحكم العقلي ، لكن محل الكلام في الشبهات البدوية ، ولا يجري هذا الحكم العقلي وإنما يكون من موارد القاعدة قبح العقاب بلا بيان.

هذا الإيراد الأول على قاعدة قبح العقاب بلا بيان مع جوابه .

الإيراد الثاني أو ما ينمكن أن يجعل إيراداً وهو مستفاد من كلمات بعض المحققين ، وخلاصته :

إنَّ العقلاء بما هم عقلاء يأتون بمحتمل المطلوبية ويتركون محتمل المبغوضية في مقاصدهم وأغراضهم في جميع الموارد ، لأنَّ العقلاء ينبعثون ويرتدعون بإحتمال النفع و الضرر ، وإذا كان هذا حالهم في الأمور الراجعة إليهم ، فمن الأَولى أن يكون هذا حالهم وهذه سيرتهم في الأمور الراجعة الى مواليهم العرفيين ، فإذا إحتمل العبد أن هذا الشيء مطلوب لمولاه العرفي يأتي به ، وإذا إحتمل أنَّ هذا الشيء مبغوض لمولاه العرفي يتركه ، لأن العبد دائماً يُنزلُ نفسه منزلة المولى ويرى نفسه فانياً في مولاه فإذا إحتمل أنَّ هذا مطلوب للمولى فالعقلاء يلزمونه بالإتيان بمحتمل المطلوبية وترك محتمل المبغوضية للمولى ، وهذا يعني أنَّ إحتمال التكليف منجز للتكليف .

وهذا عبارة عن مسلك حق الطاعة ، ولكنه يقول :

لما كان الإعتناء بمجرد هذا الإحتمال يكون منجزاً لكل المحتملات فيودي الى إختلال النظام لم يلتزم العقلاء بالإحتمال في جميع الموارد وإنما فصلوا بين حالتين :

حالة ما إذا لم يكن هناك مانع يمنع المولى من البيان ولا ما يمنع من وصول البيان الى العبد فهنا بَنَوا على عدم الإعتناء بالإحتمال ، وبين غير هذه الحالة فإلتزموا بالإعتناء بالإحتمال ، فكأنهم فصلوا في سيرتهم فإعتنوا بالإحتمال في موارد ولم يعتنوا في موارد أخرى ، فكأنهم إلتزموا بمسلك حق الطاعة في موارد ، وبمضمون مسلك قبح العقاب بلا بيان في موارد أخرى ، وسيأتي إن شاء الله توضيح ذلك